محمود أحمد علي - المنتصر..

توقفت به قدماه أمام باب المقهى.. في حزن شديد راحت عيناه تحدقان في الوجوه الجالسة.. تلك الوجوه التي يراها كل يوم.. نفس الوجوه.. نفس المشاريب.. نفس الكلمات.. مستسلماً دلف إلى المقهى.. غاضباً أمسك كرسياً.. راح يجره من خلفه خارجاً.. رمى بجسده النحيل المتعب فوقه..

- آه ه ه ه ه ه ه ه ه ه

أخرجها طويلة مدوية لم يسمعها أحد..

من بعيد لمح وجوده النادل الذي راح يصرخ في وجه زميله الواقف داخل البوفيه:

- وعندك واحد قهوة سادة للأستاذ منتصر ..

مد أصابعه المرتعشة داخل جيب قميصه وأخرج علبة سجائره..

راحت عيناه تقرءان تلك الكلمات المكتوبة باللون الأسود العريض فوق علبة السجائر وكأنه لم يرها من قبل..

(احترس. التدخين يدمر الصحة ويسبب الوفاة)

تبسم ساخراً وهو يخرج سيجارة..

- اتفضل يا أستاذ منتصر ..

رمى النادل بنظرة خاطفة وهو يضع القهوة أمامه دون أن يعيره اهتماماً..

أخذ نفساً طويلاً من سيجارته (السوبر) ثم راح يخرجه مرة أخرى بطيئاً متقطعاً وهو يفكر في أحرف اسمه (منتصر) ذلك الاسم الذي وضع في غير موضعه، والذي لو كان باستطاعته محوه بأستيكة من خارطة الأسماء العربية لفعل ..

احتوته لحظة صمت مؤلمة.. راح يحدث نفسه وفى عينيه لمعة من دمع:- سامحك الله يا أبى، ماذا كنت تظن بي عندما أسميتني منتصراً ..؟! هل كنت تعتقد أنى سوف أتى لك بالديب من (ديله) ...؟! أم كنت تعتقد أنى الوحيد القادر على جلب الانتصار الذي انتظرته طويلاً ورحلت ولم يأت ..؟!

يا أبتى لو أنك حي لعرفت أن كل حياتي وحياة كل من حولي انهزام + انهزام = انكسار × انكسار

ضحك في وجوه من حوله ضحكات عالية ممتدة.. رويداً.. رويداً.. راحت تتوقف ضحكاته الساخرة حتى سكنت في مضجعها.. السيجارة التي أشعلها ماتت بين أصابعه.. أسقطها قتيلة أسفل قدميه.. أمسك جريدة الصباح..

سريعاً راح يتصفح أوراقها حتى توقف أمام الصفحة الحادية عشرة (أنت والنجوم) تصلبت عيناه على الميزان.. راح يقرأ على نفسه كلمات نجمه اليومي..

( أنت على حق .. يجب عليك الانتظار.. الجواد ينتظرك فلا تتردد أمتطه وانطلق.. يوم السعد الخميس)

تبسم في وجه كلماته..

تلك الكلمات المتشابهة التي تتناقلها الجرائد من بعضها البعض لتخدر بها آلام قرائها، ورغم علمه الشديد بحقيقة هذا الأمر إلا أنه أدمن قراءة نجمه كل يوم ..

راح يردد بصوته الدافئ كأشعة الشمس:

- أنت على حق ..

أنت على حق ..

وجد نفسه لأول مرة يمد أصابعه يتحسس تلك الكلمات ، تطفو فجأة على وجهه بسمة خافته ..همس ساخراً بعد أول رشفة من فنجان قهوته السادة :

- كذب المنجمون ولو صدقوا ..

كذب المنجمون ولو صدفوا ..

( ما تقولش إيه ادتني مصر .. قول حندي إيه لمصر )

راح يتذكر على أثر تلك الأغنية _ الخارجة بقوة من فم الراديو.. بجوار المعلم (عبد الرحمن) صاحب المقهى _ شهادة التخرج حبيسة بروازها الخشبي _ الذي أكل وشرب عليه الزمان _ منذ سنوات.. وحبه الذي دام سبع سنين حتى أتت عليه نهاية مأساوية لم يكن يتوقعها.. عكس ما يحدث في نهاية كل الأفلام العربية القديم منها والحديث..

وتلك الحملة المستمرة في بيع ثروات مصر من شركات ومصانع.. والهروب المستمر لهؤلاء السادة المحترمين المبجلين بالملايين خارج البلاد.. وسرقة الباطل الرداء الأبيض الوحيد للحق.. وتفشى الجهل حتى سيطر على كل ما هو جميل ..وتلك الشمس التي أصبحت تغيب لأيام طويلة، وإذا ما ظهرت يكون يوم ظهورها عيداً ..راح يتفرس في ملامح الناس القريبة منه والبعيدة وسرعان ما راح يحدث نفسه من جديد :

- متى ينصلح حال هذه البلد ..؟!

- حا .. حا يا ابن الكلب.. والله خسارة فيك السم الهارى اللي بتتطفحه كل يوم ..

لفت انتباهه ذلك ( العربجى ) الذي يرتدى على ما يبدو سترة وبنطالاً ميرياً ، وهو يضرب ( بكرباجه ) الجلد فوق ظهر حصانه الذي يرفض وبشدة التحرك خطوة واحدة لكثرة ما يجره فوق العربة ( الكارو ) من أجولة أرز ..

- حا .. حا يا حصان ..

رغم تلك الضربات المتتالية فوق ظهره ..

ورغم تساقط الدماء من ظهره إلا أن الحصان يرفض التحرك خطوة واحدة ..

تعجب الأستاذ (منتصر) وراح يفكر في أمر هذا الحصان الذي وقف معتصماً في شموخ رافضاً أن يتراجع عن رأيه لما وقع عليه من ظلم.. صوت الزهر على الطاولة راح يخترق أذنيه ..

- دش ..

- وآدى اليك ..

أغلق أذنيه رافضاً تماماً أن يسمع أحد داخل هذا المقهى حتى لا يخرجه شيء من هذا المشهد ..

صوت (الكرباج) لم يتوقف..

وصلابة الحصان لم تنهر..

هزه الموقف هزاً ..

راح يفكر في هزيمته وهزيمة من حوله وفى ذلك الانتصار الذي حققه ذلك الحصان..

راح يتفرس في ملامح رواد المقهى والذين لا يربطهم ببعضهم البعض سوى بعض الهزائم المتشابهة..

غضبه دفعه إلى أن يضرب الأرض بقدميه كالأطفال وهو يتساءل:

- هل تبلدت مشاعرهم؟!

أو تراهم ما عادوا يسمعون ولا يبصرون ..!!

- حا .. حا يا حصان.. إيه اللي حصل لك بس ..؟!

وقف الأستاذ (منتصر) في مكانه بعدما تملكه شعور أن هذا الحصان يناجيه من خلال تلك النظرات الحارقة المتلاحقة..

- حا .. حا يا حصان.. على الطلاق بالتلاتة لو ما سمعتش كلامى حابيعك بيعة الكلاب ..

قفز الحصان قفزات عدة عالية.. انفك على أثرها كل قيوده.. تحرر منها.. فر هارباً منتصراً..

وجد الأستاذ (منتصر) نفسه يجرى خلفه وهو يردد في سعادة غامرة:

- أنا لك ..

أنا لك ..

أنا لك ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى