امتنان الصمادي - العبور.. قصة قصيرة

وصلت الحافلة إلى الجسر والشمس تتأرجح بين الشروق والغروب، زمنان بعيدان في مكانين لا يربطهما سوى جسر خشبي لا يخلو من أزيز الزمن القادم عليه، نزلنا جماعات نتهادى وكلّ يبحث عن إبرته في كومة قش قديمة، كانت الشمس تحاول أن تطمس نور عيني فتحجبهما عن الحلم الذي علمتني إياه جدتي وهي تحكي لي ولأخوتي الصغار عن سر الزيتون المقدس المدفون خلف النهر ينتظر من يأتيه على جسر خشبي ليخرجه، نفضت رأسي بحركة سريعة مثل نمر غط في سبات وفجأة نهض يبحث عن فريسة دسمة…لألتحق بالمارين عبره.
سارت جموع طلبة الجامعة نحو الجسر وكل يحادث زميله بهمس، فهي زيارتهم الأولى لجسر المرتحلين بين الضفتين الشرقية والغربية، ولعل بعضهم يقول تلك هي أرضنا، ومتى ستعود حقوقنا المستلبة، ولعل آخرين يستعجلون الزمن فيقولون: في أي ساعة سنعود إلى منازلنا بعد عناء هذا اليوم المشمس الطويل، أو لعل الحقوق المستلبة ومنازل المرتحلين والممزقين الجديدة أضحت سواء ما دام الجسر موجودا .
بدأت خطواتي تتناقص شيئا فشيئا، وصرت أحبس أنفاسي كلما اقتربت من الجسر، ها هي الضفة الثانية، ارتفعت أصوات الهامسين ، بحثت عن الضفة بين عيونهم فلم أجدها، لكنها تراءت لي من خلال الأشجار التي تلف النهر، اتسعت خطواتي مع خفقات قلبي التي ترتفع وتهبط دونما ضابط، مع أنني كنت أراهن على قوتي قبل ذلك، إلا أن النبع جف في حلقي ، وعينيّ لا تسكنهما سوى صورة طفلة تبكي بلا صوت، وامرأة تلوذ بوجعها منذ زمن بعيد لكن بلا ألم .
لشد ما انتظرت هذه اللحظة بلهفة، وعند اللقاء جمدت الحياة في أطرافي وعجزت عن الكلام. ولم أشعر بمن حولي، تحجرت عيناي على أشخاص ظننتهم ثلاثة، كانوا يتماوجون بلباسهم العسكري، توقفت جموعنا على حافة الجسر وأخذت تتقاذف الأسئلة والأجوبة مع المسؤول المرافق لنا للحديث عن الجسر وأهمية بنائه ومستوى الخدمات التي تقدم للعابرين من خلاله ، لكن قدمي لم تتوقفا وظللت أسير وعيناي مصوبتان نحو الحافة الثانية للجسر، وإلى أولئك الذين لا يفتأون يبادلوننا النظرات نفسها ، ولم أصح من غفلتي إلا على يد زميلتي تشدني قائلة: عودي هذا هو الحد الفاصل بيننا وبينهم فلا تتجاوزيه، ولا ينقصنا أن تتسببي الآن بمشاكل للمسؤول فنحرم من العودة ثانية للنظر إلى عالم ما بعد الجسر ، حاولت الكلام بصعوبة لكن قوة يدها التي لم أعتدها من قبل ردتني عدة خطوات للوراء.
وبنظرة جنائزية التفت نحو جماعتي التي أخذت تلقي الشتائم على أولئك الثلاثة، فهي البلسم الشافي لمثل هذه الزيارات. وعندما انتهى المسؤول المرافق لنا من عرض ما لديه من معلومات عن الجسر وتاريخ بنائه والخدمات التي يقدمها لأشقائنا في الضفة الثانية ، قيل للجماعة استديروا فاستداروا، ثم سيروا باتجاه الحافلة فساروا طائعين خاشعين احتراما للمكان المقدس وحفاظا على طهره وجلاله.
بقيت واقفة حيث أنا ،عيناي ضاربتان باتجاه قرص الشمس الذي صار يترنح بين وريقات الشجر، وقدماي ثابتتان بحذائي الذي غرست كعبه بين فراغات الجسر الخشبي ولأول مرة أدركت كم هو مفيد كعب أحذية النساء العالي، لكن يد المسؤول استطالت نحوي معلنة العودة، فقد عطلنا الجسر على مرور المواطنين المثقلين بأكياس الهدايا والبخور والحالمين بيسر التنقل والعبور ، خرجت قدماي من الحذاء بسبب المباغتة، وإذ بالمسؤول يستحيل عملاقا أمامي، وعلى مدخل الجسر حملت حذائي تحت إبطي وسرت حافية بعد أن انخلعت من قلبي كل قصائد المجد السليب التي لف ضبابها عمري منذ أن ولدت حتى لحظة استقبالي للجسر.
أعلن المسؤول المرافق للجماعة بصوت انطلق بفرح بعد أن أنهى مهمته العصيبة في الشرح والتوضيح ، بأننا سنجلس ساعة للراحة والترفيه في ظلال الأشجار الجميلة، فتسابقت خطوات الجموع نحو شجرة السنديان الكبيرة ، تحلقوا حولها وهم يصدحون بحناجر منتفخة طربا يرددون كلمات لأغنية بدا أنهم يتقنون حركات مغنيتها الجميلة وموسيقا ملحنها أكثر من معرفتهم بالكلمات ما دامت الكلمات بلا معنى ، وبقيت أسير بين الأشجار، حتى ابتعدت كثيرا، ها هو الظلام بدأ يسدل ستائره على المكان، وصوت المغنين الجدد بدأ يغرق في الظلمة،علي أن أنتظر حلول الظلام بالكامل.. لم أعد أرى شيئا ، حتى حكايات العفاريت وشهب الجان اختفت من ذاكرتي، واستحالت أصوات الطلبة إلى نقيق ضفادع.. تقدمت نحو النهر، ولا أعرف سوى التقدم .. لقد وصلت حافته، خطوة خطوتان وإذا بجسمي يرتطم في مياه باردة مضى على ركودها زمن طويل، علت طشطشة الماء فأيقظت كشافات الحراس التي توجهت نحوي ، صوت جندي يتململ، ماذا هناك؟ أخذ يدير الكشاف بتثاقل، لا أستطيع السكون أكثر، وبحركة أخرى تحت الماء ازدادت الأصوات المتسائلة والكشافات الفاضحة، لكنني لن أتوقف، هذا ما حدثت به قدمي المتجمدتين… اجتزت النهر، وعلى الضفة الثانية بدأ الرصاص يفجر سكون الليل صرت أشعر بحرارة غامضة، تدفعني إلى الأمام كلما تذكرت حكايات جدتي عن الكنز المدفون خلف النهر وينتظر من يخرجه ، وما إن أمسكت يدي بسلك حديدي حتى انفجر الماء وبعثر جثتي في كل مكان، لكن يدي ظلت معلقة في هيئة غريبة لعلها تلوح للقادمين بعدي لعلها، ولعلهم ينتهون من غنائهم الذي لا يطرب سواهم.
ها هي الحافلة تنطلق بسرعة جنونية، ويدي تطل من نافذتها لتمسك بغصن شجرة السنديان الكبيرة، تنبهت لصوت زميلتي التي دفعتني بقوتها العجيبة عندما كنا على الجسر، تصرخ في وجهي وتحذرني من الأذى ، عجبت لأنها لم تتنبه أن يدي كانت كل الوقت تسابق تلك الأشجار التي تودع حافلتنا مسرعة عائدة إلى الجسر لعل جزءا مني يصل قبلها .



* نقلا عن ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى