صباح بن حسونة - الابتسامة الأخيرة

امتطى الليل و لاذ بحائط قصير من الجهة الخلفية للمنزل و تسلقه ليجد نفسه في حديقة تفتقد لعناية أهل البيت.

كان القمر قد اختار الاختفاء خلف غيمة كثيفة فازدادت الظلمة من حوله عمقا و كأنها تستره عن الأعين حتى دخل البيت بعد أن عالج إحدى نوافذه بسهولة و يسر ..

داخل المنزل كان الظلام متواطئا معه و الهدوء أيضا كان سائدا، و كأنّه بيت للأشباح..

تلمّس الأرائك ليجد طريقا بينها فوجدها مغطاة بملاءات تنبعث منها رائحة الموت و سكونه..فكر في إشعال ضوء هاتفه ثم عدل عن الفكرة وهو يرى في الممر المقابل بعض الضوء.. اقترب قليلا فوجد نفسه بين أبواب أربعة، ثلاثة منها مغلقة بينما ينبعث من الغرفة المفتوحة ضوء خافت. بسرعة تطاول بعنقه و جال بعينيه فيها: كانت غرفة نوم عادية يتوسطها سرير كبير و مشوش و بجانبه منضدة ليلية ينتصب فوقها فانوس صغير ينبعث منه ذلك الضوء.

" كالعادة ها هو الضوء يشتعل ليلا و نهارا "

..أمام الفراش كان هناك جهاز تلفاز كبير مغلق و في الجانب الآخر من الغرفة دولاب للملابس و لم يكن هناك بالغرفة غيره. لم يضيع وقته و توجه مباشرة إلى الدولاب، و قد كان مفتوحا.

كان يفتح صندوقا وجده مخفيا بعناية تحت الثياب و يبحث بين أوراقه، عندما غمر الضياء عينيه فجأة و سمع صوتا هادئا يقول:

- كنت أعرف أنك ستأتـي و ها أنت كما عهدي بك لا تخيب ظني.

سقط الصندوق من بين يديه و تناثرت أوراقه على الأرض و بقيت يداه على نفس وضعهما بينما انفتحت عيناه و اشتد اتساعهما وهو ينظر في اتجاه الصوت و قد اهتز له قلبه..

منذ أكثر من شهر لم يزرها و لم يسأل عن أحوالها و تركها للوحدة و الحزن. كل يوم لا يزورها فيه هو يوم ينقص من عمرها، كل يوم لا يأتيها فيه يُنقص من إرادتها و عزيمتها إلى أن قررت أن تجعله يعرف أنها ليست في المنزل و أنها سافرت عند أختها في المدينة القريبة لتقضي معها بضعة أيام.

عادت إلى الكلام بلهجة يملؤها العتاب:

- تعالى إلى جانبي، اجلس هنا كما عادتك و لا تقل شيئا .

ما يزال واقفا في اندهاشه المختلط بالخجل و الخيبة، لم يتحرك من مكانه بينما عاد بذاكرته إلى آخر لقاء بينهما منذ أكثر من شهر..

- أعطني أوراق ملكية البيت حتى أبيعه و أسدد ديوني الثقيلة و ستنتقلين إلى العيش بمنزلي..

كانت حاسمة فقالت :

- لن أغادر بيتي إلا لأقابل ربي..

- إذن لن تريني بعد الآن ..

و ها قد عاد و قد لبس ثياب الغدر و العقوق و ها هي تراه و تملأ عينيها به بينما لا يجرؤ هو على النظر إليها و لا حتى على التحرك من مكانه .

لم يعد بإمكانه الاقتراب منها منذ هذه اللحظة. صار غريبا عن تلك الحيطان التي تسلقها و النافذة التي كسرها و البيت الذي ولجه كسارق. صار غريبا حتى عن هاتين اليدين المكسوتين بالتجاعيد، اللتين تمتدان إليه بحنوّ رغم فعلته و قسوة قلبه، صار غريبا حتى عن هذا الصوت الذي يترجاه بإلحاح أن يقترب منه و أن يجلس إلى جانبه.

طالت وقفته النادمة الخجلى من فعلتها و بقيت يدا أمّه مفتوحتين عالقتين في الهواء..
عندما اقترب منها أخيرا و الدموع تنهال على خديه،سقطت اليدان سقطتهما الأخيرة بينما ارتسمت ابتسامة مُطَمئِنَة على وجهها .. صارت تكبر و تكبر حتى ملأت الكون ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى