عبدالمجيد يوسف - الجر على الجوار

من قضايا النّحو العربي الشّائكة التي لم يُكتف بخوْض النّحاة فيها بل كان لمفسري القرآن فيها دور وفير فاختلفوا فيها بين كونها ظاهرة لغويّة وبين النّظرة المعيارية الغيبيّة التي تخالف حتى النّص القرآني وتجبر بعض النّحاة وأكثر المفسرين على ضرب من التّأويلات اللغويّة الملتوية، فوجدوا تخريجات واهية بواسطة العطف أو بدل الاشتمال أو الإضمار. (العوامل المحذوفة).
هذه القضية هي ما سُمّي عند النّحاة ولدى المفسّرين بخفض الجوار (لدى من كان منهم من الكوفيين) والجرّ على الجوار لدى من كان ذا هوى نحويّ بصْريّ، وسُمّي بأسماء أخرى لدى المتأخّرين منهم مثل ابن هشام وهو التّعريف الأوفى كما سياتي بيانه. أطلقت هذه التّسمية على ظاهرة صوتية-نحويّة متمثلة في أنّ "الشّيء يُعطى حكم الشّيء إذا جاوره" (ابن هشام في مغني اللبيب المجلد II ص443 طبعة حنا الفاخوري عن دار الجيل بدون تاريخ).
وممّا ورد في القرآن مجرورا على الجوار: (يسألونك عن الشّهرِ الحرامِ قتالٍ فيه؟ (البقرة 217)(قتال ورد في محل رفع مجرورا على الجوار) /(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} (البقرة:105)، (المشركين في محل رفع ورد مجرورا على الجوار)(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} (البينة:1)(المشركين في محل رفع ورد مجرورا على الجوار أيضا)
ونجد لدى النّحاة مثالا متكرّرا اعتُبر النّموذج الأوفى لوصف الظاهرة والاشتغال عليها وهو "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ". فالنعتُ "خربٍ" كان ينبغي أن يكون مرفوعا لأنّ منعوته مرفوع(جُحرٌ)، لكنّه جاء مجرورا بناء على مجاورته لمجرور (ضبٍّ)، وأمثلة هذا من القرآن لا حصر لها، فقال ابن جنى فيه: "وأمّا أنا فعندي أنّ في القرآن مثل هذا الموضع نيفًا على ألف موضع"(الخصائص)
مواقف بعض النحاة
*سيبويه (في باب الجرّ نقلا عن الخليل بن أحمد): "هذا الذي تجرّه العرب على الجوار، إنّما تجعله على بعض الأوصاف، وهو أن يكون النّعت الذي يجرّه يوافق الاسم الذي يجاوره في عدّته، وفي تذكيره، وتأنيثه. فإن اختلفت العدّة، أو كان أحدهما مذكراً والآخر مؤنّثاً، استعملوا الكلام على أصله، ولم يجرّوه على المجاورة".(الكتاب)
وهكذا نرى أن سيبويه حصر الظاهرة في الجرّ وحده ومنعها من بقية المحلّات الإعرابية. وفي قوله "تجّره العرب على الجوار" دليل على الجهد الاستقرائي للخطاب المتداول وعلى أنّ الظاهرة ليست غريبة عن كلام العرب. ثم هو حصرها في النّعوت دون غيرها من الوظائف الإعرابيّة واشترط المطابقة التّامّة بين المتجاورين، لكنّ ما نجد من النّصوص يتجاوز النّعوت إلى سائر الوظائف كما في الآية: "يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه (البقرة217) فالجرّ على الجوار لم يكن في نعت بل كان في مبتدإ.
*ابن جني في الخصائص أنكره وأوّل المثال الذي يحتجّ به النّحاة (جحر ضبّ خربٍ) فجاء بتأويل لا يقوم، فجعل "خربٍ" صفة للضّبّ على أنّ هناك مضافا محذوفا.
*أبو البقاء العكبري: قبل به في حين رفضه غيره وقال إنّه ليس بممتنع أن يقع في كلام العرب لكثرته، واحتجّ له بأمثلة من القرآن والشّعر.
ابن هشام في المغني: في الباب الثامن من فصل كبير عنوانه "في ذكر أمور كليّة يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الصّور الجزئيّة" (ص431 من الطبعة المذكورة) قال: عن الشّيء يُعطى حكم الشّيء إذا جاوره كقول بعضهم "جحر ضبٍّ خربٍ" والأكثر الرّفع. (انتهى النقل عنه)
قوله: "والأكثر الرّفع" إشارة إلى تردّد النّحاة في المسألة. أمّا في خصوص حكم الجوار فقد حسمَ الأمر بصياغة قاعدة تعامليّة وصفيّة. وإذا كان النّحاة قد حصروا الظاهرة في الخفض( أو الجر ) ومنه استمدوا اسم الظاهرة فإنّ ابن هشام يتجاوز بها هذا القسم من الإعراب فيجعلها ممكنة الامتداد إلى الرّفع والنّصب لأنّ القاعدة التي صاغها تحتمل كلّ مقولات الإعراب، كقول الشّاعر: "وجدوا امرأةً شاغرًا قلبُها". إلاّ أن أغلب ما يلاحظ من الأمثلة من القرآن ومن غيره أنّ حكم الجوار يهتمّ بجرّ المرفوعات والمنصوبات وقلّ أن نجد جوارا بالنّصب أو بالرّفع.
مواقف بعض المفسرين
الزّمخشري في الكشّاف في خصوص رفض الظاهرة، مفسّرا هذه الآية ومغلّبا النّظر الفقهيّ على النّظر اللغويّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ(المائدة)
إنْ قلتَ: فما تصنع بقراءة الجرّ ودخولها في حكم المسح؟ قلتُ: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها، فكانت مظنّة للإسراف المذموم المنهيّ عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها.
هذا ولم نجد لبحث الظاهرة أثرا في كتابه "المفصّل".
الطبري: اختلف القرّاء في قراءة ذلك فقرأه جماعة من قرّاء الحجاز والعراق: {وأرجلَكم إلى الكعبين} نصبًا. فتأويله: إذا قمتم إلى الصّلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم. وإذا قرئ كذلك كان من المؤخّر الذي معناه التّقديم وتكون " الأرجل " منصوبة عطفا على الأيدي.
الفخر الرازي: قوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ وردت فيه قراءتان متواترتان.
إحداهما: بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب.
والثانية: بكسر اللّام وهي قراءة الباقين.
أمّا قراءة النّصب فعلى أنّ قوله وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على قوله وُجُوهَكُمْ أو هو منصوب بفعل مقدّر أيْ: وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين...
وأمّا قراءة الجرّ فعلى أنّ قوله وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على بِرُؤُوسِكُمْ. قال القرطبي ما ملخّصه: فمن قرأ بالنّصب جعل العامل «اغسلوا» وبنى على ذلك أنّ الفرض في الرّجلين الغسل دون المسح. وهذا مذهب الجمهور.
ابن كثير: وقوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) قرئ : ( وأرجلكم ) بالنصب عطفا على ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم )..... وأما القراءة الأخرى، وهي قراءة من قرأ : ( وأرجلِكم ) بالخفض . فقد احتجّ بها الشّيعة في قولهم بوجوب مسح الرّجلين لأنّها عندهم معطوفة على مسح الرّأس. وقد روي عن طائفة من السّلف ما يوهم القول بالمسح...
وما يهمنا من استعراض أقوال المفسرين ليس القضية الفقهية ولكن كيف تناول المفسّرون إعراب اللام في "أرجلِكم" فأخرجوها إمّا على العطف وإما على بدل الاشتمال ولم يقولوا بتأثير الجوار مطلقا... او أرجعوها ّإلى اختلافات فقهية بين الفرق أو بين الأقطار.
وما نذهب إليه يرتكز على تعريف ابن هشام:
• أنّ حكم الجوار لا يقتصر على الجر ّكما ذهب إليه النّحاة القدامى ولا مانع استنادا إلى قاعدة ابن هشام من أن يشمل الجوار الرّفعَ والنّصبَ.
• أنّ حكم الجوار فاعل في الحركة الإعرابيّة وحدها أيْ في مظهر سطحيّ من بنية الكلام لكنّه لا يغيّر شيئا من البنية الإعرابّية الخاضعة لمقولات منطقيّة قويّة.
• أنّ حكم الجوار ظاهرة تعاملية شائعة في اللغة ومتعدّدة المظاهر في مقام المشافهة وهي أن تؤثر الأصوات المتجاورة بعضها في بعض ويبحث المتكلّم بشكل غريزيّ عما يقارب بين الأصوات تجنّبا للكلفة وطلبا للجهد الأدنى ...من ذلك أنّ كلمة "اجتماع" ننطقها "اشتماع" محوّلين تلقائيا الجيم المجهورة إلى صوت أخف هو الشّين المهموسة بناء على مجاورة التّاء المهموسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى