أمين الزاوي - الثرثرة في الكتابة الروائية العربية

هل الكتابة العربية السردية ثرثارة؟ هل الرواية العربية تعاني زيادة في الوزن؟ هل الرواية تحتاج إلى حمية طبيعية ملحة؟
إن الكتابة الجميلة الخالدة تحتاج إلى "اقتصاد" في اللغة و"الاقتصاد" في اللغة لا يعني "تقليم" أظافر الكتابة الشرسة، "الاقتصاد" في اللغة لا يعني "الرقابة الذاتية" التي تضع الكمامة على أنفاس الكتابة، إن الاقتصاد في اللغة الروائية يعني وجوب وجود الكلام الواجب في المقام الموجود، سرد يفي بما يتطلبه السياق الاجتماعي والنفسي والسياسي والموسيقي في اللحظة الروائية للشخوص وللمكان وللذاكرة.
والاقتصاد في السرد ليس هو وحده مفتاح النجاح وضمانه والإفراط في الإنشاء لا يعني القدرة على الكتابة، إن منطق الكتابة السردية يتطلب حدساً خاصاً لمساحة المقام الروائي من جهة وحجم الكلام من جهة ثانية وتوليد حال من التناغم والتماهي بينهما، وتلك واحدة من أسرار جماليات الكتابة السردية وعبقريتها.
في شمال أفريقيا والشرق الأوسط كثرت الكتابات الروائية وتعددت، خصوصاً منذ مطلع الألفية الثانية، حتى أضحى عدد الروائيين أكبر من عدد القراء!، بل أصبح الروائيون لا يقرأون حتى لبعضهم بعضاً، وفي مثل هذه الحمى التي تشبه التسابق في مسافات الألف والمئة متر بين الروائيين تكثر الثرثرة في النصوص من أجل ملء البياض وتفريخ الكتب.
حيال هذا السباق المتهافت المعلن والمستتر تبدو نصوص سردية عربية كثيرة تعاني انتفاخاً في البطن يشبه انتفاخ الحمل الكاذب.
تشرع في قراءة رواية ما، وأتحدث هنا عن روايات الكتاب المكرسين خصوصاً الذين يؤثثون جميع بلاتوهات القنوات التلفزيونية يومياً والذين يدعون إلى جميع معارض الكتب! وبعد 10 صفحات تشعر بنوع من الملل وأنت تدور في ما يشبه الفقاعات اللغوية، فتقرر القفز على 10 صفحات محاولاً تجاوز المعاناة، فتسقط على رأس فصل آخر جديد وتبدأ بالقراءة فتشعر وكأنك ما قفزت على كل تلك الصفحات وكأنك لم تغير موقع القراءة أصلاً. مثل هذه الروايات تشبه "ثرثرة" الجارات على عتبات البيوت!
مع إغراق السوق بالروايات وبشكل فوضوي يفرضه سباق محموم مع مواعيد المعارض التي تقام كل ثلاثة أسابيع تقريباً في بلد عربي أو مغاربي وسباق أيضاً مع مواعيد إغلاق باب الترشحات للجوائز، يشعر القارئ وكأن الكتابة الروائية العربية تدور أكثر فأكثر في الكلام المعلق في لغة لا تحيل على شيء، السرد غير مشبوك لا بالواقع ولا بسؤال المعرفة ولا بالتجربة الذاتية أو الجماعية.
إن سقوط الرواية العربية وبالعربية في مرض الثرثرة سببه أيضاً ذلك "التشعرن" المفتعل الخارج عن السياق الاجتماعي والسيكولوجي الذي يلتجئ إليه بعض الكتاب لتضخيم حجم النص وهي "شعرية مصطنعة"، مليئة بالتأوهات والعبارات الشعورة الجاهزة....
هذا "التشعرن" الثرثار أسقط الرواية في إنشاء من "الرغوة" اللغوية المشكلة من فقاعات الكلام من دون ارتباط بالواقع ولا إحالة على ما يصنع الحياة الفردية أو الجماعية.
قد تكون "الثرثرة" لعبة جمالية في بعض فصول الرواية، وهذا فعل جمالي محبذ، وهو فن يدركه قليلون، لكن أن تتحول الرواية نفسها إلى ثرثرة فذلك هو مأزق الكتابة وتلك هي حفرة الرواية ومقبرتها.
أجمل الروايات تلك المنحوتة بشكل عال من دون زيادة في حجم الأطراف ولا في الأرداف ولا في الابتسامة، وفي هذا الباب يمكن ذكر بعض عناوين روايات جميلة وناجحة وخالدة بأحجام صغيرة على سبيل المثال رواية "العجوز والبحر" لهمنغواي لا يتجاوز عدد صفحاتها 148 صفحة ورواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم لا يتجاوز عدد صفحاتها 168 صفحة ورواية "تونبوكتو" لبول أوستر لا تتجاوز المئة صفحة ورواية "المسخ" لكافكا 190 صفحة ورواية "الكونتراباص" لباتريك شوسكيند 92 صفحة ورواية "الغريب" لألبير كامو 159 صفحة ورواية "في معارضة الغريب" لكمال داوود 160 صفحة وغيرها.
لكن الحجم الصغير في الرواية لا يعني النجاح ولا يعني الخلاص من الثرثرة أبداً، بل الأمر يتوقف أساساً على عبقرية الروائي وعلاقته باقتصاد اللغة وبالبناء العام لشخوص الرواية والفلسفة التي تؤطرها، وفي المقابل لا يعني أن الروايات ذات الحجم الكبير هي روايات ثرثارة، فهناك روايات عالمية تمتد على مئات الصفحات ويشد بناءها خط جامع مدهش وهندسة معمارية قوية، ومن الأمثلة على ذلك روايات "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي (700 صفحة) و"الحرب والسلم" لتولستوي (2000 صفحة) و"في البحث عن الزمن الضائع" لبروست (3000 صفحة) ورواية "البؤساء" لفيكتور هيغو (2000 صفحة) وغيرها، وهي روايات تُقرأ بنهم في لغات مختلفة ولدى أجيال مختلفة أيضاً.
أعتقد بأن الرواية العربية مطالبة بالتزام حمية جمالية صارمة، ويشترك في فرض هذه الحمية كل من الروائي بإعادة النظر في نصوصه وممارسة النقد الذاتي على مساره والناشر الذي عليه أن يدقق ما يتم نشره بعيداً من هاجس التجارة وحمى الجوائز والمعارض والناقد الجامعي أو الإعلامي الذي من واجبه التنبيه إلى هذه الظاهرة الأدبية المرضية الخطرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى