عبدالنبي النديم - أهــــل الله

أهرول مسرعا أحاول اللحاق به .. أشير إلى السائق عله يراني فى المرآة بيدى اليسرى .. ممسكًا بيدى اليمنى الحقيبة المعلقة بكتفي .. تتعثر قدمي وتلتوي تحت وطأة ثقل جسدي لتزداد ابتسامة حذائى ويخرج منها إبهام قدمي ..
أحاول مع خطواتي المتسارعة السيطرة على انفلات قدمي من الحذاء ليحتك بالأسفلت، أرتكز على قدمي الأخرى مقللا الاعتماد على المصابة .. يهدئ من سرعته فوق مطب صناعي ..
أقفز إلى داخل الأتوبيس أمسك بالقضبان الحديدية على السلم أحاول السيطرة على استقرار توازني بين الأجساد المتراصة ألتقط أنفاسي أحاول أن أستقر بين الركاب وأسحب إصبعى من فم الحذاء بعد أن عجزت على الإنحناء نتيجة الزحام لأصلحه بيدى .
أنسلخ بين الأجساد المتلاحمة بالأتوبيس ، مقتربا من المحصل واضعًا يدى داخل جيبي .. أسحبها برفق قابضا على جنيهين .. كل ما أملك .. أضع أحدهما أمام المحصل وأطبق الآخر برفق واضعه فى جيب قميصي أتحسس جيبي من الخارج لزيادة الاطمئنان لاستقراره .. فهو وسيلتى فى طريق العودة وأعتمد عليه ..
أحاديث متفرقة .. ومشاحنات قصيرة بين الركاب .. قد تطول بعض الشئ إذا كان طرفاها أو أحدهما امرأة .. وكلمات التهدئة تخرج من كل جنبات الأتوبيس سائلين الطرفين الصلاة على النبي .. أغمض عيني .. صل الله عليه وسلم .. اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد النور الأتم والأعم والأشم مفرج كل هم وعلى آله وسلم .. هدوء الزحام سيطر على شارع الأزهر ووكالات الأقمشة امتلات عن آخرها تعج بالزبائن .. وسيارات الأجرة أغلقت الطريق عند مهبط الكوبرى بالغورية .. مشادات ومعارك بين السائقين على الزبائن وإهمال تام للطريق ..
نتحرك ببطء .. أنظر إلى مدخل الغورية .. المباني العتيقة التى تفوح منها رائحة التاريخ وعبق الزمان .. أردد مع نفسى بصوت مسموع .. أهالينا زمان لو كانوا عرفوا إن هيبقى فى زحمة كده كانوا وسعوا الطريق شوية ..
ازدادت حدة المشاحنات .. تدخل بعض العاملين بالمحلات للفض والصلح .. لكن يبدو أن الأمر يتطور .. أعرف ما سيحدث .. «يا ما دقت على الراس طبول» .. أهبط مسرعًا من الأتوبيس .. أعبر الطريق إلى الجهة الأخرى بعيداَ عن المشاجرات التى ستندلع ..
أسرع الخطى .. أدخل الى الشوارع الضيقة والمتشابكة بخان الخليلى مختصرًا الطريق للحاق بصلاة العصر فى مسجد مولانا الإمام الحسين ..
أتحسس جيب قميصي بيدي اليسرى للتأكد من استقرار الجنيه فى مكانه ..
أحاول أن أبعد بتفكيري عن كلمات جدي بابتسامة .. لكن صداها ما زال بأذنى رغم مرور أكثر من عشر سنوات عليها .. «أوعى الجنيه يستعبدك إن حطيته فوق راسك خسف بيك الأرض .. وإن حطيته تحت رجليك رفعك لسابع سما» ..
أبتسم ثانية محدثًا نفسي بصوت مسموع .. هو لو الجنيه معايا كانت جزمتي ضحكت؟!
أعود وأتحسس جيبي ..أبعد عن سمعي صدى كلمات جدي.
أنظر إلى قدمي، أهدئ من سرعتى حتى لا يهرب إبهامى ثانية من حذائى المبتسم .. تلوح من بين ثنايا الحارة مئذنة مسجد سيدنا الحسين بن على رضى الله عنه وأرضاه.
أهرول للحاق بالصلاة .. وبجوار المقام بعد الصلاة أتخذ مكانى ساندا ظهرى إلى الركن الشمال الشرقى أتوجه إلى صاحب المقام ..أتملى من نوره .. أنشد السكينة فى رحابه وصفاء نفسى فى لقائه .. أملأ صدرى بنفس عميق من رائحة المسك والطيب التى تفوح فى المكان لتبعث الراحة فى صدري وصدور المريدين .. أتنقل بين حبات سبحتي .. أنير قلبى بذكر الله .. وأحيى روحى بالصلاة والسلام على خير خلق الله صل الله عليه وسلم ..
يخطفنى الزمن .. ويتسرب الوقت وأنا فى رحاب سيد شباب أهل الجنة ..
أفيق على صوت أحد المريدين ... مداااااااااااااااااااد ..
أهبط إلى الدنيا أنظر إلى الساعة .. داهمني الوقت .. فقد قرب موعد وصول شيخي .. ألتقط حقيبتي، استأذن صاحب المقام فى الإنصراف وأنا أتأمل صورته فى رؤياي ..
ألتقط حذائي المبتسم من على باب المسجد أحاول أن أخفي ابتسامته عن العامل بإلتقاطه مسرعًا ..
أهرول إلى المقهى المقابل للباب الأخضر .. متفاديا الباعة المفترشين الطريق ..يلتقطني عامل المقهي من بعيد .. يسرع برص الكراسي حول طاولتين متجاورتين ..لأجلس حيث ينتهي بي المجلس دائما معلقا الحقيبة بظهر الكرسي .. يضع العامل الشاى بالنعناع أمامي ..أعاود العلاقة مع سبحتي ..
من بين أعمدة البواكى يظهر شيخى يتهافت الباعة على مصافحته يفسحون الطريق أمامه .. أنهض مسرعًا فى استقباله .. ألتقط من بين يديه حقيبته الصغيرة أصافحه مقبلا على يديه .. يطمئن على حالي .. يخرج سبحته ويجلس على رأس المجلس يقبل رفاقي .. واحدًا تلو الآخر ..
يتوافد على شيخى أهل الله طالبين نفحاته من العملة الصغيرة الموجودة أمامه على الطاولة .. ولكل طالب نصيب من النفحة.
أقبلت علينا عجوز ظهرت آثارالزمن جلية على تجاعيد وجهها .. لم آرها من قبل هنا ..ألمح فى وجهها الطمأنينة
وما أن رآها شيخى نظر إلى ..اعطيها الجنيه اللى فى جيبك ..وبدون تردد امتدت يدى إلى جيب قميصى مخرجًا ما كنت أحرص عليه لأعطيه للسيدة العجوز بطيب نفس ..تعود العجوز من حيث أتت..
نظر إلى شيخى بابتسامة وهز رأسه لى .. قائلا: اصبر
وجلست أحاول العودة إلى سبحتى التى تتحرك بين أصابعي ..لكن بلا روح ..ذهب تفكيرى إلى طريق آخر، لم أفكر فى كيفية عودتى بعد أن ضاعت وسيلتى .. اعتمدت على الجنيه فخسف بأحلام عودتى بالأتوبيس الأرض.
أتذكر كلمات جدى ..أسخر من نفسى ..لقد وقعت فى المحظور ..أعاتبها بعدما زاغت عيني وتوقف تفكيرى حين فكرت أن أعتمد على ما فى جيبي، ونسيت من رزقني به.
أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ..اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله ..هل هانت على نفسى أن أتركها تحت مذلة ووطأة الجنيه، أطأطئ رأسى إلى الأرض..
أحاول أن أبعد تفكيرى من الاقتراب من كلمات جدى..
صرخات عميقة يرسلها ضميرى إلى كافة أوصال جسدى ..ينتفض وترتعد أطرافه .. تتقطع أحشائى وينفطر قلبى تحاول روحى مفارقة جسدى تلك الجفية التى تحيا على الملذات .. أهيم على وجهى فى دروب المعصية أجرجر أذيال الخيبة .. أحاول جاهدًا أن أخرج إلى طريق الهداية .. هل سقطت إلى هذه الدرجة من البعد عن الله والاعتماد والتوكل عليه وأعتمد على من لا يضر ولا ينفع؟
هل كنت أدعى التقوى والورع وحسن التوكل على الله والعبادة والقرب ..هل وصلت إلى هذه الدرجة من البعد للاعتماد على ورقة ملونة من صنع البشر ..
أتوه فى دروب العتاب الحاد مع نفسي، أجلد ذاتى بأسياط الألم ..أبحث عن طاقة نور تدعونى إلى طريق التوبة وأتلمس فيه طريق الصراط المستقيم ..ذهبت مع ذاتى إلى تحت التراب .. هذا مقامك ..
أفيق على صوت شيخى بابتسامته التى قد أكون أراها لأول مرة تخترق قلبي، طالبا مني العودة لذكر الله وللصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لم أنزل عينى من على وجهه، استمد الراحة واليقين لنفسي الأمارة بالسوء، من ابتسامته كالترياق لهذا الجسد العليل والنفس المريضة، علَها ترجع عما ألمت بي ..
أتحول بها مطمئنا إلى درب آخر، بدأ منذ لحظة خروج زينة الدنيا من جيبي..
أعود لسبحتى ..أنتبه لذكر الله ..أدعوه أن ينقي قلبي وينزع منه حب الدنيا والملذات ويقربني من عبادته ..أجدد نيتى إلى الله ..
يتناول رفاقي في الطريق أطراف الحديث مع شيخنا ..أبقى مع نفسي أصلح من شأني ..أهيم على وجهى بين دروب حياتي أبحث فيها عن أخطائي التى ارتكبتها.
يلحظ رفاقي شرودي ثانية ..خافوا علي من ملاحظة شيخى للمرة الثانية رغم حركات إصبعى على سبحتي .. لاحظ شيخى انتباه رفاقى .. لم يعلق وتركني قارئاً ما يدور فى نفسي.
يمر أهل الله من أمامى طالبين نفحاتهم من شيخى ..أنظر إلى لا شىء ..أفقد الوعى بالزمان والمكان ..أعود إليك ربي لترضى، وأنوب إليك مما اقترفت من ذنوب وآثام .. أطلب عفوك ورحمتك .. أبعد عنى الشرور والمعاصي .. قربني إليك .. بجاه المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
تغرغر عيونى بالدموع .. أغسل روحى بالألم وتأنيب الضمير.
أحرس ألا تخرج دموعى من مقلتى ..أستغفر الله العظيم ..اللهم إنى كنت عبدا أبقًا من رحمتك أتوب إليك .. اقبلنى من التائبين .. اللهم إن الدنيا قد زينت لي .. فأنزع من قلبى حب الدنيا والشهوات .. وأبعد روحي عن السعى وراء جنى الملذات
ينكزني صديقى برفق .. اصحى روحت فين ؟؟
رددت .. فى الدنيا ..
أجاهد مع عقلى فى العودة رويدا رويدا .. إلى ذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله ..
ألمح صديقى الذى أقبل مسرعا لتأخره أفسح له مجال لوضع كرسيه .. يتعمد الجلوس بجوارى بعد السلام على شيخنا والأحباب ..
يخرج سبحته مسرعًا يلحق بركب ذكر الله .. يطمئن هادئا ويستقر فى جلسته .. يخرج من جيبه مظروفًا أبيض ويضعه من أسفل الطاولة فى جيبى ..أنظر إليه متسائلا عن هوية المظروف؟
ينظر إلى مبتسمًا غامزاَ لى بعينه اليمني ..معلش أتاخرت عليك.
أصر على معرفة المطلوب مني بهذا المظروف وضع فمه بالقرب من أذنى هامسًا .. فلوس الشغل بتاع الشهرين اللى فاتوا.. ويعود إلى وضعه مستقرا على كرسيه .. يلمح شيخى تهامسنا.. يبتسم من جديد لى أنا مش قلتلك اطمن؟
لم أستطع الرد إلا من خلال ابتسامة رضا ملأت وجهي، أستمدها من مقام شيخي، الذي ملأ النفس باليقين، وفاض الرضا حتى اكتفيت، ونظرة من عيوني تخبره بكامل الرضا والإطمئنان وترويض النفس الأمارة.
يتوجه إلينا شيخنا جمعيا بالحديث .. يخصنى بمعظم نظراته الطويلة التى يوزعها علينا .. اجعلوا قلوبكم كالبذرة الصالحة تدفن تحت الأرض ، وتشق طريقها إلى السماء من بين قسوة الصخور .. اسقوها بالباقيات الصالحات وراعوها بالاستغفار ..احموها بلا حول ولا قوة إلا بالله .. وغذوها بالصلاة والسلام على خير خلق الله ..حتى تصبح قلوبكم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء .. تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها .. ولا تجعل شمالك تعلم ما تنفق يمينك .. ولا تجعل بينك وبين الله حجاباً .. ونقي قلبك من الصغائر ..وانتظر الآخرة عند باب القبر .. فالحياة الدنيا كما قال الله عزوجل فى كتابه الكريم «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ..» صدق الله العظيم.
يعود شيخى إلى سبحته .. وما زلنا متطلعين إليه طلبا للمزيد..
أعود وأتذكر مظروف صديقي ..
استأذن لدخول حمام المقهى .. لا لقضاء حاجتى ..ولكن لقضاء حاجة فى نفسى .. أمد يدى مسرعا إلى المظروف بجيبي أفضه على عجل .. تبرز منه عشر ورقات نقدية فئة المائة جنيه .. أنظر إلى المظروف وما يحتويه .. أترك لعيني العنان لإطلاق دموعها .. لم تتحرك شفتاي بالكلام ولكن ارتجف قلبي واعتصرت روحى من الألم .. وأنا ما زلت أنظر إلى الأوراق النقدية التى برزت من جانب المظروف الأعلى وتسمرت يداى على وضعها .. أحاول أن أسيطر على دموعى ولكن هيهات .. أضع وجهى تحت حنفية المياه، أغسل وجهى بيدى اليسري، ممسكاً المظروف بيدى اليمنى ..وما زالت دموعي تنهمر ..مددت رأسى لأغمرها بالمياه .. محاولاً السيطرة على أوصالى وغضبي من نفسي.
تهدئ المياه من روعى .. أجدد الوضوء .. أسيطر بعض الشئ على الحرب الدائرة بداخلي .. أنظر مرة أخرى إلى المظروف .. مائة .. مائتان .. ثلاثمائة .. أربعمائة .. خمسمائة .. ستمائة .. سبعمائة .. ألف..
ألملم الورقات .. أدفنها بداخل المظروف مرة أخرى .. أخرج مسرعًا .. أستقر فى مجلسى لم يفتني كثيرًا من حديث شيخي .. أنصت باهتمام إليه .. بعد أن جمعت حبات سبحتى بكف يدى .. أستمع إليه بكل جوارحي كباقي الأحباب ..
يقطع شيخى حديثه فجأة .. يمد يده إلى العملات النقدية أمامه على الطاولة، ممسكًا بورقة فئة جنيه .. ينظر إلى .. ممدًا يده لى قائلاً .. خد الجنيه بتاعك أهو .. بسرعة أمد يدى إليه .. حتى لا يستمر كثيراً فى مد يده .. أقبلها.
يستكمل حديثه إلينا ..
لكن هذه المرة انفصل حبل الوصال مع حديث شيخي وذهب عقلي بعيدا ليسيطر عليه سؤال واحد فقط .. لماذا ؟؟
العقاب أصبح مضاعفًا .. ونفسي تاهت مني ثانية.. لماذا رد إلى جنيهي بعد أن علمت قدره .. وأيقنت بأنه وسيلة فقط؟ .. وأبعد ما يكون عن الغاية .. أتذكر كلمات جدي .. أبتسم منها وأدفن ابتسامتي بصدري .. أطلب الرحمة والمغفرة لجدي من الله ..
أعود لشرودي .. جنيهاً لله .. وعاد إلى .. ألف ضعف من عند الله رزقا حلالاً طيباً .. لم أكن أنتظرها فعملي مع صديقي كان مساعدة لشخصه، لا أنتظر منه المقابل ..وأكدت له ذلك كثيراً
يطرح عقلي تساؤلات ليس لها حصر وتفسيرات لما مر به ولكن وعيت للدرس جيدا.
لا يوجد أحد على وجه الأرض يعلم بما أحمل من نقود .. وأن الجنيه كان بجيبي ليس له شقيق .. هل كان شيخى على علم بأن صديقى حمل لى مظروفا به هذ الكم من النقود ؟.. وهل شيخي وصديقي على علم بأنه سيعطيني نقودًا؟ .. ولماذا الجنيه يخرج من جيبى قبل أن أحصل على النقود من صديقي ؟ ..و .. و.. و..و .. ؟
وقفت على محطة الأتوبيس بعد أن ودعت شيخي .. مر أتوبيس بعد الآخر .. أشرت لتاكسي .. فتحت الباب الخلفي ونظرت من شباك السيارة إلى مئذنة مسجد الإمام أودعه.. رحمة الله عليكم أهل البيت ..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى