فاطمة مندي - عشيق طفولتي

هُنّااااااك وَأَبْعَد ، رُبَّمَا تُطْوَى الْأَرْض لقدمي الحافيتين ، سَأحِل سُكُون ذاكرتك ، سأتلف كُلّ خَطَايَا أنوثتك ، سأفتح قِلَاع خَيْبَر ، وَحَصِّن هُودًا ، سأنكس رَايَات الْإِفْرِنْج الْحَمْرَاء تَحْت ذِرَاعَيْك الواهيتين ، أَنْتَ مِنْ اضرمت النَّار لِكَي تكوى اضلعي ، لَا تَلُومِينِي ، فالغد الْقَادِم كسرب طُيُور الزُّرَّق ، ستندمي بِكُلِّ مَا أُوتِيت مِنْ قُوَّةِ لعشقي ، سأحبك وَلَيْس أَنْت كَكُلّ النِّسَاء ، فَأَنَا مَجْنُون إذَا أَحْبَبْت، وَلَكِن توقك مِنْ جُنُونٍ النِّسْوَة إذَا عشقن ، سأحرق كُلُّ مَا تَرُدِّين تصفيفه مِنْ أَوْرَاقِ.

كَانَ ذَلِكَ حِلْمًا يراودني كُلَّمَا ذَهَبَت لِبَيْت خَالِي فِي الصَّعِيدِ، أَسْمَع تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مِنْ أَيَّامِ طفولتي، لَكِنَّنِي لَمْ أَحْفَظْ مِنْهَا شيئاً، سِوَى بِضْعَ كَلِمَات تَقَفَّز كَقِطّ عَلَى كُرْهٍ مِنْ خُيُوطِ الْحِيَاكَة.

مِن سيصدق مَا سأقصه الْآن، لِيَكُن، فَلَيْس الْمُهِمّ مَا سَوْف تصدقون، لَكِنَّنِي سأبرم الْحُرُوف كجدائلي عِنْدَمَا كَانَت أُمِّي تصفصف لي جدائلي وَأَنَا فِي المرحلة الابْتِدَائِيّ ، كُنْتُ أَسْمَعُ حَفِيفُ الأشْجَارِ المكتظة فِي بُسْتَانٍ خَالِي؛ كُلَّمَا نِمْت فِي غُرْفَةٍ جَدَّتِي، أَسْمَعُ صَوْتَهُ كناقوس كَنِيسَة قِبْطِيَّة، أَرْفَعُ رَأْسِي قُبَالَة النَّافِذَة الصَّغِيرَة، اتفحص وَجْهَه الْأَبْيَضُ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ الْمُكْتَمِل، يَرْمِيَ مِنْ خِلَالِ النَّافِذَة كَلِمَات عَشِق، يَنْظُرُ إلَيَّ مِنْ وَرَاءِ النَّافِذَةِ، يَتَفَحَّص ملامحي يُحَدِّثُنِي، لَمْ أَفْهَمْ فِي ذَلِكَ الْحِينِ حَوّارَة، لَكِنَّهَا كَانَتْ كَلِمَات تفرحني، تُوقِظَنِي مِن سُباتِي الطَّوِيل، كَان يَتَخَطَّى كُلّ الْجُدْرَان، يَقِف بِجِوَار فِرَاشِي، يَجْلِس عَلِيّ الْمَقْعَد بِجَانِبَي، فَاكْتُم سِرّ رُؤْيَاي، فِي الصَّبَاحِ كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ بَنَاتِ خَالِي فِي الْبُسْتَانِ، فَأَرَى آثَار حِصَانَه الْأَبْيَض يَخْتِم الْأَرْض، وَحْدِي مِنْ أَرَاه، تصطنع الابْتِسَامَة فِي شَفَتَي، كَمَا لَوْ أَنَّهَا الْآنَ؛ لِجُنُونِه الْمُتَوَاصِل بِي.

لَم أُفْشِ ذَلِك السِّرّ حِينَمَا افشيه الْآن، أَنَّ ذَلِكَ الْفَارِسَ هُوَ ذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي يَتَخَطَّى عُتْبَة أَوْرَاقِي ، فَكُلَّمَا أهْرَب مِنْه، أَشْعَر إنَّنِي أَذْهَبُ إلَيْهِ، لَقَد تخطت صُورَتُه مَفَاهِيم مخيلتي، فَأَنَا بَدَأَت ارسم نِصْف وَجْهَه بِمَخِيلَة اطلالي الْقَدِيمَة، مَا زَالَ يلاحقني، لَمْ تَكُنْ الرُّؤْيَا مِنْ تلاحقني، بَل ذاكرتي مَا زَالَتْ تحتفظ بأوراقها، مَا الَّذِي أَفْعَلْه، قَالَ لِي ذَات مَسَاء أَنَّه يَعْشَق كُلِّ شَيْءٍ فِي وَجْهِي، لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّنِي أَرَى وَجْهِهِ كُلُّ يَوْمٍ فِي صَفَحَات أَوْرَاقِي، سأكتم السِّرّ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ سِوَى أَنَّ يَتَخَطَّى كُلِّ الْأَزْمَانِ، وَحِصَان أَبْيَض وتعلو عَلِيّ وَجْه سَعَادَة وابتسامة عَلِيّ فَمِه كوجنتي فَتَاة صَغِيرَة.

قَالَ لِي ذَات مَسَاء عِنْدَمَا كُنْت اتصفح أَوْرَاقِي وَكَان كَعَادَتِه يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ طَيَّات الْوَرِق كَرِيشَة طَاوُوس: رُبَّمَا أَمُوت قَرِيبًا فَأَنَا جِئْت مِنْ عَالِمٍ طفولتك الَبريئة، بَل خَالَفَت كُلّ اعرافنا مِنْ أَجَلِك، وَمَازِلْت اِحْتَفَظ بفتوتي، كَي اراعيكي وامكث بجوارك، واحميكي، سَأَجْعَل مِنْك امْرَأَة تغتاظ مِنْهَا نِسَاءِ الْعَالَمِ، سأحرك يَدَك الّتِي تُمْسِكُ الْقَلَم اراقصها عَلَى مَسْرَح اوراقك، ثُمّ نَسْتَمِع سَوِيًّا لموسيقى ياني أَو بتهوفن الْخَامِسَة، فَهِيَ تُعْطِي شُعُورًا بِاللَّذَّة الْأَبَدِيَّة، سأصنع مِنْك امْرَأَة تُسَبِّحَ فِي نَسِيم النِّيل، سأجعلك مِثْل فانجوخ أَو تلتسوي الْأَدِيب الروسي، أَنَا عَلَاءُ الدِّينِ ، افركي الْمِصْبَاح، كُلَّمَا تَناغَمَت بِك الْوَحْدَة فِي عَالَمِ الضجيج . سَاحِل عَلَيْك ضَيْفًا فِي أَوْقَاتِ فرغك الْمُوحِش، قوليها لِي فَأَنَا انْتَظَر مَوْتًا مُنْذُ عَهْدٍ رَمْسِيس الْأَوَّل، قوليها فَلَيْس لِكُلّ الْعَالِم أَذَان تُصْغِي، أَنَا عشيقتك، فَالْمَوْت ينتظرني اللَّيْلَة، لَقَد حاكموني مِنْ أَجْلِ عِشْقِي هَذَا، وسأختفي تَمَامًا، جِئْتُك خِلْسَة مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْكَلِمَةُ.

لَم أَوْجَزَ فِي نَفْسِي خِيفَةً مِنْ كَلِمَاتِهِ، فَهِي تسحرني كسحرة فِرْعَوْنَ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ، لَكِنَّنِي مَا زِلْت اِحْتَفَظ بِعَصًا خَالِي فِي أَسْيُوط، لِكَي تَلَقَّف مَا يُوَفِّك مِن أَوْرَاقِي، رُبَّمَا سأخوض ذَلِك الْعِشْق فَهُو يَسْتَحِقُّ مِنْ أَجْلِي كُلِّ شَيْءٍ، اللَّيْلَة سَأَقُول لَه هذه الكلمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى