لقد قيل إن العالم أضحى قرية صغيرة، لكنه انزوى واندفع إلى انكماش مستمر، وقد تجلى أخيرا هذا العالم في كرة مستديرة، من خلالها تدور أحداث العالم وفصوله، ومن خلالها يُرى حاله ومآله، ولقد صار العالم كرة كبيرة، وصارت معه الكرة عالما صغيرا.
فقد صارت كرة القدم فتنة الجماهير وأفيون الشعوب، وتعد هذه الرياضة العالمية إحدى عجائب القرن الماضي التي أثرت في بنية المجتمعات، وساهمت في خلق ذلك المواطن الكوني الممتد والعابر للقارات، الذي يجمعه دفء الملاعب والمشاهدة، ولا تقيده الحدود والمسافات، وتعنيه فقط متعة اللعبة الذكية الفاتنة.
مما عزز من قيمة هذه الرياضة، فانزاح بها إلى أتون القول السياسي والنقد الاجتماعي، وظهرت تنظيمات للمشجعين بوعي سياسي صريح، إلى جانب فرق وأندية بهموم سياسية وقومية واضحة، فكثر الفاعلون في المستطيل الرياضي، وبتنا نرى الأقدام السياسية تلعب الكرة في الملاعب وليس داخل الأحزاب والبرلمانات، واختلطت لغة الخطاب السياسي بالأهازيج والشعارات التي تصدر من المدرجات في الملاعب.
لكن السؤال المر في علاقة الكرة بالسياسة هو من يستخدم الآخر؟
الأغنية السياسية والبوح الاجتماعي
لوحة للفمام ريم يسوف
شكلت الأغنية السياسية منذ سنوات الرصاص أو قبلها في المغرب فنا للاحتجاج والتعبير عن الغضب، إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشباب الواعون بضرورة التغيير، وقد كانت لأغاني المجموعات في عهد الستينات والسبعينات لسان حال الشعب وليس النخبة، بوصفها تحمل هموم الأغلبية الساخطة والساحقة على الأوضاع القائمة حينذاك.
وفي ذلك أنشدت وغنّت مجموعة شبابية أغاني بنَفس احتجاجي قوي، وتحمل رسائل سياسية معينة، وذلك فيما يعرف فنيا بالمغرب بالظاهرة “الغِيوانية”، مع إبداعات فرق “ناس الغِيوان” و”جيل جيلالة” و”المشاهب” بالعربية، أو ظاهرة “تازْنْزارْت” التي غنت بهذا الشجن باللسان الأمازيغي.
وهذا النوع من الفن الملتزم كما يسمّى، ظل موصول الصلة مع أشكال تعبيرية جديدة، حيث انتقل من المسارح والقاعات والساحات العمومية وفي الهواء الطلق، ليظهر فجأة في أماكن أخرى مفتوحة وأكثر كثافة وتنظيما، حيث صدحت بها ملاعب كرة القدم، التي ما عادت تحتضن فقط مباريات اللاعبين الرياضيين وفِرقهم، بل أضحت تهتم كذلك بقضايا اللاعبين السياسيين وأحزابهم.
وما يلفت النظر إلى هذه الظاهرة الجديدة، هو أنها نقلت النقاش السياسي إلى أماكن غير الأماكن التقليدية التي تشهد أطوار النقاش العمومي في قضايا الشأن العام، بما يعني أن المُواضعات السياسية تغيرت مع تغير القضايا، فتغير المقال بتغير المقام.
وبما يعني أيضا أن ثقافة الحزب كما هي متعارف عليها تبدلت موازينها وأحكامها وتقاليدها، فلم يعد للزعيم الحزبي والتاريخي مكان داخل جماعات “الألتراس” في الملاعب، كما حل عِشق الفريق محل الانتماء للحزب، وتحولت بيروقراطية التنظيم الحزبي إلى انسيابية مرحة لعشاق الفريق الكروي.
وإذا كانت البرلمانات تعرف نقاشات حادة في مواضيع الميزانية والسياسات العمومية وقضايا الهوية مثلا، فإن لقاءات “الدِّيربي” في الملاعب بدورها لا تمر دون إشارات سياسية قوية، تحملها أهازيج تصدح بها حناجر عشاق المستديرة، أو تحملها يافطات ولافتات و”تِيفُووَات” الفرق، تعبّر من خلالها عن حقها في البوح في الموضوع السياسي، بما يجعل منها نوعا من صناعة الرأي العام، الموازي للذي يصنع في دهاليز البرلمان، وعلى أمواج الإذاعة وشاشات التلفزة العمومية.
لكنْ ثمة عنصر جديد دخَل في معادلة البوح السياسي، وهو أن الأغنية السياسية في الملاعب سرعان ما تدخُل في مساحات شاسعة داخل الوعي العام، تخرج عن نطاق البلد المنظم لتعانق بلدانا أخرى مستضيفة، وتجد نفسها في موعد مع جمهور مفترض في العالم الرقمي، يشاركها الشجن نفسه ولو اختلفت التفاصيل.
إذ لما انغلقت أبواب البوح المُرّ داخل قنوات الإعلام العمومي انفتحت بالمقابل أبواب الشبكية العنكبوتية، لتشكل منصة للتعبير السياسي للجماهير الغاضبة، بما يشبه نوعا من “الدفء الرقمي” و”العناق الإلكتروني” حول قضايا مصيرية وفي أحزان مشتركة تنضوي تحتها أطياف شبابية بالخصوص ذات وعي سياسي حاد، لم تعد ترى في الحزب إلا آلية للتدجين السياسي وشراء الذمم.
وهكذا تابع الملايين من المشاهدين وتفاعلوا وتداولوا أغنية ألّفتها ولحّنتها وصدَحت بها حناجر “الجرد الأخضر” كما يسمى في عالم الكرة، بمناسبة رياضية لفريق الرجاء البيضاوي المغربي، وكان عنوانها كافيا لحصر هموم قطاع واسع من الجمهور السياسي.
إذ غدت بعد ذلك أغنية “في بلادي ظلموني” أيقونة الأغنية السياسية الشبابية، وأصبحت لسان حال جمهرة الشبيبة السياسية في الملاعب وفي المدارس وفي الشوارع، ثم باتت حديث الإعلام والصحافة في العالمين العربي والغربي، وكأنها خطاب سياسي لشخصية كارزمية، أو قصة واقعية لحدث مأساوي.
فما الذي يجعل من هذا النوع من الاحتجاج كصحوة أو صيحة للجماهير التي غادرت الحزب وما حمل، وتوجهت إلى الملاعب لتنشد لحن الغضب الأخير، وتُوجه من خلاله رسائل إلى من يهمه الأمر؟
هل لأن الأحزاب أضحت غُرفا لأولي القُربى ومَطية للوصول إلى الكراسي، أم أنها أفرغت من مضمونها النضالي النبيل بفعل فاعل؟
أم أن الفرجة السياسية التي أدخلت السياسة إلى منطقة العدم واللاجدوى فرضت على الفرجة الرياضية بأن تتولى مسؤولية التوعية، وإحياء الضمير السياسي الحر داخل أوساط الشباب بالخصوص الذي عزف عن العمل السياسي الحزبي، لكنه وجد نفسه بلا محام أما القضايا العالقة والشائكة التي يعج بها الواقع المرير؟
ثم كيف سمحت جماهير الملاعب عن حقها في الفرجة، لتلج بؤر “القلق السياسي”، هل لأن المرارة اختلطت بالمرح، أم أن الأشواط الكروية صارت بعناوين المرح والمرارة، شوط لهذه وشوط لتلك، في انتظار إعلان نتيجة المباراة بين المولاة والمعارضة؟
وكيف صار بمقدور هذه الرياضة أن تكون مجمع الضمير الوطني والكوني، وكيف يمكن أن يصنف هذا الهوس الجمعي في الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية، بل وفي إطار البحث السياسي بحكم الصلة بين الجمهور الرياضي والجمهور السياسي؟
لقد كتب غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” أن نضالها هو “القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أيّ شيء، وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير” (سيكولوجية الجماهير، ص 44).
وقد صدق تحليل لوبون، فها هي جماعات “الألتراس” تغزو الملاعب والشوارع، لتعلن عن الجمهور السياسي في قلعة نذرت نفسها للفرجة، لكنها فرجة بمعنى ثُقب إلى عالم السياسية.
“الألتراس” صوت ينادي من بعيد
لوحة للفنان ريم يسوف
“الألتراس” كلمة من أصل لاتيني، وتعني المتطرفين أو الأشخاص فوق العادة، وارتبطت بمجموعات مشجعي النوادي الرياضية، التي تعلن انتماءها وولاءها الشديد لها، خصوصا في رياضة كرة القدم.
ويرجع أول ظهور لظاهرة “الألتراس” إلى سنة 1940 بالبرازيل، أو قبل ذلك حسب اختلاف الروايات، ثم انتقلت إلى القارة الأوروبية، ومنها انتقلت عربيا إلى أفريقيا مع أول تجربة في تونس، وبعدها تحولت إلى آسيا في الأردن.
ومنذ انطلاق مباريات كأس العالم سنة 1930 ظلت الملاعب فضاءات للسياسة، فاللاعبون والفرق هم نواب عن الأمة وعن الأحزاب، تحركهم فنياتهم كما تحركهم دوافعهم السياسية، والجمهور من ورائهم قوى سياسية مشجعة على اللعب، لكن أيّ لعب؟
فهناك رسائل سياسية تنبع من مدرجات الملاعب، وتترجمها حماسة اللاعبين في المستطيل، ومرمى الخصم وجهة مفضلة للأهداف السياسية المستبطنة، وقد جرت لقاءات نادي برشلونة ونادي ريال مدريد على هذا المنوال لعقود طويلة، فالتعادل والانتصار يكون بطعم سياسي واضح، مادام الفريق مدفوعا بهموم الإقليم والمصير، مما جعل من الملعب محفلا للشكيمة والتظلم وإعلان المواقف.
بينما ترقب الحكومة الكتالونية والحكومة المركزية في مدريد أشواط اللعب وأقدام اللاعبين، وكأن كرة السياسة تدحرجت إلى الملاعب لثقلها على المؤسسات التقليدية، فتلعب بقوانين غير قوانين الفيفا، حيث يحضر المكر والعنف والعداوة، وتتحول الأقدام إلى أقلام للبوح بالضمير والانتماء السياسي.
فشكلت ظاهرة “الألتراس” ذلك التعبير السياسي المباشر في الملاعب، لكونه يمثل الجانب الصريح والقريب إلى ميول الجمهور في فهم علاقة السياسة بالرياضة، لكنها أعقد بكثير مما تبدو للجمهور والمشاهد.
لهذا يمثل “الألتراس” دوما مصدر قلق للحكومات، وتنظر إليها عناصر الأمن بعين الريبة، لكونه خرج من طور التحكم، لأنه ليس تنظيما رسميا يملك مؤسسات أو له قيادات، وفوق ذلك صار له تأثير عجيب في الجمهور الرياضي والجمهور السياسي معا، فهو ظاهرة خرجت من عالم الفرجة إلى عالم التسييس.
والغريب في الأمر أن “الألتراس” يستطيع أن يجمع بين المختلف والمؤتلف، من تنظيمات سياسية مختلفة بل متناقضة، من اليمين إلى اليسار، ويعيد تركيب هذه التشكيلة السياسية والأيديولوجية في عنوان جديد، خارج عن حسابات الأحزاب وإكراهاتها الانتخابية.
لأن روح الجماعة هي التي تؤلف أعضاء مجموعة “الألتراس” وتجمعهم على حب النادي والفريق، إلى حد الولاء له والتضحية من أجله، دون انتظار مقابل عن تجريد الوفاء له، لأن العشق والحب كان سببا في التعلق به وبفريقه، وقد يصير هذا التعلق عقيدة تسري في دماء العضو والمشجع، ومنهم من يسقط صرعى لجنونهم الرياضي لاسيما عندما ينهزم النادي.
وروح الجماعة هي ما يجعل من فكرة الزعيم غير واردة في تنظيمات “الألتراس”، ومن ثم تغيب أيّ نزوعات أو تطلعات فردية للأشخاص، ويتم تعويضها بمجموعة قيادات يعتبرون من المؤسسين، يختفون مع ظهور قيادات أخرى تشتغل في إطار فريق، يوزعون الأدوار بينهم في مراحل متعددة تبدأ قبل حلول موعد المباراة، وأثناء اللعب، وبعد انتهاء المباراة، وهي أدوار تتوزع ما بين ما هو فني، وما هو إداري، وما هو لوجيستي.
لكن يبقى السؤال محيرا عن كيفية اختيار القيادات التي تسير هذه المجموعات، وما صفاتها، وهل يتم استبدالها كنوع من التناوب والتداول على القيادة، وهل يشترط تكوين ما فيها وخاصة ما يتعلق بانتمائها السياسي، وكيف يتم التوافق على الشعارات والقرارات والمواقف التي تتخذها المجموعة، ومن يكتب لها أغانيها السياسية أو الترويجية أو الاستعراضية؟
كلها أسئلة تبقى معلقة وخاصة بكل مجموعة وبكل فريق، مع تأكيدنا على فرادة هذه الظاهرة في العالم، وعلى خروجها عن التنظيم الرسمي، فهي كالبنية المارقة التي خرقت القواعد والقوانين المعروفة، وهيأت لنفسها أعرافا خاصة بها.
وما يرسخ فكرة الخصوصية التنظيمية لـ”الألتراس”، أنها بعيدة عن الأضواء وليست طرفا في النقاش العمومي، ولا تخاطب الإعلام والصحافة، بل لا توجد عنها كتابات أو تحقيقات معمقة ومفصلة، لأنها اختارت أن تكون في الظل، وتشتغل في الخفاء، وهذا ما يزيد من حكامتها وسريتها وفجائية قراراتها.
يبقى التخوف فقط واردا بخصوص استقلاليتها كليا عن التبعية لأطراف خارجية ذات ميول سياسية معينة، بحكم صعوبة تحقيق إجماع بين مناصري المجموعة، وتداول الرأي بينهم بشكل ديمقراطي، مما يفتح المجال والشك حول طبيعة التفكير داخل نواة المجموعة، وفي غياب تأطير فكري للمجموعة داخل فضاءات تكوينية مناسبة.
فاحتمال تسييس مجموعات “الألتراس” ممكن، أمام ورود تجارب بارزة في الساحة الكروية، في العالمين الغربي (سلفادور وهندوراس) والعربي (الزمالك مع الأهلي)، ثم نظرا للقوة الاستقطابية التي تتمتع بها في جلب الأنصار والمنتمين، مما يجعلها خزانا للأصوات التي تسيل لعاب الأحزاب.
وقد يتم توظيف هذه المجموعات في إطار الشغب والفوضى والتخريب، وإذكاء روح التعصب والكراهية، مما يخرجها عن روح الفرجة إلى غياهب الجريمة، والأنظمة السياسية السلطوية بدورها تقوم بتوظيف هذه التظاهرات الرياضية من أجل إلهاء الشعوب وممارسة التخدير، بشغلهم بانتصارات زائفة ومعارك وهمية، باسم الوطنية والهوية والتاريخ، وكل ذلك على حساب قضايا كبرى تحتاج إلى حل وإلى تدخل حكومي شجاع.
غير أن ما لا يستطيع أحد حجبه في ظل ديناميكية “الألتراس” أنه في غياب تواصل حقيقي وصريح مع الشباب، فمن الممكن أن يتحول إلى فاعل سياسي، من خلاله سيجد الشباب هيكلا تنظيميا مناسبا، ينمي شعورهم بالانتماء إلى فضاء يوفر لهم الحرية والتعبير والدفء المفقود، مما يجعل من “الألتراس” حركة سياسية أكثر من تنظيم رياضي.
العربي إدناصر
كاتب مغربي
فقد صارت كرة القدم فتنة الجماهير وأفيون الشعوب، وتعد هذه الرياضة العالمية إحدى عجائب القرن الماضي التي أثرت في بنية المجتمعات، وساهمت في خلق ذلك المواطن الكوني الممتد والعابر للقارات، الذي يجمعه دفء الملاعب والمشاهدة، ولا تقيده الحدود والمسافات، وتعنيه فقط متعة اللعبة الذكية الفاتنة.
مما عزز من قيمة هذه الرياضة، فانزاح بها إلى أتون القول السياسي والنقد الاجتماعي، وظهرت تنظيمات للمشجعين بوعي سياسي صريح، إلى جانب فرق وأندية بهموم سياسية وقومية واضحة، فكثر الفاعلون في المستطيل الرياضي، وبتنا نرى الأقدام السياسية تلعب الكرة في الملاعب وليس داخل الأحزاب والبرلمانات، واختلطت لغة الخطاب السياسي بالأهازيج والشعارات التي تصدر من المدرجات في الملاعب.
لكن السؤال المر في علاقة الكرة بالسياسة هو من يستخدم الآخر؟
الأغنية السياسية والبوح الاجتماعي
لوحة للفمام ريم يسوف
شكلت الأغنية السياسية منذ سنوات الرصاص أو قبلها في المغرب فنا للاحتجاج والتعبير عن الغضب، إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشباب الواعون بضرورة التغيير، وقد كانت لأغاني المجموعات في عهد الستينات والسبعينات لسان حال الشعب وليس النخبة، بوصفها تحمل هموم الأغلبية الساخطة والساحقة على الأوضاع القائمة حينذاك.
وفي ذلك أنشدت وغنّت مجموعة شبابية أغاني بنَفس احتجاجي قوي، وتحمل رسائل سياسية معينة، وذلك فيما يعرف فنيا بالمغرب بالظاهرة “الغِيوانية”، مع إبداعات فرق “ناس الغِيوان” و”جيل جيلالة” و”المشاهب” بالعربية، أو ظاهرة “تازْنْزارْت” التي غنت بهذا الشجن باللسان الأمازيغي.
وهذا النوع من الفن الملتزم كما يسمّى، ظل موصول الصلة مع أشكال تعبيرية جديدة، حيث انتقل من المسارح والقاعات والساحات العمومية وفي الهواء الطلق، ليظهر فجأة في أماكن أخرى مفتوحة وأكثر كثافة وتنظيما، حيث صدحت بها ملاعب كرة القدم، التي ما عادت تحتضن فقط مباريات اللاعبين الرياضيين وفِرقهم، بل أضحت تهتم كذلك بقضايا اللاعبين السياسيين وأحزابهم.
وما يلفت النظر إلى هذه الظاهرة الجديدة، هو أنها نقلت النقاش السياسي إلى أماكن غير الأماكن التقليدية التي تشهد أطوار النقاش العمومي في قضايا الشأن العام، بما يعني أن المُواضعات السياسية تغيرت مع تغير القضايا، فتغير المقال بتغير المقام.
وبما يعني أيضا أن ثقافة الحزب كما هي متعارف عليها تبدلت موازينها وأحكامها وتقاليدها، فلم يعد للزعيم الحزبي والتاريخي مكان داخل جماعات “الألتراس” في الملاعب، كما حل عِشق الفريق محل الانتماء للحزب، وتحولت بيروقراطية التنظيم الحزبي إلى انسيابية مرحة لعشاق الفريق الكروي.
وإذا كانت البرلمانات تعرف نقاشات حادة في مواضيع الميزانية والسياسات العمومية وقضايا الهوية مثلا، فإن لقاءات “الدِّيربي” في الملاعب بدورها لا تمر دون إشارات سياسية قوية، تحملها أهازيج تصدح بها حناجر عشاق المستديرة، أو تحملها يافطات ولافتات و”تِيفُووَات” الفرق، تعبّر من خلالها عن حقها في البوح في الموضوع السياسي، بما يجعل منها نوعا من صناعة الرأي العام، الموازي للذي يصنع في دهاليز البرلمان، وعلى أمواج الإذاعة وشاشات التلفزة العمومية.
لكنْ ثمة عنصر جديد دخَل في معادلة البوح السياسي، وهو أن الأغنية السياسية في الملاعب سرعان ما تدخُل في مساحات شاسعة داخل الوعي العام، تخرج عن نطاق البلد المنظم لتعانق بلدانا أخرى مستضيفة، وتجد نفسها في موعد مع جمهور مفترض في العالم الرقمي، يشاركها الشجن نفسه ولو اختلفت التفاصيل.
إذ لما انغلقت أبواب البوح المُرّ داخل قنوات الإعلام العمومي انفتحت بالمقابل أبواب الشبكية العنكبوتية، لتشكل منصة للتعبير السياسي للجماهير الغاضبة، بما يشبه نوعا من “الدفء الرقمي” و”العناق الإلكتروني” حول قضايا مصيرية وفي أحزان مشتركة تنضوي تحتها أطياف شبابية بالخصوص ذات وعي سياسي حاد، لم تعد ترى في الحزب إلا آلية للتدجين السياسي وشراء الذمم.
وهكذا تابع الملايين من المشاهدين وتفاعلوا وتداولوا أغنية ألّفتها ولحّنتها وصدَحت بها حناجر “الجرد الأخضر” كما يسمى في عالم الكرة، بمناسبة رياضية لفريق الرجاء البيضاوي المغربي، وكان عنوانها كافيا لحصر هموم قطاع واسع من الجمهور السياسي.
إذ غدت بعد ذلك أغنية “في بلادي ظلموني” أيقونة الأغنية السياسية الشبابية، وأصبحت لسان حال جمهرة الشبيبة السياسية في الملاعب وفي المدارس وفي الشوارع، ثم باتت حديث الإعلام والصحافة في العالمين العربي والغربي، وكأنها خطاب سياسي لشخصية كارزمية، أو قصة واقعية لحدث مأساوي.
فما الذي يجعل من هذا النوع من الاحتجاج كصحوة أو صيحة للجماهير التي غادرت الحزب وما حمل، وتوجهت إلى الملاعب لتنشد لحن الغضب الأخير، وتُوجه من خلاله رسائل إلى من يهمه الأمر؟
هل لأن الأحزاب أضحت غُرفا لأولي القُربى ومَطية للوصول إلى الكراسي، أم أنها أفرغت من مضمونها النضالي النبيل بفعل فاعل؟
أم أن الفرجة السياسية التي أدخلت السياسة إلى منطقة العدم واللاجدوى فرضت على الفرجة الرياضية بأن تتولى مسؤولية التوعية، وإحياء الضمير السياسي الحر داخل أوساط الشباب بالخصوص الذي عزف عن العمل السياسي الحزبي، لكنه وجد نفسه بلا محام أما القضايا العالقة والشائكة التي يعج بها الواقع المرير؟
ثم كيف سمحت جماهير الملاعب عن حقها في الفرجة، لتلج بؤر “القلق السياسي”، هل لأن المرارة اختلطت بالمرح، أم أن الأشواط الكروية صارت بعناوين المرح والمرارة، شوط لهذه وشوط لتلك، في انتظار إعلان نتيجة المباراة بين المولاة والمعارضة؟
وكيف صار بمقدور هذه الرياضة أن تكون مجمع الضمير الوطني والكوني، وكيف يمكن أن يصنف هذا الهوس الجمعي في الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية، بل وفي إطار البحث السياسي بحكم الصلة بين الجمهور الرياضي والجمهور السياسي؟
لقد كتب غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” أن نضالها هو “القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أيّ شيء، وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير” (سيكولوجية الجماهير، ص 44).
وقد صدق تحليل لوبون، فها هي جماعات “الألتراس” تغزو الملاعب والشوارع، لتعلن عن الجمهور السياسي في قلعة نذرت نفسها للفرجة، لكنها فرجة بمعنى ثُقب إلى عالم السياسية.
“الألتراس” صوت ينادي من بعيد
لوحة للفنان ريم يسوف
“الألتراس” كلمة من أصل لاتيني، وتعني المتطرفين أو الأشخاص فوق العادة، وارتبطت بمجموعات مشجعي النوادي الرياضية، التي تعلن انتماءها وولاءها الشديد لها، خصوصا في رياضة كرة القدم.
ويرجع أول ظهور لظاهرة “الألتراس” إلى سنة 1940 بالبرازيل، أو قبل ذلك حسب اختلاف الروايات، ثم انتقلت إلى القارة الأوروبية، ومنها انتقلت عربيا إلى أفريقيا مع أول تجربة في تونس، وبعدها تحولت إلى آسيا في الأردن.
ومنذ انطلاق مباريات كأس العالم سنة 1930 ظلت الملاعب فضاءات للسياسة، فاللاعبون والفرق هم نواب عن الأمة وعن الأحزاب، تحركهم فنياتهم كما تحركهم دوافعهم السياسية، والجمهور من ورائهم قوى سياسية مشجعة على اللعب، لكن أيّ لعب؟
فهناك رسائل سياسية تنبع من مدرجات الملاعب، وتترجمها حماسة اللاعبين في المستطيل، ومرمى الخصم وجهة مفضلة للأهداف السياسية المستبطنة، وقد جرت لقاءات نادي برشلونة ونادي ريال مدريد على هذا المنوال لعقود طويلة، فالتعادل والانتصار يكون بطعم سياسي واضح، مادام الفريق مدفوعا بهموم الإقليم والمصير، مما جعل من الملعب محفلا للشكيمة والتظلم وإعلان المواقف.
بينما ترقب الحكومة الكتالونية والحكومة المركزية في مدريد أشواط اللعب وأقدام اللاعبين، وكأن كرة السياسة تدحرجت إلى الملاعب لثقلها على المؤسسات التقليدية، فتلعب بقوانين غير قوانين الفيفا، حيث يحضر المكر والعنف والعداوة، وتتحول الأقدام إلى أقلام للبوح بالضمير والانتماء السياسي.
فشكلت ظاهرة “الألتراس” ذلك التعبير السياسي المباشر في الملاعب، لكونه يمثل الجانب الصريح والقريب إلى ميول الجمهور في فهم علاقة السياسة بالرياضة، لكنها أعقد بكثير مما تبدو للجمهور والمشاهد.
لهذا يمثل “الألتراس” دوما مصدر قلق للحكومات، وتنظر إليها عناصر الأمن بعين الريبة، لكونه خرج من طور التحكم، لأنه ليس تنظيما رسميا يملك مؤسسات أو له قيادات، وفوق ذلك صار له تأثير عجيب في الجمهور الرياضي والجمهور السياسي معا، فهو ظاهرة خرجت من عالم الفرجة إلى عالم التسييس.
والغريب في الأمر أن “الألتراس” يستطيع أن يجمع بين المختلف والمؤتلف، من تنظيمات سياسية مختلفة بل متناقضة، من اليمين إلى اليسار، ويعيد تركيب هذه التشكيلة السياسية والأيديولوجية في عنوان جديد، خارج عن حسابات الأحزاب وإكراهاتها الانتخابية.
لأن روح الجماعة هي التي تؤلف أعضاء مجموعة “الألتراس” وتجمعهم على حب النادي والفريق، إلى حد الولاء له والتضحية من أجله، دون انتظار مقابل عن تجريد الوفاء له، لأن العشق والحب كان سببا في التعلق به وبفريقه، وقد يصير هذا التعلق عقيدة تسري في دماء العضو والمشجع، ومنهم من يسقط صرعى لجنونهم الرياضي لاسيما عندما ينهزم النادي.
وروح الجماعة هي ما يجعل من فكرة الزعيم غير واردة في تنظيمات “الألتراس”، ومن ثم تغيب أيّ نزوعات أو تطلعات فردية للأشخاص، ويتم تعويضها بمجموعة قيادات يعتبرون من المؤسسين، يختفون مع ظهور قيادات أخرى تشتغل في إطار فريق، يوزعون الأدوار بينهم في مراحل متعددة تبدأ قبل حلول موعد المباراة، وأثناء اللعب، وبعد انتهاء المباراة، وهي أدوار تتوزع ما بين ما هو فني، وما هو إداري، وما هو لوجيستي.
لكن يبقى السؤال محيرا عن كيفية اختيار القيادات التي تسير هذه المجموعات، وما صفاتها، وهل يتم استبدالها كنوع من التناوب والتداول على القيادة، وهل يشترط تكوين ما فيها وخاصة ما يتعلق بانتمائها السياسي، وكيف يتم التوافق على الشعارات والقرارات والمواقف التي تتخذها المجموعة، ومن يكتب لها أغانيها السياسية أو الترويجية أو الاستعراضية؟
كلها أسئلة تبقى معلقة وخاصة بكل مجموعة وبكل فريق، مع تأكيدنا على فرادة هذه الظاهرة في العالم، وعلى خروجها عن التنظيم الرسمي، فهي كالبنية المارقة التي خرقت القواعد والقوانين المعروفة، وهيأت لنفسها أعرافا خاصة بها.
وما يرسخ فكرة الخصوصية التنظيمية لـ”الألتراس”، أنها بعيدة عن الأضواء وليست طرفا في النقاش العمومي، ولا تخاطب الإعلام والصحافة، بل لا توجد عنها كتابات أو تحقيقات معمقة ومفصلة، لأنها اختارت أن تكون في الظل، وتشتغل في الخفاء، وهذا ما يزيد من حكامتها وسريتها وفجائية قراراتها.
يبقى التخوف فقط واردا بخصوص استقلاليتها كليا عن التبعية لأطراف خارجية ذات ميول سياسية معينة، بحكم صعوبة تحقيق إجماع بين مناصري المجموعة، وتداول الرأي بينهم بشكل ديمقراطي، مما يفتح المجال والشك حول طبيعة التفكير داخل نواة المجموعة، وفي غياب تأطير فكري للمجموعة داخل فضاءات تكوينية مناسبة.
فاحتمال تسييس مجموعات “الألتراس” ممكن، أمام ورود تجارب بارزة في الساحة الكروية، في العالمين الغربي (سلفادور وهندوراس) والعربي (الزمالك مع الأهلي)، ثم نظرا للقوة الاستقطابية التي تتمتع بها في جلب الأنصار والمنتمين، مما يجعلها خزانا للأصوات التي تسيل لعاب الأحزاب.
وقد يتم توظيف هذه المجموعات في إطار الشغب والفوضى والتخريب، وإذكاء روح التعصب والكراهية، مما يخرجها عن روح الفرجة إلى غياهب الجريمة، والأنظمة السياسية السلطوية بدورها تقوم بتوظيف هذه التظاهرات الرياضية من أجل إلهاء الشعوب وممارسة التخدير، بشغلهم بانتصارات زائفة ومعارك وهمية، باسم الوطنية والهوية والتاريخ، وكل ذلك على حساب قضايا كبرى تحتاج إلى حل وإلى تدخل حكومي شجاع.
غير أن ما لا يستطيع أحد حجبه في ظل ديناميكية “الألتراس” أنه في غياب تواصل حقيقي وصريح مع الشباب، فمن الممكن أن يتحول إلى فاعل سياسي، من خلاله سيجد الشباب هيكلا تنظيميا مناسبا، ينمي شعورهم بالانتماء إلى فضاء يوفر لهم الحرية والتعبير والدفء المفقود، مما يجعل من “الألتراس” حركة سياسية أكثر من تنظيم رياضي.
العربي إدناصر
كاتب مغربي