خالد جهاد - ألحان الريح

فقدت ذاكرتي بإرادتي، سخرت من نفسي عندما تعثرت بصورتي القديمة، وجدت فيها شخصاً لا أعرفه، كنت أعرف لماذا يبتسم حينها.. لكنني لا أعرف متى ابتسم للمرة الأخيرة.. كان عاشقاً آنذاك، عاشقاً لشيءٍ أكبر من مجرد حبٍ لإمرأة، فقد أحب معها الحياة التي خال أنها ليست له، قال كلماته الأولى، أبصر من خلالها النور، سمع عبرها الصمت، واستحالت الدنيا في عينيه مسرحاً يعتلي خشبته ليغني لها وحدها، بكل ما فيه من إحساسٍ.. بقدر ما زرعته في أعماقه من نغم، وبقدر ما أيقظت في روحه من شجن، أعطته ورقةً بعد أن عاش يخط أشعاره على جسده، أهدته مصباحاً كتب على نوره إليها، فرسمها، صورها، عانقها فتبخرت.. وظلت تزوره كلما غفت عيناه.. تبحث عنه، تلاحقه فيهرب منها إلى اليقظة، وعرف معها لأول مرة أن الأرق أقل مرارةً من المنام..

لم ينساها لأنها كانت باكورة أحلامه، فرصته التي جاءت متأخرةً للغاية وحملت معها خيبةً تعادل ما فات وما سيأتي من أيام، تركته مع حبٍ يحمل بصمات جريمة، آثار غزو، حطام مدينةٍ لفظت أنفاسها الأخيرة بين ركام وحدتها في حربها مع الذات، يقطر دموعاً بلون الدم.. يشربها تحت شمسٍ لا فرار من لهيبها بعد أن تاه زورقه بعيداً عن شواطئها.. ليغدو لاجئاً منبوذاً بلا جواز سفر، يصارع أفكاره في وقت السَحَر، يشغله جرحٌ لا يشفى.. ينزف سراً دون أثر..

أحبها فلم تبادله حبه وعاش ينتظرها دون أن تأتي، رضي بما لا يرضاه أحد، كان ظلاً، شبحاً، سراباً منسياً، يراها بين الناس دون أن تراه، يترقب ضحكتها فتهديها لسواه، قطع لأجلها مسافاتٍ طويلة.. بقلبٍ حالمٍ وساقٍ عرجاء، لتمحوه وتمحو خطاه من قلبها.. فنطقت الأرض وبكت السماء، أخبره مشرد ينام في العراء.. لا تنتظر في الليل وحيداً فحضنه لا يسع العشاق الفقراء، الليل بات مقبرة المشاعر، يتزاحم فيه الغواني واللصوص على قوت الجياع وأحزان البسطاء.. غادر فلا عزاء لقلبك وأبحث عن ظلٍ لظلك تحت السحاب وفوق الماء..

صحوت بلا وجهٍ أو قلبٍ.. ووجدت قلماً ألزمني بالبحث عن يدي، توقفت عن الحديث وتلحفت الرمال، لم يبقى شيءٌ من المنطق.. فاق الواقع جموح الخيال، مات جزءٌ مني وظل ما تبقى يكتب قصته، خسرت بعضاً من جسدي لكن الألم الفائض يكفيني للبدء من جديد، يتسع لفكرةٍ وغد، يعدني بشيءٍ من الفن، لا يضمن لي وفاء إنسانٍ لكنه سيعيد إلي صوتي.. لأنشد أغنيةً دافئةً.. أكتبها ويصوغ ألحانها الريح..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى