مقتطف شريف محيي الدين إبراهيم - الفصل الثاني من رواية مريم (الفلسطينية الضائعة)

دعانى أدهم للقائه فى نفس المطعم الذى التقيتك به أول مرة ، ولم تكن بالنسبة لى مفاجأة أن أجدك معه ، بل إننى كنت منبهراً سعيداً وأنا اكتشف ولعك الشديد بالفن والأدب ،وكم كان حديثك ممتعاً حين تناولتى إحدى مقالتى بالنقد والتحليل وكأنك أعظم ناقد على وجه الأرض .
وفى نهاية لقاءنا تعمد أدهم أن يعنفنى أمامك، بحجة أن أعاملك بطريقة أكثر لطفاً ، وخاصة أنك قد صرت مقربة منه كثيراً .
***
تعددت لقاءتنا الخارجية نحن الثلاثة ،وفى كل مرة كنت تجلسين بينى وبين أدهم كان جسدى كله ينتفض ،وأنا رجل قد بلغت من العمر ما يجعلنى راجح العقل، بعيداً كل البعد عن مراهقة الشباب فى طورها الأول .
كنت أقاوم رغبة جامحة لاحتوائك فى داخلى ، ولكننى كنت أشعر أنك تميلى ميلاً شديداً لأدهم ، بينما علاقتى بك لا تتعدى سوى الزمالة ، أولعلى كنت جسراً تعبرى من خلاله لتصلى إلى أدهم .
استبدلت سيارتى القديمة بسيارة جديدة فارهة ، وقمت بتغير كبير فى مظهرى ،وملابسى التى أضحت مسايرة لأغلى وأحدث خطوط الموضة العالمية ،حتى قصة شعرى قمت بتعديلها لتماثل نفس قصة شعر أدهم .
وفى الوقت الذى كنت تمنعين فيه عنى أية فتاة تحاول مجرد الاقتراب منى ، وكأننى صرت ملك خاص لك ، كنت فى الوقت نفسه ترفعين سماعة التليفون وتدعين أدهم لمقابلتك والخروج معك وحدكما .
وفى المجلة ، كنت أنا أول من تطلعينه على أحدث رسوماتك ، الأمر الذى جعلك تحظين بنفوذ ومكانة ، بات الجميع يحسدونك عليها ،إلا أننى كنت دائماً أحافظ على حاجز وهمى بينى وبينك ، حتى جاء ذلك اليوم، حين احتد أدهم عليك ، وحادثك بإسلوب غير لائق عن علاقتك الخفية بجاسر ، ذلك الشاب الفلسطينى المناضل ، وقتها اضطربت أيما اضطراب ، وكأنك فوجئت بمعرفة أدهم بتلك العلاقة ، وانهمرت دموعك غزيرة ،الا أنه واصل صب جام غضبه عليك غير عابئ بكل الحضور ، إلى حد اتهامه لك بالتسيب والاستهتار، ونهضت ،مذعورة ،خائفة ، كطائر جريح، وحين جذبتك من يدك مهدئاً من روعك ازدادت حدة انفعالك ، وانصرفت على عجل ،بعد أن دفعتنى بعنف ،لم اتوقعه منك، حتى أننى كدت أسقط على الأرض .

مرت بضعة أيام ،وأنت متغيبة عن المجلة ، وأنا أقاوم نفسى ، أتشاغل عن غيابك بأى شئ ، ولكن عبثاً أفعل !
عاتبت نفسى كثيراً ، بل لمتها على ذلك الإحساس الغريب الذى خلفه غيابك عنى ، فأنا لم أكن أتوقع أن تحدثى ذلك الفراغ الهائل فى حياتى .
ولم يكن أحد فى المجلة ، من الزملاء أو حتى الزميلات يعرف لك عنواناً أو رقم تليفوناً ، حتى فى شئون العاملين ، لم يكن فى ملفك سوى اسمك... مريم غريب ، وشهادتى الميلاد فى غزة ، والتخرج فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ،مع بعض التوصيات من أدهم.
***
كل الأسباب قد تبدو ملفقة ، حين أطلب رقم هاتفك الجوال من أدهم، حتى ولوكان بحجة محاولة الصلح بينكما.
حين سمعت صوتك فى الهاتف ، اضطربت ، تلعثمت ، نطقت بصعوبة :
- مريم ...أين أنت ؟
- ماذا تريدا منى أنت وصديقك ؟
- لا شئ.... أنا أطمئن عليك فقط.
- أرجوك دعنى وشأنى .
ورغم حدة كلماتك فى بدء حوارى معك ، إلا أنك قبلت فى النهاية أن تقابليننى فى نفس المطعم الذى اعتدنا أن نلتقى فيه ، ولكن هذه المرة ، كنت أنا وأنت وحدنا ولأول مرة بدون أدهم .

- أنا لست بفتاة مستهترة .
حاولت أن أنسيك كلمات أدهم الجارحة ، فقلت لك مداعباً :
- حين تغضبين تصبحين كهرة ،صغيرة ،مذعورة ولكنها جميلة .
هل يمكننى أن أرى صورتك وأنت طفلة ؟
نظرت إلى فى دهشة وكأننى قد فاجأتك بهذا الطلب، ثم همست فى حزن :
- للأسف لا يمكن .
- لماذا؟!
- لم يكن لدينا من النقود ما يكفى لهذا الترف .
- ولا حتى صورتك مع زملاء المدرسة ؟!
- لى بالفعل بعض الصور معهم ، ولكن فى هذا الوقت لم أكن أمتلك ثمن نسخة منها .
- ألهذا الحد وصل بكم الأمر ؟!
- أنت لا تعرف أى شئ عنى .
- إذن احك لى .
- هل نفدت منكما كل وسائل الترفيه ،أنت وصديقك ، فصرت أنا لعبتكما الجديدة ؟
على كل حال حكايتى ليست مسلية .
- حدثينى عنك أنت ...عن أبيك ....عن أمك ...عن فلسطين .
- عن فلسطين ؟
- نعم فلسطين .
- أيها المصرى المرفه ، مالك أنت وفلسطين ؟
- أنسيت أننى رئيس تحرير المجلة التى تعملين بها ؟
- إن كل ما قرأته عن فلسطين لا يعادل يوماً واحداً هناك ...أنت مجرد مشاهد ...متفرج يعبث ، كلكم تعبثون ...الرحى هناك تدور والناس تسقط بين قتيل وجريح ، وأنتم تشاهدون ، تلقون بأحاديث تافهة ، وتشجبون وترفضون وفى النهاية لا تفعلون شيئاً ، فقط بعض مشاعر الغضب والاستياء المصطنعة ، ثم يمضى كل واحد منكم إلى حال سبيله ، لينام فى حضن زوجته ، بعد أن يتناول طعام العشاء مع صغاره ...أتدرى هناك ماذا يحدث ؟
حتى أطفالنا باتوا يعلمون ...يدرون أكثر مما تدرون ، أنتم يا رفقاء الوطن ..يا أبناء العروبة ...أقصد الأكذوبة والشعارات التى لم تعد حتى تتمتع بخاصية البريق ، بل باتت ممجوجة ، ماسخة ، مظلمة. ...هل وطأت قدمك أرض فلسطين ..هل تنسمت ريحها ، ونمت تحت شمسها ..هل يجرى فى عروقك بعض من دمائها ؟
إنك وصديقك أدهم مجرد مصريان مرفهان ، لا يغادرا مكانيهما إلا بالسيارة المكيفة ، وعلبة السجائر المستوردة ، وبعض زجاجات المياه الغازية الأمريكية الصنع ...لقد صرتم جميعاً مجرد أشباه رجال ...يا صديقى انس فلسطين ودع أمر قضيتها لأصحابها الحقيقيون .
- ماذا تقوليين ؟!
يبدو أنك أنت التى نسيت أنه لا يوجد عربى أو مسلم حقيقى إلا وفى باله المسجد الأقصى، والأرض التى بارك الله حولها ، وكيف لا وهى فى زمة كل من نطق بالشهادتين !!
- أرجوك لقد تعبت من تلك الكلمات البراقة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى