عجز الحكماء و المؤرخين من تفسير الحالة , و اقتنع الاطباء بأنها قد تكون مرضاً و حاولوا عبثاً تحديد ماهية المسبب , و ظن البعض منهم أنّ مسبب الظاهرة هذه فايروس متوطن خامل تمكنّ من اعادة ترتيب المادة الجينية له و أنجب عتراً مغايرة فعالة لو صح التعبير و كسب ميلاً لأصابة البشر دون معرفة المنشأ الاصلي له . و حاول الكثير ايجاد علاقة بين الحالة و البيئة , لكنهم لم يفلحوا , و اكتفوا بالاشارة الى انّ الاسماك تقفز الى خارج الماء رافضاً بيئته عندما تزداد نسبة الأمونيا فيه عن الحد المسموح بها . و رويت أيضاً أقاويل و تفسيرات أخرى حول سبب الحالة ولكن أقل شأناً . لم تكن للمرض علامات مميزة ولكن من خلال معاينة المصابين تبين أن هناك ريبة في أذهان المرضى و تنافراً من البيئة المعتادة . و بقي الأمر غامضاً . فلربما كانت الحالة أمراً اخر و ليست للمسبب الفايروسي علاقة بالموضوع أصلاً . شاعت انباء انتشار الحالة سريعاً دون سابق انذار و ذهل الجميع . و كان أول الضحايا هم الشباب حيث لاحت عليهم علامات المرض من عدم الأستقرار و التخوف من المجهول و الانزعاج من البيئة . سرعان ما بدأت موجات الرحيل الى حيث المجهول , و كانت الطرق الموحلة و الغابات الكثيفة و البحار تعج بالراحلين , و خلفّت مخاطر الطرق و العطش و البرد جثث العديد منهم دون أن يغرس ذلك تردداً او خوفاً في القلوب, نصح الآباء أبنائهم و أذرفوا دموع الوداع , سعت السلطات الحكومية و حراس الحدود لمنع هذا التدفق الغريب من اسراب البشر , ولكن دونما جدوى . لم يلبث كثيراً حتى و انتشر المرض الى أصحاب العوائل و شرائح المجتمع الأخرى , ولم يكن هناك فارقاً بين المساكين و ذوي المعيشة الراقية , بين اليافع و المتوغل في السن , بين العزب و أصحاب العوائل , لجأ الناس الى تشكيل مجاميع و قاموا بتحديد مواعيد و طرق الرحيل كما يحصل تماماً عند بعض الفصائل من الطيور المهاجرة . أغلقت أبواب معظم المقاهي و الدكاكين , و خلت تقريباً معظم الازقة و الشوارع من الساكنين و المارة . أدركت السلطات خطورة الوضع , كانت وسائل الاعلام و القنوات الفضائية تبدع في كشف النقاب عن لاجدوى الفرار و آلام الغربة محاولة بذلك أسترجاع الناس الى أماكنهم , و نودي في مكبرات الصوت للمساجد لتشجيع ارادة الباقين على البقاء . لم يكن الناجين من جرف ذلك البركان الهائج الا القلة . كان هناك على خارطة العالم وطن , ولكن دونما أناس .