منقول - الجماعات الفنية في العراق بعد الأربعينيات

كانت فترة الأربعينيات بالنسبة للفن العراقي المعاصر فترة تحول، وانطلاق. تحول عن المفاهيم الساذجة والأكاديمية نحو التجديد، والانطلاق عبر التقنية الحديثة. وقد مهد لذلك بشتى المنجزات التثقيفية لما قبل تلك الفترة، كإرسال البعثات الفنية للدراسة خارج العراق ]أكرم شكري، وفائق حسن منذ عام 1931، وجواد سليم في عام 1938،

ثم الآخرون بعدهم[، وإنجاز (المعرض الصناعي الزراعي) ، وكان من جملة محتوياته بعض اللوحات الفنية في عام 1931، ثم (معرض حافظ ألدروبي الشخصي) في نادي المعلمين عام 1936، وأخيراً تأسيس قسمي الرسم والنحت في (معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1936، وتأسيس (جمعية أصدقاء الفن عام 1941 بمبادرة من أكرم شكري وكريم مجيد وعطا صبري وشوكت سليمان .
وهكذا بدأت الحركة الفنية في العراق ترتبط شيئاً فشيئاً بالفكر العالمي عن طريق اهتمام الفنان العراقي بالأساليب الأوربية، وتقديس العمل الفني لذاته بعد أن كان وسيلة للتعبير عن الهواية الشخصية في رسم المظهر الخارجي للطبيعة. وكانت أول مبادرة لظهور فكرة الجماعة الفنية، وبصورة ضمنية، سابقة لأوانها على أساس الاهتمام بالاحتراف الفني وبالتالي الالتقاء في محترف واحد هي محاولة حافظ الدروبي لتأسيس مرسم عام 1942. ألا أن محاولته باءت بالفشل لعدم توفر المناخ النفسي المساعد على تقبلها، في حين ساهمت مجلة (الفكر الحديث) لصاحبها ورئيس تحريرها (جميل حمودي) بدورها عام 1946 في توعية الفنان والجمهور المثقف على السواء، فكان ذلك ممهداً لظهور الجماعة الفنية على أساس وحدة التفكير بالرؤية الحديثة في الفن فيما بعد. على أن ظهور الفنانين البولندين على مسرح الحركة الفنية في العراق ما بين عامي 1941 – 1942، وحماسهم المنقطع النظير للعمل الفني، ضرب المثل الأعلى لما يمكن أن يؤول إليه الفن وفي وقت كانت فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعي تعتمل وتحتدم، لكي تبلور وتصعد من أوار الالتزام الفني إلى جانب الالتزام العقائدي والسياسي في معترك الحياة العامة للشعب العراقي.
والواقع أن ظاهرة (الجماعة الفنية) كانت تبدو وقتئذ سابقة لأوانها شأنها شأن فكرة المرسم الشخصية، الذي غامر حافظ الدروبي في تجسيده كما مر بنا، لولا كيانها الاجتماعي الذي لم يكن يلزم الفنان بالعمل داخل المرسم في جو أكثر صرامة وضغطاً على حرية الفنان كما يجب، بل يحبذ الخروج إلى ضاحية المدينة وكانت تلك المرونة في العمل وحرية الالتزام غير المشروط بالتكاليف المادية الباهضة واعتبارات الاحتراف كفيلة باستمرارها وهكذا فأنها بمقدار ما كانت تبدو فيه صدى للتجمعات الفنية الأوربية (كجماعة الأنبياء) الفرنسية مثلاً في نهاية القرن التاسع عشر، كانت أيضاً ضرورة تاريخية اقتضاها نضوج الوعي الفني لدى الفنان العراقي إلى الحد الذي أخذ فيه يتحمس للمارسة الفنية، بصورة غير فردية، كما كانت ضرورة اجتماعية، وفكرية اقتضاها نمو الجمهور الحديث في مطلع نشأته، إذ هو يستكمل جميع إبعاد وجوده الإنساني. لقد كان ظهورها، إذن، يمثل ((اكتشاف الفنان لشكل العالم الجديد وهو اكتشاف جوهري كان يقف فيه وضع مواجهة للرسم الطبيعي الذي يشبه عقيدة مقدسة تحل في قلوب المتعلمين آنذاك))(2). على أن صميم هذا الاكتشاف لم يعد مجرد رد فعل سريع على ضيق أفق العمل الفني كوسيلة لمحاكاة العالم الظاهري مثلما ظهرت خلاله (جماعة الرواد) وهي أولى الجماعات الفنية في العراق، وكانت قد تأسست في 1950، بل تجاوزه إلى كونه اكتشافاً للمناخ الحضاري المحلى نفسه. كحافز وعامل مساعد للإبداع والتعبير الفنيين، وهو ما نادت به (جماعة بغداد للفن الحديث) منذ عام 1951.
لقد قطع الفنان العراقي إذن مسيرته متعثراً منذ بداية القرن الراهن، وطيلة الثلث الأول منه. ولم يكن في جميع ما قدمه كل من ((الحاج سليم وعثمان بك وناطق بك، وحسن سامي وعبد القادر الرسام وعاصم حافظ ومحمد صالح زكي)) (3)من الرعيل الأولى سوى صورة للتخلف الفني الذي كان العراق يعانيه وهو تحت وطأة الاستعمار الأجنبي، هذا على الرغم مما كانت تظهر به بعض أعمالهم من مظهر جيد، من حيث الصياغة الفنية، ألا أن وجودهم الفني لم يكن ليسير مواكباً للأحداث العالمية. فكانت أعمالهم لا تعدو أن تكون اتجاهاً ساذجاً في تطبيق مبدأ (واقعية مطابقة الطبيعة)، على الرغم من سلامة قابلياتهم من أجل اكتشاف الحقيقة عبر الانحياز التشكيلي (4) لقد كانت تأملاتهم فردية، اقتضتها طبيعة التقاليد المعروفة في الشرق الأوسط، من تحفظ وكبرياء إزاء الفنون التشكيلية كما ساعد على تشويهها الأسلوب المترف السائد في تقييم العمل الفني. فإذا لم يكن الفن التشكيلي ليصادف هوى لدى الجمهور غير المثقف، أو العريض فقد كان بالنسبة للأقلية المثقفة وسيلة للاستمتاع بمظهر الطبيعة المرسومة. لم تبرز إلى الوجود إذن في تلك الفترة أية جماعة فنية. وما أن تفاقم الوعي السياسي في فترة الأربعينات، وسبب ظروف الحرب العالمية الثانية وحتى ظهر دور الفنان المثقف الواعي لكي يعلن التزامه فكانت بذلك شكلاً معيناً من إشكال التجمع الفكري في
العراق، ولكن بالكيفية التي تتفق والعمل الفني، وفي ظروف أصبح الالتزام هو الشكل الملائم لطبيعة التطور الاجتماعي. وكانت الجماعة بالإضافة إلى ذلك ظاهرة محلية تجعل من الفن مجرد صياغة هي انعكاس صريح للقيم الإنسانية أو الاجتماعية للمجتمع. صحيح أن ثمة آراء كانت تبرر ظهور هذه الجماعة على أنها نتيجة ((رغبة أصدقاء يجمعهم حب الفن والموسيقى، الرسم، الطبيعة الخ ... في الوقت الذي كانت فيه بغداد تفتقر لهذا اللون من الناس)) (5)، وأن أخرى، أي جماعة بغداد للفن الحديث انبثقت بعد أن ((فكر جواد سليم بتكوين مجموعة ذات اتجاه فكري واحد تميز)) (6)ولكن الذي أراه هو أن الفنان العراقي وقتئذ لم يكن بمعزل عن المناخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيش بين ظهرانية، بل كان من أبعاده. وهكذا أصبح ظهور جماعتي (الرواد) 1950 (7)و (بغداد للفن الحديث عام 1951) تعبيراً عن معنى الالتزام الحضاري المحلى، أغناء للمضمون الإنساني والاجتماعي. فقد كانت النزعة الإنسانية لجماعة الرواد واضحة في تكوين الجماعة نفسها، بل وكيانها نفسه، فهي تلزم أعضاءها بالبحث عن المناخ الفني خارج أطار المرسم الشخصي، مثلما تلزمهم بتذوق الموسيقى أو حمل أدوات الرسم والسفر إلى ضواحي بغداد لرسم المنظر الطبيعي (8)هنا أصبح المضمون الإنساني، بالتالي، هو قوام الموضوع التشخيصي لدى كل من فائق حسن، وإسماعيل الشيخلي، ومحمود صبري، وهم أهم ثلاثة رسامين في هذه الجماعة. كما أصبحت النزعة الاجتماعية واضحة في كيان جماعة بغداد للفن الحديث. ذلك أن الظروف التي مكنت في تأسيسها أخذت بنظر الاعتبار طرح المضمون الحضاري، وضمنا المضمون الاجتماعي لمنح الأسلوب الفني طابعه المحلي من جهة، ولآن المحاضرة التي أستهل بها المرحوم جواد سليم المعرض الأول لهذه الجماعة كانت تستهدف نقد موقف الجمهور الفن التقليدي ورفعه إلى مستوى جمهور الفن الحديث. ومن ثم فأن جل العطاء الفني لجواد سليم وسواه من هذه الجماعة كان عطاء اجتماعياً بشكل أو بآخر كان يوازيه لدى جماعة الرواد حماسة محمود صبري التعبيرية، والذي أوشك أن يكون عضواً فعالاً في هذه الجماعة، نحو التعبير الاجتماعي الملتزم. ولكي تكون الصورة واضحة كل الوضوح يمكننا أن نستشهد بتصريحات بعض الفنانين الهامة بهذه الصدد.
يقول جواد سليم في موضوع المجتمع العربي ومدى تأثر الفنان به ((أن كل أنتاج فني مهم جيد في أي زمان ومكان هو مرآة ينعكس فيها الواقع الذي يعيش فيه. أما كيف يتحسس هذا الإنتاج أن كان هو إنسانياً حقاً، وكيف يكون صادقاً وقوياً معبراً فأن هذا يتعلق بحرية الفنان في التعبير عما يحيطه، وهو حرية فكرية واقتصادية في آن واحد)) (9)ويقول إسماعيل الشيخلي في نفس الموضوع ((أن طبيعة العلاقة بين الفنان والجمهور ستؤدي بلا شك إلى التأثير على نوع الإنتاج الفني، وذوق الجمهور معاً فيؤثر أحدهما على الأخر حتى يأخذ الفن شكلاً أو أشكالا أصيلة معبرة عن حاجات ذلك الجمهور ومدركة من قبله في نفس الوقت)) (10)أما حافظ الدروبي الذي كان الحافز الأول في ظهور جماعة الفنانين الانطباعيين، كصدى لنزعته التطبيقية في إرساء العمل الفني على أسس تقنية واضحة، هي تجربة المرسم الفني فيقول :-
((ونحن نحس اليوم شعوراً مؤلماً بهذا الابتعاد عن الواقع المحلي، والطابع القومي. وأكثرنا يحاول ويجهد من أجل إيجاد فن يمثل الواقع ويتأثر ويؤثر فيه)) (11)في حين يصرح محمود صبري منوهاً بموقفه من مشكلة الرسم العراقي المعاصر بقوله ((وباشتداد قسوة الحياة الاجتماعية أخذت تظهر الأعمال الفنية، وهي تعكس مسحة من هذه القسوة في شكلها ومضمونها)) (12)إلى أن يقول ((لقد خلق التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري في العراق مواضيع جديدة وظروفاً جديدة كما أدى إلى انبعاث مفاهيم وفلسفات ومواقف جديدة لدى الناس ومنهم الفنانون)) (13)ويقول أيضاً ((ليست المصادفة وحدها التي دفعت معظم الفنانين إلى الريف لفترة طويلة ولا تزال تدفعهم إليه الآن بل أن اتجاههم هذا يعكس عدة عوامل معينة اجتماعية وفكرية لعبت وتلعب دورها في هذا المجال))(14).
على أن كل ما صرح به الفنان العراقي وقتئذ لا يعني بالضرورة نجاحه في أن تكون الجماعة التي مارس من أجلها حريته جماعة فنية حقاً .. ومن هنا فأن فترة الخمسينات اشتملت على جماعات لم يكن لها سوى الاسم (كجماعة خريجي المعهد الفني) التي تشكلت عام 1956 و (جماعة فناني كركوك – 1958) ولحد ما (جماعة الفنانين الانطباعيين 1953) قبل ذلك. وكان في هذا كله بداية سيئة لما سيؤول إليه أمر الجماعة الفنية في فترة الستينات في حين كان التزام لوعي التزاما أدبياً في معظم الأحيان والتزاما تقنياً في أقل الأحيان هو الشكل العام للرؤية الجماعية في الفن. أما حقيقة الرؤية الفنية نفسها كطرح صياغة معين. وكتأمل فلسفي فلم يكن قد ظهر إلى حيز الوجود. وهكذا فسرعان ما عكس رساموا تلك الفترة مشاعرهم الإنسانية والاجتماعية، رغم تجمعهم، عبر التقنية الحديثة دون أن يتوصلوا حقاً إلى (رؤية فنية) معينة تمتاز بمفرداتها اللغوية الجديدة وبأسلوب واضح المعالم، وأن ظهرت بعض بوادرها عبر الاستعارات الحضارية في مجال الفن العراقي القديم أو الفن الإسلامي أو الشعبي. وسرعان ما استغنت فترة الستينات عن أي وعي نظري واضح
في الفن مفضلة ظهور العديد من الجماعات الفنية التي لم تكن لتعنى بسوى البحث عن التقنية، على حساب الالتزام الفكري فظهرت ]جماعة المعاصرين[ عام 1965 و ]جماعة المجددين[ في نفس العام أيضاً و ]جماعة 14 تموز[ و ]جماعة حواء وآدم[ و ]جماعة المدرسة العراقية الحديثة[ في عام 1966. ثم ]جماعة الزاوية[ و ]جماعة الحدث القائم[ و ]جماعة تموز[ في عام 1967. كما ظهرت ]جماعة البصرة[ و ]جماعة البداية [ في عام 1968. أما في عام 1969 فقد ظهرت فيه كل من جماعة (الفنانين الشباب) و (13 تموز) و (الفن المعاصر) . في حين أرتفع رصيد الجماعات في 1970 إلى ثمانية هي :- (جماعة نينوى للفن الحديث) في الموصل و (جماعة السبعين) و (جماعة المثلث) و (وجماعة الدائرة) و (جماعة الظل) و(جماعة فناني السليمانية) في السليمانية و (جماعة باء) و (جماعة النجف) في النجف(15). ويبدو من التسميات عموماً أنها اقتصرت على الإشارة إلى مكان التجمع الفني أو مسحته الأدبية. والذي أراه بهذا الصدد هو أن ظهور هذا العدد الوافي من الجماعات ]حوالي 20 جماعة في بحر 10 سنوات[ لا يعني سوى الاهتمام بالإطار الخارجي لها كمجال لإنجاز المعرض الفني، لأن الفنان لوحده لم يكن ليستطيع ذلك. أما الالتزام النظري سواء كان التزاماً فكرياً أم تقنيا فلم تكن له أية أهمية بالمرة أو النقل أن الجماعة الفنية كانت مناسبة عابرة لإشباع رغبات بعض الرسامين لحب الظهور، وهكذا سرعان ما كانت تختفي بعد أن تؤدي وظيفتها هذه ويدب الخلاف بين صفوف روادها ألا ما ندر.
ولعل خير مثال على ذلك ]جماعة الزاوية[ فمع أن روادها كانوا من أساتذة أكاديمية الفنون الجميلة. وهذا هو السبب الرئيسي كما يبدو لظهورها ولكن عدم وجود رؤية فنية موحدة لديهم أسرع في تقويضها فأصبحت أثراً يعد عين بعد المعرض الأول لها. ومع ذلك فإن لازدياد الجماعات الفنية دلالة على ازدياد حجم الإنتاج الفني نفسه واشتداد ساعد الحركة الفنية جمعاء كما أن له دلالته على مسايرة روح العصر وزيادة الزخم الفني إلى درجة لم يعد فيه المضمون الفني الجماعي ليوازي التطور الشكلي .
ثم حلت فترة السبعينات. وهذه بدايتها تبشر وتعد بالمثير من العطاء. بيد أن فترة الستينات كانت رغم خواءها الظاهري، فترة خصوبة وأغناء، ولو كان ذلك أكثر وضوحا من حيث الكم وليس الكيف. ففي غضونها تأسست (أكاديمية الفنون الجميلة) في بغداد لكي تلتحق بجامعة بغداد، وتضاعف من ثم عدد الموفدين إلى الخارج لدراسة الرسم والنحت (16) أي أنها أصبحت مفتوحة نحو التقنية المعاصرة أشد من ذي قبل. كما ظهرت فيها بعض المؤلفات الفنية في النقد والتنظير الفني. ومن ذلك كتاب (تأملات في الفن العراقي الحديث) لنوري الراوي وقد أصدرته مديرية الفنون والثقافة الشعبية بوزارة الأعلام عام 1962 وكراس (الخصائص الفنية و الاجتماعية لرسوم الواسطي عام 1964لكاتب هذه السطور، وقد صدر عن وزارة الأعلام أيضاً. وكذلك كراس (نحو الرؤيا الجديدة) لمجموعة من الفنانين في مطبعة مؤسسة رمزي عام 1969 ما عدا مؤلفات جبرا التي تطرق في بعضها إلى جوانب من الحركة الفنية في العراق. وما نشر في المجلات والجرائد من دراسات وتصريحات جمة، وما كان يتصدر بعض دلائل المعارض خصوصاً معرض جواد سليم، فكانت السيدة لمعان البكري قد استهلت دليل معرضه عام 1968 بدراسة سرية وقيمة معاً حول فن جواد سليم تحت عنوان (جواد سليم .. معجزة الفن العراقي). ومن الطبيعي أن يكون لذلك كله تأثير على دفع عجلة التطور الفني وغزارة إنتاجه. ولكن طبيعة العصر لم تبق على ظاهرة الجماعة كوسيلة لتكون الرؤية الفنية الإنسانية أو الاجتماعية أو الحضارية كما كانت عليه سابقاً وزاد في الطين بلة انكباب شباب الفنانين على حل مشكلة الأسلوب الفني الحديث الدائم والسريع التغير عبر ديناميكية التطور التكنولوجي والفكري المعاصر محولين الاهتمام (بالرؤية الفنية) إلى الاهتمام (بالتقنية الفنية) ويمكننا أن نلمس عموماً ملامح العمل الفني في هذه الفترة من خلال التنظيم شبه النقابي للفنانين (فجمعية أصدقاء الفن) التي كانت رمزاً للهواية الفنية المتجهة نحو مصيرها في الاحتراف الفني أصبحت الآن تسمى (بجمعية الفنانين التشكيلين) منذ عام 1956 بل لقد ظهرت أخيراً نقابة الفنانين بصورة صريحة كإطار عام. ومن جهة أخرى فقد استؤنف البحث التقني كإنتاج عبر السوق المحلية بل العربية للاستهلاك بظهور أول جاليري للفن في بغداد هو (جاليري الواسطي) وكان ساهم في تأسيسه عام 1966 كل من المهندسين المعماريين هنري زفوندا وسعيد علي مظلوم ومحمد مكية و(جاليري ثايا) للمهندس المعماري رفعت كامل الجادرجي. وفي مثل هذا المناخ المشجع للإنتاج التقني لم يتح المجال لظهور الجماعات الفنية كضرورة كل الظهور في حين أحتضن الحكم لوطني نفسه للحركة الفنية وأن لم يؤجح الالتزام الجماعي كما أنه لم يثبطه مفضلاً تشجيع تلك الأساليب التي تمتاز بالجودة فحسب. ومن هنا أصبح البحث عن أسرار الصياغة الفنية، بغض النظر عن كونها صياغة رؤية أسلوبية معينة لها أبعادها النفسية أو الاجتماعية أو العلمية قريباً إلى نفوس شباب الفنانين وبعبارة أخرى أصبح دور الجماعة
الفنية دوراً ثانوياً. وقفز الاهتمام بالتقنية لذاتها إلى مركز الصدارة. ومع ذلك فأن جماعات هذه الفترة كانت على أدارك مسبق بمعنى الرؤية الفنية ولو بصورة ساذجة وهو ما سيكون مضمون الفن كإبداع شخصي، وليس كتقليد لأساليب الآخرين، في مطلع فترة السبعينات أي أنها باستبدالها المضمون الإنساني والاجتماعي أو الحضاري بالمضمون التقني فتحت المجال سريعاً لظهور بوادر الرؤية الفنية لدى الفنان بمعناها الصياغي وليس بمعناها الأدبي. ومن هنا فإن ماله مغزاه بروز تسمية (جماعة المجددين) عام 1965 كانعكاس للاهتمام بالتقنية وضرورة تجديدها في الفن. ولابد لنا أن نتعرف في هذه الحالة بأن مثل هذه التسمية تظل ذات زخم مستقبلي يحض على الإبداع ويحمل في طياته بذرة إرساء العمل الفني وفق رؤية عصرية ستكون هي البديل لفكرة الطابع المحلي كما كان عند جماعة بغداد للفن الحديث. فالمقصود بالتجديد الآن يخص التراث الحضاري العالمي أجمع وليس الحضاري المحلى. ولكن جماعة المجددين التي ظهرت في منتصف الستينات بدعوى (الرؤية الجديدة) وهذا واضح من طبيعة تسميتها هي ما حاولت (جماعة الرؤية الجديدة) ، أو أولئك الفنانين الستة الذين أصدروا بياناً بهذا العنوان، أن تضع على آثاره رؤيتها. فالمجددون وأصحاب الرؤية للرؤية الجديدة شيء واحد وإذا أردنا الدقة قلنا أن المجددين والرؤية الجديدة تسميتان متكاملتان. على أن تبني (جماعة الرؤية الجديدة وبالتالي جماعة 4 أو جماعة 5، وهم أنفسهم أصحاب جاليري ثلاثة) لفكرة الرؤية الجديدة في الفن لا يفترض بالطبع ادعائها لأراء جماعة المجددين. ذلك أن هؤلاء ظلوا يؤمنون بتجمعهم كالتزام فني فكري على الرغم من عدم وجود ما يوحد بينهم كجماعة ماعدا التسمية أما جماعة الرؤية الجديدة فأنهم يصرحون في مقدمة دليل معرض (جماعة 4) بأنهم لا يؤمنون بفكرة الجماعة أطلاقاً بمعناها المعروف. فالجماعة في نظرهم هي المعرض المشترك الذي يضع لوحاتهم ضمن جدار واحد يرفض أي افتراض بتجمع فني جديد لأنهم لا يعتقدون بجدوى الجماعات الفنية في وضعها ضمن ما يسمونه (بالتفسيرات المسبقة التي ساعدت على تكوينها) (17)وهكذا أدى الانكباب على البحث التقني كأسباب للتجمع في فترة الستينات إلى استنساخ لا جدوى التجمع الفني أطلاقاً. بيد أن مطلع فترة السبعينات يشير إلى بوادر جديدة للتجمع الفني على أساس هو أكثر انسجاماً مع طبيعة (الرؤية الفنية) المعاصرة. ولعل عام 1971 هو العام الذي يشير إلى نقطة حاسمة في هذا الانطلاق.
بعد ظهور جماعة الرؤية الجديدة في معرضهم لجماعة – 4 اختمرت في أذهان البعض أهمية تنظيم معرض يجمع بين شتى الممارسات الحروفية في الفن وكانت الفكرة قد طرحت منذ عام 1969 ولكنها تؤتي أكلها ألا بعد عام. وقد لاقت رواجاً منقطع النضير منذ بدايتها وأصبحت مقبولة لدي أولئك الذي أسهموا بالحرف العربي في اللوحة بشكل أو بآخر. وهكذا سرعان ما ظهر تجمع (البعد الواحد) وهو التسمية التي تطلق على تلك الأعمال الفنية التي تتخذ من الحرف العربي نقطة انطلاق للوصول معناه (18) .. وبالتالي إلى تقنية فنية تمزج ما بين عالم الحرف اللغوي وعالم السطح التصويري. فكان البعد الواحد شكلاً من أشكال التجمع الفني المنبثق من وحدة الرؤية الفنية الصرف. وفي نفس الوقت تقريباً ظهرت (جماعة الأكاديميين) عام 1971. وكانت فكرتها في التجمع تعتمد على تجديد المفهوم الأكاديمية وهو الشكل الذي يحوي كل الأساليب ولا يحمل فلسفة معينة في جوهره (بل الأكاديمية هي أناء لكل الفلسفات) (19)بالشكل الذي يمكن أن يتحقق بالتالي (بطريقة عراقية خاصة نابعة من تراثنا الحضاري والفني الذي يحمل أعلى مراحل الأسلوب الأكاديمي) (20)وهناك أيضاً بوادر جماعات أخرى على نفس الأسس. وهكذا يتضح لنا اليوم أن كيان الجماعات الفنية بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على ظهورها يتشكل وروح العصر وطبيعة الموقف الفكري والإنساني للفنان العراقي الدائم التطلع إلى حرية التعبير والتجديد التقني. (فجماعة الرؤية الجديدة كما رأينا تبادر إلى طرح الحرية الفنية غير المشروط بموقف أسلوبي موحد أو بالخطوط العامة لرؤية فنية جماعية كأساس لها في التواصل إلى طبيعة التقنية الفنية. أنها تشترط في العمل الفني أن يكون جيد الصياغة فحسب. وجودة الصياغة هي الكل في الكل في التعبير عن موقف الفنان الحر نفسه. أما رؤيته الخاصة فجودتها أن تكون رؤية جديدة بالمعنى الذي ضمنوه كرأس الرؤية الجديد المنشور عام 1969. في حين تفترض (جماعة الأكاديميين) ترسيخ الرؤية الأكاديمية من حيث قيمتها التقنية القريبة من مستوى الوعي الجماهيري. كما يصبح (البعد الواحد) بمثابة المختبر الفكري للفن كصيغة حضارية تعتمد المنهج المقارن في البحث الفني كجسر يربط ما بين العالم التشكيلي والعالم الحروفي اللغوي. على أن ثمة ما يبلور في الأذهان ارتكاز جماعة أخرى هي (جماعة الواقعية الحديثة) على أساس وحدة الرؤية و (الواقعية الحديثة) تصعب اهتمامها على التعبير الاجتماعي والوعي الشعبي السائد في الفن بغض النظر عن اختلا فطريقة تشويه المظهر الخارجي للعالم الطبيعي.
هذه هي الأشكال الجديدة الفنية اليوم. إذ يتبلور أمامنا مفهوم جديد لها في العراق كمناخ فكري عميق الصلة بالجمهور الفني من جهة وبالحضارة والتقنية الفنية من جهة أخرى. وهو
مهما شح عطاؤه أو أغنتي فسوف يحفظ للفنان حريته ويسدد له رؤيته بصورة أكثر صلة بالعمل الفني من ذي قبل .
ولعل تشجيع الإبداع الفني عموماً ضمن أطار التجميع الفني، مهما كان شكله، كفيل بإعطاء هذه الظاهرة مهمتها الحاسمة فعبقرية الفنان كما يقول شوكت الربيعي في كتابه (الفن التشكيلي المعاصر في العراق) في تغيير قوانين العالم الناقصة. وهو إذن مشارك يمتلك الحرية في الموقف الإيجابي. وموقفه يساهم أساساً في البناء الحضاري. وهو بالتالي شاهد لا إنساني ضد الأفعال الإنسانية .. وكما يشيد جبرا إبراهيم جبرا بالفنان العراقي مؤكداً أن (الرؤية الفنية تتنوع وتستمر مؤكداً ديناميتها في فناني العراق ... وأن الحركة الفنية في العراق في حيوية دائبة وأتساع متواصل ولكن لدور الجماعة مع ذلك يظل دورا أساساً لأنه يشد الفنان بحزام فكرى وبالتزام يمنعه على الأقل من مهاوي ذاتية التعبير وتطرقه.

البيانات الفنية في العراق شاكر حسن أل سعيد. وزارة الأعلام – مديرية الفنون العامة – بغداد 1973.

من كتاب النقد الفني عادل فاضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى