حين غادر منزله صباح اليوم إلى المدرسة لم يكن المعلم أمين محمود قد تناول إفطاره ، لحقته زوجته قائلة :
ـ الدقيق كمل وكذلك الزيت والسكر
ــ ...
ـ اليوم سنأخذ من الجيران لكن ماذا عن غدا ؟
وأضافت :
ـ لو كنا حاسبنا الدكان كنا أخذنا ما نحتاج لكننا لم ندفع له ، وأنت ما جمعت من مبلغ دفعته لبائع القات .!
تنهد ثم مضى في طريقه .
المنظمة التي كانت تزودهم بسلة غذائية كل شهر صارت تأتي كل ثلاثة أشهر ، والراتب مقطوع منذ سنوات ، وليس له مصدر دخل آخر ، حتى شقيقه المغترب الذي كان يواسيه بمبالغ بسيطة قطعها بعد شجار نشب بين الأطفال ، كأنه كان ينتظر أتفه شيء ليقطع مساعدته .!
تكورت الغصة في حلقه ، أجتاحه شعور عارم بالحزن وصل حد رغبته بالبكاء ، لكنه تماسك ، ومع ذلك فقد سالت دموعه رغما عنه ، رفع يده إلى السماء :
ـ يارب
في طريقه كان التاجر عبده مسعود قد بدأ مع أولاده بتناول الإفطار جوار منزله وحين مر بهم أصروا عليه فتناول الإفطار معهم ثم ارتشف الشاي بالنعناع ، قال في نفسه : هذه بداية جيدة .
أثناء الحصة الأخيرة جاء الأستاذ عبد القادر وأخبره أن المغترب الثري حسن قاسم قد دعا أساتذة المدرسة للغداء والمقيل في منزله فقال في نفسه :
ـ الحمد لله فرجت .
في المقيل وبعد تناول الحلويات أعطاه حسن قاسم أربع حزم من القات الفاخر فأندفع يمضغه وقد نسى همومه ، تحدث معهم عن مختلف الأحداث والمستجدات في اليمن والعالم ، ولم يدر كيف تذكر أيام الدراسة الثانوية في مدينة إب بداية التسعينيات ، قال :
ـ تذكروا يا شباب أيام الدراسة في إب ؟
قاطعه الأستاذ عبد القادر :
ـ نعم نذكر لما فضحتنا بمركز الاتصالات .!
وأضاف :
ـ اتصلنا بعبد الله حمود للسعودية وناولناه يكلمه فخاف من الهاتف ، فلما ألححنا عليه وسمع صوته وتأكد منه أغلق السماعة في وجهه قائلا :
ـ قولوا له يخرج من خلف الجدار ويجي يجلس معنا ، لم يستوعب أن الصوت يصل للسعودية .!
وضج المجلس بالضحك .
قال الأستاذ حسن :
ـ نسيتم يوم وصل السكن وأراد النوم بالليل فقام ينفخ في قنديل الكهرباء كي ينطفئ ؟!
وضحكوا مجددا .
قال حسن قاسم :
ـ يعني عملت عجائب وغرائب في إب يا أستاذ أمين ؟!
أجاب الأستاذ عبد القادر :
ـ نوادره في إب تحتاج من يؤلف عنها كتاب من 600 صفحة .
ظلوا يتذكرون نوادره ويضحكون حتى أذن المغرب ، بعدها صلوا وبدأوا يغادرون المكان باستثناء الأستاذ أمين الذي أعجبه الجو وطاب له المكان فتناول العشاء مع حسن قاسم الذي قال له :
ـ سنسمر سويا وتحدثني عن قصصك المضحكة في إب
وظل يحدثه حتى انتصف الليل وهو يضحك ثم ألتفت إليه :
ـ أنا احدثك ونضحك ولكن في قلبي هموم لا يعلمها إلا الله
ـ خير يا أستاذ قل لي عن همومك أنا أخوك
تلعثم في كلامه ثم أجتاحه الحزن وبدأ يبوح :
ـ لنا أشهر بلا رواتب ، نفذت المواد الغذائية في منزلي ، اليوم غادرت منزلي دون أن أفطر ، صاحب الدكان لم يعد يعطني شيئا ، حتى أخي الذي كان يساعدني شهريا بمبلغ بسيط قطعه بعد تشاجر الأطفال .!
واساه حسن قاسم :
ـ لا تقلق يا أستاذ في الصباح سأرسل ولدي بكل ما تحتاج إليه من مواد غذائية ، نحن إخوة .
فاجأه موقفه فقال وقد ارتبك :
ـ لم أخبرك لتعطيني إنما فضفضت لك كأخ .
ـ لا عليك نحن إخوة وهذا واجبنا .
لشدة ارتباكه وإحراجه استأذن وغادر .
كان القمر يختفي خلف سحاب كثيف ، لكنه يعرف الطريق جيدا لكثرة ذهابه إلى المدرسة .
في الطريق أزهرت أحلامه وجعلته نشوة القات الفاخر يؤسس مشاريع كبيرة ويدير عقارات وشركات ، قال لنفسه :
ـ لو أن الأزمة تنتهي ونستلم رواتب كل هذه السنوات دفعة واحدة ، من المؤكد ستكون ملايين ، سأذهب إلى صنعاء وأشتري أرضية في أطراف المدينة وأبني فيلا هناك ، فيلا بحوش وبه بستان صغير ومسبح ، من المؤكد سيأتي مشتري ويدفع لي مئات الملايين وحينها سأبيعها وأنقل الأولاد إلى شقة للإيجار ، بعدها سأعمل في العقارات ، أشتري أراضي وأبني عليها فيلل وعمارات وأبيع .
تخيل نفسه في مكتبه الفخم وحوله العشرات من الموظفين وهو الآمر الناهي ، هذه هي الحياة وليس تدريس أطفال يوجعوا القلب وبلا رواتب .!
الليل يمضي بهدوء ، لا سيارة مرت في الطريق ، لا صوت طائر سمعه ولا نباح كلاب من بعيد ، فقط هو وحده يمضي في طريقه التي لم يعد يشعر بها ، لقد كان في عالم آخر ، يسبح في أحلامه وأمنياته ، يدير عقارات ومشاريع وشركات ، أبتكر طرقا جديدة للدعاية والإعلان ، نافس في السوق وتفوق على الخصوم ، جامل وأشترى الكبار حتى صار ملك العقار في اليمن .!
في البداية شعر بخدر في أقدامه ، كأنها تبللت لكنه لم يبال بها ، زاد الخدر وبدأت خطواته تتثاقل كأنه بدلا من السباحة في عالم العقارات والمال والأعمال يسبح في نهر .!
لقد تنبه فعلا أنه يمضي في نهر ، في وادي زبيد ، تلفت حوله ، تحسس الماء بيديه ، فعلا إنه في وسط مياه الوادي .!
قفل عائدا نحو منزله الذي لم يصله إلا مع طلوع الفجر ، وحين دخل غرفته ورأى أطفاله يغطون في نومهم أيق أنه قد غادر عالمه الجميل وعاد إلى الواقع .!
*****
ـ الدقيق كمل وكذلك الزيت والسكر
ــ ...
ـ اليوم سنأخذ من الجيران لكن ماذا عن غدا ؟
وأضافت :
ـ لو كنا حاسبنا الدكان كنا أخذنا ما نحتاج لكننا لم ندفع له ، وأنت ما جمعت من مبلغ دفعته لبائع القات .!
تنهد ثم مضى في طريقه .
المنظمة التي كانت تزودهم بسلة غذائية كل شهر صارت تأتي كل ثلاثة أشهر ، والراتب مقطوع منذ سنوات ، وليس له مصدر دخل آخر ، حتى شقيقه المغترب الذي كان يواسيه بمبالغ بسيطة قطعها بعد شجار نشب بين الأطفال ، كأنه كان ينتظر أتفه شيء ليقطع مساعدته .!
تكورت الغصة في حلقه ، أجتاحه شعور عارم بالحزن وصل حد رغبته بالبكاء ، لكنه تماسك ، ومع ذلك فقد سالت دموعه رغما عنه ، رفع يده إلى السماء :
ـ يارب
في طريقه كان التاجر عبده مسعود قد بدأ مع أولاده بتناول الإفطار جوار منزله وحين مر بهم أصروا عليه فتناول الإفطار معهم ثم ارتشف الشاي بالنعناع ، قال في نفسه : هذه بداية جيدة .
أثناء الحصة الأخيرة جاء الأستاذ عبد القادر وأخبره أن المغترب الثري حسن قاسم قد دعا أساتذة المدرسة للغداء والمقيل في منزله فقال في نفسه :
ـ الحمد لله فرجت .
في المقيل وبعد تناول الحلويات أعطاه حسن قاسم أربع حزم من القات الفاخر فأندفع يمضغه وقد نسى همومه ، تحدث معهم عن مختلف الأحداث والمستجدات في اليمن والعالم ، ولم يدر كيف تذكر أيام الدراسة الثانوية في مدينة إب بداية التسعينيات ، قال :
ـ تذكروا يا شباب أيام الدراسة في إب ؟
قاطعه الأستاذ عبد القادر :
ـ نعم نذكر لما فضحتنا بمركز الاتصالات .!
وأضاف :
ـ اتصلنا بعبد الله حمود للسعودية وناولناه يكلمه فخاف من الهاتف ، فلما ألححنا عليه وسمع صوته وتأكد منه أغلق السماعة في وجهه قائلا :
ـ قولوا له يخرج من خلف الجدار ويجي يجلس معنا ، لم يستوعب أن الصوت يصل للسعودية .!
وضج المجلس بالضحك .
قال الأستاذ حسن :
ـ نسيتم يوم وصل السكن وأراد النوم بالليل فقام ينفخ في قنديل الكهرباء كي ينطفئ ؟!
وضحكوا مجددا .
قال حسن قاسم :
ـ يعني عملت عجائب وغرائب في إب يا أستاذ أمين ؟!
أجاب الأستاذ عبد القادر :
ـ نوادره في إب تحتاج من يؤلف عنها كتاب من 600 صفحة .
ظلوا يتذكرون نوادره ويضحكون حتى أذن المغرب ، بعدها صلوا وبدأوا يغادرون المكان باستثناء الأستاذ أمين الذي أعجبه الجو وطاب له المكان فتناول العشاء مع حسن قاسم الذي قال له :
ـ سنسمر سويا وتحدثني عن قصصك المضحكة في إب
وظل يحدثه حتى انتصف الليل وهو يضحك ثم ألتفت إليه :
ـ أنا احدثك ونضحك ولكن في قلبي هموم لا يعلمها إلا الله
ـ خير يا أستاذ قل لي عن همومك أنا أخوك
تلعثم في كلامه ثم أجتاحه الحزن وبدأ يبوح :
ـ لنا أشهر بلا رواتب ، نفذت المواد الغذائية في منزلي ، اليوم غادرت منزلي دون أن أفطر ، صاحب الدكان لم يعد يعطني شيئا ، حتى أخي الذي كان يساعدني شهريا بمبلغ بسيط قطعه بعد تشاجر الأطفال .!
واساه حسن قاسم :
ـ لا تقلق يا أستاذ في الصباح سأرسل ولدي بكل ما تحتاج إليه من مواد غذائية ، نحن إخوة .
فاجأه موقفه فقال وقد ارتبك :
ـ لم أخبرك لتعطيني إنما فضفضت لك كأخ .
ـ لا عليك نحن إخوة وهذا واجبنا .
لشدة ارتباكه وإحراجه استأذن وغادر .
كان القمر يختفي خلف سحاب كثيف ، لكنه يعرف الطريق جيدا لكثرة ذهابه إلى المدرسة .
في الطريق أزهرت أحلامه وجعلته نشوة القات الفاخر يؤسس مشاريع كبيرة ويدير عقارات وشركات ، قال لنفسه :
ـ لو أن الأزمة تنتهي ونستلم رواتب كل هذه السنوات دفعة واحدة ، من المؤكد ستكون ملايين ، سأذهب إلى صنعاء وأشتري أرضية في أطراف المدينة وأبني فيلا هناك ، فيلا بحوش وبه بستان صغير ومسبح ، من المؤكد سيأتي مشتري ويدفع لي مئات الملايين وحينها سأبيعها وأنقل الأولاد إلى شقة للإيجار ، بعدها سأعمل في العقارات ، أشتري أراضي وأبني عليها فيلل وعمارات وأبيع .
تخيل نفسه في مكتبه الفخم وحوله العشرات من الموظفين وهو الآمر الناهي ، هذه هي الحياة وليس تدريس أطفال يوجعوا القلب وبلا رواتب .!
الليل يمضي بهدوء ، لا سيارة مرت في الطريق ، لا صوت طائر سمعه ولا نباح كلاب من بعيد ، فقط هو وحده يمضي في طريقه التي لم يعد يشعر بها ، لقد كان في عالم آخر ، يسبح في أحلامه وأمنياته ، يدير عقارات ومشاريع وشركات ، أبتكر طرقا جديدة للدعاية والإعلان ، نافس في السوق وتفوق على الخصوم ، جامل وأشترى الكبار حتى صار ملك العقار في اليمن .!
في البداية شعر بخدر في أقدامه ، كأنها تبللت لكنه لم يبال بها ، زاد الخدر وبدأت خطواته تتثاقل كأنه بدلا من السباحة في عالم العقارات والمال والأعمال يسبح في نهر .!
لقد تنبه فعلا أنه يمضي في نهر ، في وادي زبيد ، تلفت حوله ، تحسس الماء بيديه ، فعلا إنه في وسط مياه الوادي .!
قفل عائدا نحو منزله الذي لم يصله إلا مع طلوع الفجر ، وحين دخل غرفته ورأى أطفاله يغطون في نومهم أيق أنه قد غادر عالمه الجميل وعاد إلى الواقع .!
*****