فاتن فاروق عبدالمنعم - خاسئ وحسير

كلما سمعت صوته المنفر أو رأيته بريشه الأسود تقبض صدري وضاق كأنما يصعد في السماء، الغراب الذي اقترن إسمه بالبين لا يورث في صدري إلا كل ألم وتوجس خيفة مما هو قادم، يكفي أن أراه أو أسمع صوته صباحا فأظل في حالة ترقب من قادم مجهول يقترب مني ولا أدركه.
آدم وحواء افترقا دون تقصد أربعين سنة ثم إلتقيا على جبل عرفات، فهل طالعا غرابا تعهدهما بسوء ما هما مقبلان عليه، وكيف عاش كل منهما وحيدا أربعين سنة في يباب وكل ما حولهما على الأرض بكارات بحاجة إلى الفض، من الذي أجاب لهما عن أسئلة الكشف الأولى، آدم علمه الله ما لم يعلم ولكن بقيت التفاصيل موصدة، لا أستطيع تصور حياة كل منهما منفردا خلال سنوات التيه كيف كانت؟ أم أن برقية الملل الذي يكتنف البعض منا أحيانا لم تصلهما بعد، وقلبيهما فواحان بالنقاء، ولسانيهما شفيفا اللفظ والمعنى، والنسائم التي تلفحهما رطيبة لم تتلوث بأنفاس ذريتهما الذين جاسوا خلال كل أنواع الآثام، مازلت أسال بلسان طفل حوله الكثير من الإبهام.
مازالترؤية الغراب وصوته يستثير في الخوف من المجهول، ولأول مرة أتوقف مع نفسي عندما تأملته من جديد تذكرت عندما قتل قابيل هابيل وجد نفسه أمام مشكلة، ماذا سيفعل بأخيه الذي هو مزيج من طين ودم وماء، إن لم يتصرف على الفور فإن هذا المزيج لابد أنه سيتفكك ويعود إلى أصله وهو الذي لن يطيق رائحة الحمأ المسنون، فلن يرى منه سوى جملة من السوءات، فكيف يواري سوأة أخيه، حمله على ظهره وظل يجوب آفاقه المحدودة منذ إشراقة الأرض بنور ربها وحتى بداية إيلاج الليل في النهار كي يدمغ الكون بظلمته، فأرسل الله إليه غرابا يحمل آخر ميتا على مدد شوفه ويحفر في الأرض كي يوارى سوأة المتوفي فتعلم منه كيف يقبر المتوفي ونفذ ما رأته عيناه.
2023 أرسل الله الغراب مرة أخرى كي يبشرنا ببين نتوق إليه توقنا للجنة، تلك الراية البيضاء، راية البهت المؤطرة بخطين زرق اللون، يتوسطها نجمتهما الشهيرة فوق الساري الممتد لأعلى فوق مبان مشهرة كي يراه الغادي والرائح، فيقوم بنزعها بمنقاره إيذانا بالزوال المرتقب، ثم يتتبع وجوده في أكثر من موضع فيقوم بنزعها لتلقى بالأرض في كل مرة كي يكون ممسحة للأحذية أو يبول عليه الخنازير، أتوقف وأعيد الكرة بالنظر مرة أخرى لفعل الغراب الذي أتقبض منه فينقلب إلي بصري حسيرا، الفقد قد يكون مذموم، وقد يكون مندوب، في هذه المرة الغراب يأتينا بالبشارة، البين الذي يشير إليه بين يثلج صدورنا، تتوالى الأحداث ممن استبعدوا من صفهم المرجفينوالنطيحة والمتردية وما أكل السبع يحاكون الغراب كما قابيل، ولا يفتأ المرجفون من تثبيط الهمم الذين لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا، كره الله انبعاثهم رحمة بالمؤمنين الذين توعدهم عدوهم بزلزال لا يبقي ولا يذر، فعزموا كما هي عادتهم على أن يقاتلوا المؤمنين كافة، ولكن موعود الله دائما وأبدا حقا وهذا لن يدركه المصابون بالدخن، ذلك أنهم دائما يشعرون أنهم مدركون بينما الذين يفعلون فعل الغراب لا يسعون إلا إلى الفوز بإحدى الحسنيين.
رغما عني قادتني اللحظة الآنية إلى ميعة شبابي وأنا في معمل الفيزياء مساء في نهاية يوم شاق، فنتبرم ونقول لأستاذنا لماذا ندرس الفيزياء هل أنتم تدرسون فسيولوجي وكيمياء، فقال الأستاذ المتفرغ جملة ظننا وقتها أنه يهدئنا بها "كل العلوم والمعارف مرتبطة بالفيزياء"
لا نقتنع ويقف كل منا أمام تجربته التي سيعمل عليها، والتجربة التي أمامي قياس قوة الطرد المركزي لقضيب من حديد بسرعات مختلفة، دورانه بسرعة يخلق حوله مجال مغناطيسي تزداد قوته بزيادة السرعة ثم أقوم برسم المنحنى البياني وكتابة التقرير.
الآن قضيتنا الأم هي القضيب المعدني الدائر بقوة وبسرعة هائلة خلق حوله مجالا مغناطيسيا "شفطنا" جميعا وأسقط معه كل الأقنعة التي كانت على وجوه كثر ليظهر قبحها اللامحدود، فوجوههم مسودة من سوء ما بشروا به وسقطت عنهم ورقة التوت ولا ورق شجر يخصفون به عليها، قوة المجال المغناطيس أسقطت كل الأفكار والقوانين المستوردة بكل مسمياتها وإلتوآتها وعاد الكل رغما عن كل المتآمرين والمزورين والمستوردين لفكر الآخر أيا كان للأصل المهجور طوعا وقسرا، فلله درك يا أستاذ، لأول مرة اكتشف صدق ما قلت لنا وشكرا للفيزياء التي بها اهتديت.
من أرض المحشر اصطفى من بيننا ألفا فقط ممن يحملون راية التوحيد، ممن اصطبغوا بصغة الله ومن أحسن من الله صبغة، كانوا كافيين لأن يحل إليهم بقضهم وقضيضهم من يضاجعهم الشيطان كل يوم وليلة، بينما الألف المنتقين بعناية موصولون بحبل من الله كي يثبتوا ولا يرتكسوا في ظل الذين ارتكسوا أفواجا وأفواجا على مدى عقود، كأنهم على موعد مع الزيغ الأبدي فرضعوا من أثداء الشيطان راغمين بعد التنقل المتمهل من مرحلة إلى أخرى حيث أنهم لا يبتغون العزة إلا عند الآخر،أي آخر، استهوتهم الغفلة حتى بلغوا منعطفا عجزوا على تقييمه، فقد ضرب بينهم وبين فسطاط الحق بحائل أسود أصابهم بالعمى والعمه في آن حتى طالهم الطوفان فلن يكونوا من الفرقة الناجية.
يد الله تعمل، ولو اقتفينا أثر وسيرة أنبيائه المرسلين، قدوتنا الذين بهم نهتدي حتى لا نقفوا أثر ما ليس لنا به علم سنجد أن الناموس الإلهي يمضي بتراتيبية لم تتبدل ولم تتغير وعلى قدر محتوى قلب كل منا يستطيع أن يرى الكشف المستمر في ديمومة لا تتوقف، جند الله لا يعلمهم إلا هو، وهو من أراد تمييز بني آدم إلى نقيضين لا ثالث لهما وهذا ما يحدث دائما عند البت النهائي في أحداث متداخلة حتى عميت عليهم الرؤية وغاب عنهم بوصلة الحق،أولئك الألف عند بعض بني آدم ينعتونهم بالمجاهدين وعند آخرين لن يرضوا عنهم حتى يتبعون ملتهم ينعتونهم بالإرهابيين، أنفاسهم شفرات تصل من تصلهم حتى ولو كانوا في أقصى الأرض.
من بني آدم من سيولي وجهه شطرهم، ومنهم من سيولي وجهه شطر إلهه المختار ذو العين الواحدة، ثم يكون التلاقي بين النقيضين في متوالية لا تتوقف إلا عندما ترفع راية التوحيد في أرض المحشر كي ينشروا العدل الذي غاب ردحا من الزمن عن بني آدم، ويتحقق الأمن في مختلف الأكناف فيضع الرضيع يده في فم السبع دون وجل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى