د. عبدالهادي التازي - الجاحظ في مخطوط : البرصان والعرجان

بالرغم من أن " دعوة الحق" قد خصصت هذه الضلوع لمطاعة ما يجد من كتب وما يفاجئ القراء من آراء حديثة، فإنني مع هذا أختار أن أتناول هنا بالحديث كتابا يرجع تأليفه إلى أوائل القرن الثالث الهجري فيما يظهر، ودون ما أن أطيل على القراء بالتقديمات فسأنتقل بهم إلى هذا الكتاب الذي نخرته الأرض وكادت أن تأتي عليه الأيام، هو كتاب للإمام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ غير رسالة التربيع والتدوير، وغير البيان والتبيين وغير كتاب البخلاء وكتاب الحيوان ولكنه كما قرأت يتعلق بالبرص والعرجان والعميان والصمان . . .
وهكذا فإلى جانب موسوعته في الفلسفة والدين والتاريخ والجغرافية والرياضيات نذكر له هذا الأثر الأدبي الفريد، ولقد كتب لهذا المؤلف القيم لا تضمه رفوف خزانة في الشرق، ولكن هنا ببلاد المغرب في " بزو" بين تادلة والسراغنة جنوب شرق الدار البيضاء حيث الزاوية العياشية . . . وكان علماؤنا الأفداد أمثال الشيخ البحاثة السيد المختار السوسي قد وقفوا على هذا الكتاب بالزاوية المذكورة منذ 26 من ذي الحجة 1355، ولكن الحصار الذي كان يضرب على أبناء المغرب بعضهم من بعض كل يحول دون التمادي في البحث . . .
ومضى عهد الكبت الفكري، لكن المسؤولين في الحكومات المتوالية شغلوا عما تضمه زوايانا من نفائس وكنوز، شغلوا بالمشاكل التي وضعتها الظروف الجديدة، ولو أنهم ــ وهذا شيء لا ننساه ــ ظلوا يتواصلون خيرا بها إلى أن تحين الفرصة . . . وقدر للجاحظ أن لا يخرج من الزاوية العياشية إلا عندما يحل ضيفا على المغرب حضرة الدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات بالجامعة العربية، فقلد وضع له برنامجا لزيارة المكاتب العامة والخاصة سواء منها التي تتبع وزارة التربية الوطنية أو وزارة الأوقاف وكان من تصميم الرحلة زيارة " بزو" حسب إشارة الأستاذ محمد الفاسي رئيس الجامعة المغربية . . .
ووصل صلاح الدين وبمعيته الأستاذ إبراهيم الكتاني المشرف على قسم المخطوطات... أن الشيخ المختار يتحدث عن أثر للجاحظ هنا فهل ما تزال الخزانة محتفظة به رغم أولئك "السماسرة " الذين قصدوها على عهد الحماية ممن عرفوا بانتهاكاتهم لحرمة الخزائن؟ لقد سلم الكتاب من عادية " أولئك" وها هو الآن يجد طريقه نحو المكاتب في الشرق والغرب . . . وسوف لا أتحدث لكم عنه حديث شخص يعني بالتنقيب عن المخطوطات بمقارناتها ومفارقاتها... إذ أنني لا أرضى أن أكون متطفلا على ما ليس من اختصاصي سيما وأني على مثل اليقين من أنه سوف يكون لكتاب الجاحظ ما يستحقه من التعليق والشرح، و لكني أريد هنا فقط أن أستعرض مع القراء بعض فصول هذا الكتاب كأنما خرج من دور الطباعة علنا " نحرك" بذلك رغبة المولعين بالخزائن حتى يدايوا من أجل اكتشاف " جاحظين" آخرين، فإن المغرب ــ كما يشهد بذلك رجال الفكر والبحث ــ يشتمل على أسرار ودفائن سيكون في إبرازها خير للعروبة لا يوازى . . وبعد فهذا كتاب القرصان والعرجان الذي يقع في أربع عشرة ومائتي صفحة من الحجم المتوسط . . . يشتمل على مقدمة بالأسلوب المعهود للجاحظ . . . ولو أنها متعبة نظرا للخروم التي أصيبت في بعض الجهات . . . إنها تدعو لك أيها القارئ على هذا الشكل : " وأعاذك من التكليف وعصمك من التلون وبغض إليك اللجاج، وكره إليك الاستبداد ونزهك عن الفضول وعرفك سوء عاقبة المرء . . . "
صورة صفحة من المخطوط. اقرأ في السطر الأول: وسئل بعض العلماء عن بعض أهل البلدان، فقال: " ابحث الناس عن صغير واتركهم لكبير" وسئل عن بعض الفقهاء فقال : أعلم الناس بما لم يكن، واجهلهم يما كان.
ثم ذكر أصحاب تلك الأوصاف بمن فخر منهم بعرجه وحوله وقرعه وبرصه، نوادرهم وكناياتهم وأنسابهم وأقوالهم . . . والشاهد على ذلك من الشعر الصحيح . . . وخص بعد هذا فصلا للحديث عن الساق العليلة والساق السليمة ومن كان من فرسان العرب ينعت بدقة الساق.
وفي الكتاب باب أخر يعني فقط بمن قطع أرجلهم عند الحروب والمغامرات . . . ثم من قتل بالصواعق والعواصف . . . ويأتي دور الحدب ومن سقي بطنه ( اجتمع فيه الماء فارتخى) من إشراف العرب، ثم باب الأدران ( المصابون بالفتق) ثم ما حضره في القوة وما يمت إليها بصلة . . . ولم يفته الحديث عن المفاليج والأشجين، وذوي الخلقات الغربية . . . ثم ما جاء في صغار الرؤوس وكبارها . . . والأعناق طويلها وقصيرها . . . ويتلخص بعد هذا للصلع والقرع والقزع في حديث ممتع شبيه بما نعهده منه في "البخلاء" ثم ينتقل إلى الحديث عن الأيمن والأعسر وما قيل في هذا وذاك . . . ويختم البحث بحديث حفصة بنت عمر: ( كان النبي إذا أوى إلى فراشه توسد يده اليمنى وقال: رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) . . .
صفحة أخرى من المخطوط. اقرأ في السطر الثالث منها : قيل لبعض العلماء من أسوأ الناس حالا؟ قال : " من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله . . . الخ.
ولا أغفل أن أذكر هنا أنه أي الجاحظ لا ينسى أن يأتي على أسماء طائفة العميان والعور والفقم والعرج ممن كان لهم أثر في التاريخ . . .
إن الكتاب لا يكفي أن نستعرض جدول فهرسته، ولكنه جدير بأن يبعث من جديد على أيدي طائفة مهمة من العلماء فإنه يعتبر بحق " وثيقة لغوية" ما كان أحوج المكتبة العربية إليها... وإذا كان لي ما أرجوه هنا فهو التوجه إلى هؤلاء الذين أنيطت بهم مهمة تراثنا المغربي فلقد حان الوقت ــ بعد أن خذلتنا الظروف أحقابا من الزمن ــ أقول حان الوقت لأن نترقب منهم عملا يذكر في هذا الصدد، فما نحن بالذين يقنعون من المشرفين على أمر المخطوطات بالتعليق عليها داخل مجالس محدودة وبين طبقات معينة . . . بل أن لنا على هؤلاء ــ وهوايتهم بهذا الفن أمر مفروغ منه ــ لنا على هؤلاء أن يفكر في اطلاع الجمهور المثقف بصفة سرمدية منتظمة على هذه الكنوز التي تحتويها خزاناتهم العلمية بالمغرب، فلقد ضلت عذراء كما كانت منذ قرون . . . إن هناك كثيرا من الخزائن الخاصة أمسى اليوم في متناولنا . . . ولكنا لن نعتبرها في "المتناول" مادام الحديث عنه يقتصر على الندوات الخاصة، افتراني على حق عند ما أرجو إليكم أن تتحدثوا إلينا عن هذا " القديم الحديث" عن هذا " العتيق الطريف" . . . وهل تراني على حق إذا ما رجوت إلى أصحاب الخزائن الخاصة ممن لا يستفيدون منها رجوت إليهم أن يتقدموا بها إلى الخزانة العامة حتى يعم بها النفع ويصل صداها إلى أطراف البلاد.
أطلبوا أمجادكم أيها العلماء، إنها لن تبعد عنكم . . . هي في بطون الكتب . . . تلك المخطوطات التي كتبها السلف ليعني بها الخلف . . أدرسوها . . علقوا عليها . . لا تهملوها ولخير أن يقال اشتغل وأخطأ من أن يقال كان رحمه الله : حريصا على أن لا يتكلم.




عبد الهادي التازي

دعوة الحق
21 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى