مأمون أحمد مصطفى - لحن حزين

" يما ودعيني قبل ما امشي...
ولا تدري بعثراتي وانا امشي ".

أغنية طويلة كان والدي – رحمه الله – يشدو بها بين الحين والاخر، بنبرات مصدورة مجروحة، ولكني لسوء الحظ، لا اذكر منها إلا مطلعها هذا، لكنها كانت منذ بدايتها وحتى نهايتها تغرق في حزن عميق يسكن الكلمات ويفيض بشجن المعاني، وكان كل مقطع من مقاطعها يعود لصدر الأم التي نفقت في ذات اليوم الذي ولد فيه ابنها، في نفس اليوم الذي ولد فيه أبي.

وهذا ما دفعني للتفكر والتأمل بعلاقة الأم والولد، الأم التي غيبها الموت تحت التراب في ذات اللحظة التي خرج وليدها من بين حجب ظلمات ثلاث ليتنسم رائحة الحياة وعبق الوجود، ولكن، لم تكن كل التحاليل العقلية والذهنية قادرة على منحي نوعا من الاستقرار المعرفي الذي كنت انشده، فالعقل أحيانا يعجز وبصورة مطلقة عن صياغة تفاعلات وتناقضات النفس البشرية المعقدة التركيب والعصية على العلم المخبري الذي يستطيع أن يصوغ قواعد لمنطق التجربة المجردة.

اقتربت من والدي ذات يوم وسألته، كيف تغني لامك وأنت لم تراها، وحتى انك لم تلامس جسدها أو تتشرب من حنانها، هي ذهبت فور مجيئك، وليس هناك ما يربط بينك وبينها إلا لفظ الأم فقط؟

قال...

يابا، الأم ليست بالرؤيا، وليست باللمس، الأم في القلب، في الوجدان، في العمق، يابا، الأم هي الشكوى والأنين، هي الحزن والشجن، هي العذاب والألم، الأم يا ولدي جمل المحامل الحقيقي، أنا اسمي أحمد بن حسنه، وحين أوضع في القبر سيأتي الملكان ليقولا يا أحمد يا ابن حسنة، وحين ينادي علي الله يوم القيامة سينادي علي باسمي واسم أمي، أنا لا اعرف أمي، هذا صحيح، ولا اعرف ملامحها وهيئتها، ولكني اشعر حين يطبق الألم على قلبي بكل نواجذه وثقله، اشعر بانزياح لساني نحو لفظ الأم، وانجذاب قلبي نحو عاطفة خفية، مجهولة التكوين والملمس، مجهولة الدفق والنبع، تجتاحني، لتغرس بكياني نوعا من عاطفة مطمئنة، فيها عذوبة الندى، وصحو الرذاذ، فيها عبير الياسمين وسكينة الفل والنرجس.

هي الأم...تأتي رغم غيابها، رغم وجودها تحت ثقل الموت والتراب والزمن، رغم ولوجها عالم الصمت المتصل باللانهاية، باللامحدود، تأتي لتعزف ألحانها على روح ولدها المُعَنًى، الموغل بالألم منذ ميلاده، وحتى تنقضي الأنفاس الاخيره، تأتي لتمسح بقلبها النابض من خلف غلالات الموت تفطرا ولوعة وحنينا، على كل خفقة الم، أو نبضة خوف، أو زفرة حزن وكمد، آه يا ولدي، يا قطعة من كبدي، لو تعلم مقدار الشوق المتجدد الذي احمله بكياني لك ولأخوتك وأخواتك، فقط، لو كان بإمكانك أن تعلم حجم الفرحة التي تهز كياني حين أرى بسمتك على وجهك، وحجم النار التي تستعر بكياني حين تهمي دمعة حزن أو ألم من عينتيك الصغيرتين، لكنت عندها تملك مقدار حبة خردل، من شوق الأم وفرحتها وحزنها على أولادها.

أنا لم أشاهد أمي، ولكني استطيع أن أرى عينيها وهما تزخان اللحظة المرافقة للغرغرة بالرجاء والتوسل، بالألم الخارق للوجود كله، بالحسرة المعتصرة من وخزات الروح وهي تنسحب من الأعضاء، عضوا خلف عضو، لتستقر في نواة قلبي وبؤرة روحي، لتنمو وتكبر، مع نمو قلبي وتقدم أيام عمري، لتسكن فيها وتتوزع، تنتشر وتمتد، كلما انتشر جسدي وامتدت روحي، تلك النظرة المسكونة بالحب والعشق الأزلي، ما زالت تقفز أمامي، بصورة واضحة، من جوف الغيب، ومن أعماق الروح، لتستقر في مركز نظري، فتبدو أمي أمامي، وهي تهز الأرض من تحت القبر، هزات خفيفة، ناعمة، فأشعر باهتزاز مشاعري وأحاسيسي، تتناثر وتتساقط من كياني المبلل بالألم والحزن والقهر، ثم أشاهدها وهي تنعقد كموجة تستعد للتبخر، لتصبح غمامة حبلى، يهمي ما فيها بقلب أمي الراقد تحت التراب.

لحظتئذ أشعر بالفرحة تتشقق من قسماتها المرسومة بعقلي، كنت أعرف معرفة اليقين أنها تتألم، لكنه ألم مجلل ومكلل بالفرحة والسعادة، لأنها استطاعت أن تحمل عني حزنا، لو استمر بقلبي لأضناه وأهلكه، لكنه لا يستطيع أن يضني أو يهلك قلب أُمٍّ مزروع في جوف الأرض والموت.

وانهالت الدموع من عينيه الخضراوين، وبدأ يعتصر ألمه ليسكبه بجوفه، لكنه لم يستطع، فكادت روحه أن تتشردق، اقتربتُ منه، ولمستُ صَلْعَتَهُ النقية، وانخفضت نحو قدميه، ألثمهما بفمي ودموعي، لكنه رفعني، أوقفني قبالته، حدقت بعينيه من بين موج الدموع، فوجدت اللهفة تفيض كنهر بلوري، تعلو وتهبط، مع حركات القلب والنفس والدموع، غرقتُ بأعماق هلامية، شعرت بالدنيا تتساقط في جوفي قطعا من نار تُصْلِي ولا تحرق، لكنه انتشلني من قاع الذهول، حين سحبني إلى حضنه وطوقني بخفقات القلب ووَجِيبِ الروح.


مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج - 2006​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى