مارا أحمد - دعوني أحلّق

كان أبي غنيا؛ يحتكم على ثلاث ثروات لا يتنافس عليها معه أحد إلا غلبه: الجهل والفقر ومرض أصاب نفسه، أو قد يكون خللا أصاب خلايا عقله، عطب في النفس.

كان يداويه حكيم لم يتلق علما بل يمتلك موسا للحلاقة، وبروة صابون وعلبة من الألمونيوم يشمئز الحيوان أن يقرب منها فمه، ولكنه كان الطبيب الذي يعالج أبي إن أصابته نوبة شتات، شتات العقل وشتات القرار، أو كما يقول العلم: نوبة صرع.

لينتقل بعد فشل حكيم القرية إلى متخصص الشعوذة، وجالب الجن ومسخره لمداواة العصي من الأمراض؛ التي لم يُفهم أسبابها، ولم يختبر أهل القرية تلك الأعراض من قبل، فالكوليرا لها أعراض، والحصبة، وتعب المعدة، أو التهاب اللوزتين، أما أن تتحدث بلغة ليست متناولة بين الجيران ولا يفهم معناها، وأن يرتفع صوتك بنبوءات وصراخ وتحجر في العينين؛ فلا شك أنك ممسوس من الجن، وقد اتخذوا من جسدك بيتا ومن روحك مرتعا.

هكذا صاحب أبي رفقاء من عالم ما وراء الطبيعة، فكنا نحيا ما وراء الحياة.

عشت الصراع بين نفسي الموروثة من أبي، وأحاديث مع كائنات تخطت الحواجز واقتحمت عالم الإنسان، وتنافس بينهم لاستعمار جسدي وعقلي، وأحاديث أيضا تخطت طبقات الغلاف الجوي، وحاجز الجاذبية، لتتحول إلى أحاديث إلهية تم تأريخها في كتب سماوية، كانت الساحة ممهدة لأن تظل الحرب مشتعلة والضحايا أنا ونفسي وجسدي، كنت أرى وأسمع وأتحدث إلى تلك المخلوقات والتي أنكرها الجميع واتهموني بالجنون أو تلبس الجن لجسدي.

كيف أصف لهم ما أعيشه؟! كيف أحكي لهم ما يدور بيننا من لقاءات وحوارات ومناظرات فكرية؟! أنا أفهم لغتهم وأتواصل معهم بها، وأستوعب ما يرفضونه من عالمي، وبغضهم للإنسان الذي كان له الأفضلية عند الله فمنحه السلطة والحرية والعقل في الوقت الذي منع عنهم كل تلك العطايا لأكون أنا ضحية لذلك الصراع، وأعيش حياة مزدوجة؛ أتعامل مع البشر وأتحدث لغتهم ثم أنتقل إلى عالم آخر قيل إنه عالم سفلي، لأتحدث لغتهم وأحيا بينهم.

تمكنت من أن أتخلص من إرث أبي ونصيبه من الفقر، ثم قضيت على نصيبه من الجهل، ولكني لم أتمكن من أن أرمم إرثي منه ونصيبي من خلله النفسي وازدواجية الحياة،

لقد نجح أبي أن ينقلني إلى عالمه الشاذ دون وسيلة سفر، بل حلّقت معه من خلال "الجينوم" أو من خلال جينات ورثتها عنه. كنت أتشاجر مع السماء كثيرا وأحيانا أبكي وأتوسل إلى الله أن يوحد ذاتي ويخلق مني بشرا سويا بنفس إنسانية واحدة، أتعايش بلغة أهل الأرض وأتزوج منهم وأبني أسرة وأشيخ مع حبيبتي ويكون لي حقيبة مكدسة من الدهون أحملها فوق أمعائي تلك المسماة: "الكرش".

تمنيت أن أحيا بعقلي وجسدي، لكنه أرادها حياة مزدوجة أو نفسا منفصمة بين عالمين لا يتحدان: "سكيزوفرينك".

كونت ثروة بسيطة؛ أغنتني لوقت قصير عن الحاجة، ولكنها لم تميزني بين الناس؛ فمازال تاريخي الوراثي وغيابي وأنا بين الناس وارتفاع صوتي وحديثي مع مخلوقات أراها متجسدة أمام عيني، فيرتفع صوتي أحيانا، فيتعجب من حولي ويضربون كفا بكف، يصحبها: "لاحول ولا قوة إلا بالله" ربنا يشفيه ويرفع عنه.

أصحو فجأة وأصرخ فيهم؛ بأنهم هم المرضى وليس أنا، لكنهم يكسبون الجولة ويقر الطبيب النفسي بحكمهم، أن الخلل فيَّ أنا، أعيش أسابيع بأحد المصحات والتي لغمت معدتي بحبوب غيَّبت صحبتي من العالم الآخر، ولكنها جعلت من جسدي خرقة بالية، تسقط وتتمزق عند أي لمسة، أجلس وكل أعصابي مفككة لا قدرة لي على المقاومة أو حتى الوقوف في اتزان،

غاب من يتحدثون معي ومن يلهمونني الشعر والأدب والقصص التي نقدها المتخصصون بأنها كانت أحداثا غير مسبوقة وصورا مستقبلية كما أدب اللامعقول أو الخيال العلمي، لم يعوا أنني بالفعل أرى تلك العوالم، بل أعيش بين أهلها، وما فعلته ما هو إلا تسجيل لتلك الأحداث بلغتي التي منحتها لي تلك المخلوقات، عبقريتي التي وصفني بها النقاد، كانت مستقاة من هذا العالم الذي يتهمونني بأنني أختلقه، أكذب حين أقص معالمه.

لقد مزقوني، زادوا من تشتتي، كيف أكون عبقريا ومجنونا في نفس الوقت؟

هل ما كتبته كان أدبا غير مسبوق ونهضة أحدثتها في عالم الأدب والرواية والشعر أم جنونا أصابني؟

في لحظة رفض للازدواجية التي نعتوني بها، والازدواجية التي أعيشها، قررت الاستسلام لعلاج الأطباء، فانتهت موهبتي، وتوقف الإبداع عني لأهبط إلى عالم يقال إنه سوي، هبطت إلى الأرض، ولكني لم أستمتع لا بالحبوب، ولا بالبطالة التي أصابتني، بعد أن تلقيت العلاج ولم أتذوق الهبوط على الأرض؛ فلقد كنت أستمتع بالتحليق معهم، هناك، في ذلك العالم المختلف وحواراتنا الملهمة.

فكان لزاما أن أرفض الحبوب وأتوقف عن زيارة الأطباء النفسيين، فإذا بهم يعودون للظهور ويلحون عليّ أن ألحق بهم إلى عالمهم، فأنا لا أنتمي إلى الأرض، أقنعوني بأن أترك الأرض وألحق بهم، بأن أحلق خلال النافذة؛ فالموت لا قدرة له عليَّ، أنا كائن خارق للطبيعة بشهادة المبدعين والجاذبية لا تأثير لها على قدراتي؛ قفزة واحدة وألحق بهم.

أنا لم أنتحر.

يصل إلى أذني صرخات أمي، ثم ألم في ساقي وظهري، ثم تجمع من البشر حولي، يختفي الألم، ويغيب معه إحساسي بجسدي، أراني مسجى على الأرض وابتسامة ثبتت على شفاهي وأمي تبكي وتحتضن جسدي، وأهلي يبكون شبابي وذكائي وعمري القصير، أما أنا فلقد تمكنت من اجتياز الحواجز وصرت فردا أنضم إلى تلك الأفراد غير المعترف بوجودهم، غير المرئيين، حسمت أمر ازدواجيتي وخلافا على جنسيتي وهويتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى