بهاء المري - روبٌ وجلباب..

يَشرد؛ فتمثل أمام ناظريه صورة والده وهو مَحنيٌّ في الحقل يعمل أجيرًا، وصورة الأمِّ وهي تُتاجرُ في عدد قليل من الدجاج الأبيض تبتاعه من صاحب المزرعة التي يعمل بها والده ولمَّا تنتهي منها تبتاع غيرها وهكذا، فيفيق على قُوةٍ داخليةٍ تجعله يزيد من فترة حبسه الانفراديِّ الذي فرضهُ على نفسه مع كُتبه.
صورة شقائهما تؤلمه، ولكنَّ فرحتهما بتفوقه كانت تُهدِّئ من روعه، كان يراه بَلسمًا يداوي في نهاية كلّ عام بعضًا من جراح ذلك الشقاء فعزم على استمراره تكريما لهما وسبيلاً ليحمل من خلاله بعضًا من أعباء تربية إخوته الخمسة.
يُدركه أحدهم في أثناء وقوفه أمام باب الكلية في انتظار أتوبس النقل العام، يدعوه إلى توصيله بسيارته فيرفض؛ وبعد إلحاح يوافق منعًا لإحراجه.
يحدِّثهُ زميله والسيارة تتهادَى على الطريق عن سُخرية زملائه منه لانطوائه وعُزلته عنهم ونظرتهم إليه بصفته شخصًا من الزمن البائد فكيف لا يخرج معهم الى المتنزهات، وكيف لا يشارك مثلهم في الأنشطة الطُّلابية، حتى الفاصل بين المحاضرات يقضيه في المكتبة ولا ينعَم به.
يدير عينيه إلى اليسار ناحيته؛ ليراه وهو يَتقيأ الحروف استكمالاً لما بَدأ: لِمَ تحبِسْ نفسكَ هكذا؟ لِمَ تحرمها من أيّ مُتعة ولو كانت بعض المرح كما نفعل؟ ما جدوى التفوُّق وأنتَ لا تملك "واسطة" تمكنك من السيطرة؟
يشيح بوجهه إلى الناحية الأخرى كاظمًا غيظه، يسحب نفَسًا عميقًا يُخرجه زَفرة طويلة؛ وهو يرى والده في مزرعة الدجاج وعرقه يتصبب من جبينه ينظر إليه بابتسامة طيبة وبجواره الأمّ تنظِّف أواني السِّقاية وتشكو إلى الله ما بها، يعود ببصره إلى الأمام في صمت ولا ينبس بحرف.
ينطلق زميله بالسيارة مُسرعًا. يرفع صوت مُشغِّل الأسطوانات تنتفضُ السماعات بموسيقى غريبة وكلمات ركيكة، يتراقص معها ويردِّد كلمات الأغنية الهابطة.
يتفرَّس ملامح زميله كأنه يراه لأول مرة. يشعر أنه الآن أكثر تفاهة مما رآه من قبل. تشرد عيناه مع رقصة أخرى لسيقان الخُضرة وهي بين يديّ أبيه والنَّسيم يمرح معها، تصرخ نظراته في وجه زميله: لو كان والدك يَشقَى شقاء والدي منذ الصباح يوميًا حتى الغروب لقاء أجر زهيد، وأمُّكَ تُجاهد معه ليُطعما ستة أفواهٍ نَهِمَة، ويحرصا على تعليمهم وبلدتك ليس فيها مدرسة فتمشي على قدميكَ عِدَّة كيلو مترات في عِزّ البرد وعِزّ الصيف؛ لتبلُغ أخرى فيها مدرسة، وكان دولاب ملابسك عبارة عن مسمار على الحائط، وملابسك الجديدة هي ما يَضيق على ابن أحد الجيران، هل كنت سترقص هكذا؟
يفيق على انخفاض صوت المذياع. تَتوقَّف السيارة أمام المدينة الجامعية، يُخاطبه زميله بحدَّة مُنتقدًا شروده: أين كُنت؟ لقد وصلنا إنزل. ثم يُعقِّب ساخرًا: أقصد عُد إلى سِجنك.
تمرُّ الأيام ويحين وقت الحصاد؛ هو الأول على أقسام الكلية الأربعة.
وسط حضورٍ كثيفٍ يُكرِّمه العميد، يُسلمه درع الجامعة وشهادة تقدير، تنساب دموعه على خدَّيه في صَمْت، يزيحها بيدٍ ثابتةٍ حاسمة وهو يهبط دَرَج المنصَّة، يخلع الرُّوب الجامعيّ وهو يُغادر، يَشُقُّ الصُّفوف مُتلهفًا؛ ليصل إليهما، ينهض والده واقفًا، فيتلقفه بين أحضانه ويُقبِّل يديه ورأسه، يحتضن الأم ودموعه تسيل على خدَّيه يُلبِسُها الرُّوب ويسلِّمها الدِّرع والشهادة.
الصورة لافتة، ينتبه الحضور، روبٌ وجلباب، يهرعون بالوقوف يُصفِّقون في هيستيريا، التصفيق يَرجُّ القاعة، ترتسم على وجوههم ابتساماتٍ دامعة، يحسبونها أمَّه، لا يعلم أحد أنها زوجة أبيه التي ربَّتهُ بعد موت أمِّه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى