ظل يزاحمهم كي يخرج من اللوحة العتيقة، وجوههم التى أكلتها المسافات الطوال، ولهجتهم الفجة التى تلفت إليهم أنظار العابرين، تبعث في قلبه طاقةً للهروب. لم يعد لسانه يخنه، صار بمستطاعه الآن أن يلجمه كيلا يمط نهايات الجمل، تعلم كلام المدينة ودقائقه، وعرف كيف ينسج الحكايات، أخفى ذكرياته القديمات فى قبو خفي سحيق. وضع لنفسه محاذيراً للكلام فلا ذكر للبلدة، ولا ناسها، لا يتطرق أبداً لحديث فيه خضرة، أو ترع، لا ذكر لأجران أو تحليق فوق أسطح المنازل الطينية خلف الطيور العابرة، لا ليال قمرية اهتاج فيها الشوق يوماً لحب أول صنعته سذاجة تلك الأيام الخضر.
هو ابن المدينة الآن، متأنق، خفيض الصوت، شيوعي ... وشاعر... يعمل صحفياً.. ويدير صفحة ذائعة الصيت تختص بالثقافة والأدب بصحيفة صباح بارزة. وجهه صار مألوفاً بين المثقفين، اشتهر بصولاته وجولاته علي قارعة ورق الصحف واشتباكاته مع خفافيش الظلام الذين يكرههم دون أن يراهم.
لطيف المعشر، حبوب، لا مانع لديه من اقتراض قصة حكاها زميل كلما ضاقت به الحكايات، صار صاحب مساحة متميزة فى الحكي.. ينعي الأيام الخوالي للمدينة التى لم يعشها، ولا مانع من معارك صغيرة مع ناقد هنا وكاتب هناك، تعلم الصنعة، يمكنك أن تكون مناضلاً حقوقياً اليوم، ومشجعاً كروياً غداً، وعاشقاً لصوت رفعت بعد غد، وخبير بالطعام المغربي في الصيف وعاشق لليل باريس فى الشتاء، فكل ذلك من أصول الصنعة.
امتدت شهرته لخارج القطر، وفتح الله عليه بعمود رأي فى صحيفة خليجية، وأخرى تُطبع فى لندن،يغالبه الكرم الريفي خصوصاً فى موسم توافد مثقفي البلدان العربية على قاهرته، فيكتب مرحباً بهذا ومتذكراً أياماً لذاك لم ترها الدنيا لكنها لحظات ناضلا فيها من أجل الخبز والحرية، وتشاركا جلسات الاستمتاع بغناء خليلة أو ضيفة، لا يني يؤكد أنه لم يستطع أن يشيح بأذنه عن قطر العسل المتدفق مع غنائها، أو يحول ناظريه عن مؤخرتها العظيمة، يحكي كيف تحدثا وفلان عن واقع الفن واختلفا عند الفروق بين الأصيل والمغشوش في أيامنا هذه، ولا ينسى أن يلمح عن كيفية مراودتها - تلك الملتهبة رغبة - له عن نفسه وكيف أنف – وهو الصديق الصدوق - أن يتعدى على ملك صاحبه المثقف ذي الشماغ الحريرى.
ييهرب.. فهم يتربصون به، يحلم بهم وهم يحملون فى أكفهم مديات الماضي التى يطعنون بها ذاكرته، يرتعد فى دخيلته كلما لقيهم، يفزع منهم ويجتهد فى التواري عن أنظارهم، يحاول الهروب من اللوحة التى يرسمونها حولهم كلما اجتمعوا فى مكان ضمه معهم عنوة، هو منهم شاء أم أبى ، وإن استطاع الهروب بجسده، لكنه يكره أن يظل حبيساً فى لوحتهم الريفية العتيقة.
كلما التقاها هى الأخرى يحاول الهروب، لكن نظراتها الملاحقة تفضحه، لا زالت تحييه بسخرية يفهم مرادها. يملأ خدها بقبلة عابرة علمته أن يطبعها على خد النسوة اللاتي عرفته بهن وصرن بعدها صديقات ورفيقات لنضالاته، يجلس أمامها راضخاً وهو يتلهى عن نظراتها بمداعبة دخان سيجارته، ويجعل ضحكته قناعاً يخفي فزعه منها، ابتسامتها تعبر إلي عينه وتفتحهما، إنها - على قسوتها - أعلم الناس به، تحس باضطرابه كما تشعر الجياد بالزلازل قبل وقوعها، تسأله عن الأحوال، وتعلن إعجابها بديوانه الصادر عن المجلس الثقافي ، وتردد تلك الشائعات التي تشنف أذنه منذ أيام عن قرب حصوله على جائزة الدولة، يظنها تقولها بشئ من السخرية السوداء، وتلمح لما وراء أبواب النضال من تحالفات صنعتها له، ربما ينشرح قلبه قليلاً، وربما تخفف من توتره بأناملها التي تمررها خلسة على ظهره، لكن توتره من الجلوس معها لا يختفي .
يتذكر أول دواوينه .. هذا الذي كان مفاجأتها التي أسرته بها طويلاً، كان هديةً خالصةً منها، كتبه فيها - عند بداياته الغضة - كي يجتذبها إليها، لم يعلم ساعتها أنها تمارس أفضل مواهبها، التغرير بأمثاله ممن سكنتهم سذاجة الريف وتلقائيته.
الفاهمون والقارئون للطالع وأولاد الأفاعي ، تلعنهم دائماً - رغم أنها أكثر من أوقع بهم واستغل عماهم - لنكرانهم لجمائلها. طالما قالت له إنها تكرههم - فينتفض – وهي تداعب وجهه بأصابعها، يتذكر كيف كانت قروشها طوق النجاة له من الصعلكة اللانهائية التي ظن أنها قد كُتبت على جبينه الأسمر، وكيف ينسى أن طوق الإنقاذ من حياة وضيعة ظن ألا مخرج منها كانت وظيفة الصحفي فى تلك المؤسسة الصحفية التي أتته كمفاجأة ثانية بتوصية منها، توصية من نوع آثر ألاّ يعرف تفاصيله، لكنه دوماً يحسها في عيون رئيسه والحاسدين من أقرانه.
آثر نفض مخاوفه.. ومال للتفاعل معها وتخفيف توتره.. صحيح أنه لازال يفزع منها وتخونه ارتعاشات يده ولجلجة لسانه فى حضورها، لكنه يأنس إليها أكثر من أي شخص عرفه.. عرفها ويعرف أنها تعرفه كما يعرف هو تفاصيل جسدها، هى من علمته أن الشعر عظيم ورائع، لكنه لا يصنع الخبز.
فى عالم الخبز وجدها تجرجره خلفها باعتباره شاعراً أصيلاً، قدمته على أنه أبرز اكتشافاتها، استخدمت كلمة شاعر الأقاليم التي يكرهها ويحاول التخلص منها عند وصف عظمته، تحكي عنه ككنز اجتهدت فى نبش القفار البعيدة حتي عثرت عليه، يجزع.. قد صار إبنا للمدينة فلما تعشيقة الريف هذه قد كانت تكفي صفة شاعر.
حضر عندها أول جلسات النضال، قبل على مضض وتجرأ على تجاوز فزعه وكوابيسه في ليلة بدأها عندها مبكراً احتسى معها قليل خمر جعله ينتشي ومعركة صغيرة على سريرها بثت فى روحه ثقةً برجولته. قالت إنها تستقبل خلية شيوعية فى بيتها، مفكرون ومناضلون من أجل غد أفضل، هكذا اقتنع ، أو أقنع نفسه بأن عليه أن يقتنع، خصوصاً فى البداية، لم يرد أن يعبر عن إحساسه بأن المناقشات العقيمة التى تحدث كل أسبوع ويتغير أفرادها - بإضافة غرير ساذج من عينته كل أسبوع - كانت منقولةً بحذافيرها دوماً لجهة ما. تعلم الصمت وادعي إقلالا للكلام، وكلما كان لا مفر من الحديث أتى بقصة قديمة أو كرر ما قال من جلستين أو ثلاث، كانت نصيحة غالية منها، استأثرت به عشيقاً، فلم تشأ أن تدفع به لعالم مجهول يقتل فيه روحه وهي الأعلم أنه مجبول على الخوف. لاحظ مع إجادته للصمت وتمسكه به أن القدامى يقولون نفس الكلام الكبير المكرور، أما ذلك الجديد - الذى كانه يوماً - فهو الذي يضيف للكلام كل جديد.
حذرته فى البداية، ونصحته ألا يندفع عند الكلام، وزعمت إن لديها شكوكاً بوجود من يشي بالمجموعة من أولئك القدامى. حين همست فى أذنه: احترس، سألها: لما تورطين نفسك فى كل هذا، وتأتين بهذه اللقاءات فى بيتك؟
ذكرته بقصة الشعر والخبز، فلم يفطن لما ترمي إليه، لكنه من بعدها استطاع أن يجلو غموضاً طالما حيرة وأن يعي أشياءً مهمةً عبدت له طريق الخبز.
تجاوز المنطق الذى طالبها بأن تنيره له فى مسألة الخبز التي وترت الأجواء بينهما لفترة. عندما قدمته لرئيس تحرير الجريدة الثقافية الأولى، ذلك الشاعر الكبير الذي احتفى به وبها بصورة لم يصدقها أو جالت بخاطره يوماً من قبل، استطاع بكل سهولة رسم بسمة عريضة على وجهة وقال عبارات امتنان ومديح للرجل لم يكن ليصدق يوماً أنها ستخرج من فمه. فى العدد التالي شاهد اسمه مكتوباً ببنط عريض فوق صفحة لم يشاركه فيها أحد سوى رئيس التحرير بكلمة مقتضبة يقدمه فيها للقراء، ظن أن حساب هذا الجميل قد سددته هى بطريقتها. لكنها أفهمته أن الثمن سيدفعه هو نفسه لاحقاً، وما قدمته ليس إلا عربوناً. حين لم يفهم لما يفعل معه هذا الرجل كل هذه الجمايل، تقبل احتمال أنها قد منحت الرجل جسدها. وحين ألقى إليها بهذا الظن مع لفافة تبغ محشوة، ضحكت واعتبرته مجرد ساذج ريفي يفكر بعضوه، مؤكدة: الرجل بالمناسبة ملهوش فى الستات. سخرت بغنج المومسات القديمات وهى تكرر انه رئيس التحرير لا يستطيع مع النساء سوى الحديث، ولقمته اسم خليله، الذى يعمل معهم فى الجريدة. لم تصدمه هذه المعلومة، بل تلقفها ووجدها مسلية وجمع حولها ما يجعلها قصة خلوات خاصة مذهلة.
اختلفا غير مرة.. لكن رنة هاتفها الليلي التي تأتيه وهو يعمل فى الجريدة المسائية كانت تخرجه من توتره وغضبه وتعيد إليه الفرحة والإحساس بنشوة الانتصار. يقتنص سويعات يهرع خلالها لبيتها فى وسط البلد ليفرغ عند جسدها اللامع كل مراراته، وكانت كل مرة تستقبله فى أحضانها كأم عاد وليدها.
لم ينس هذه الليلة عندما حلّ على بيتها فصدته وأخرجت له ورقة بها سطور قليلة، قائلةً له بحزم لم يتعوده منها: عليك أن تكتب في هذا الموضوع، مطلوب أن تشتبك مع هذا الرجل، قال لها إنه قد التقاه وأجرى معه حواراً سطره وتركه لدى رئيس التحرير منذ أيام قلائل، استغرب وردد أمام وجهها الجامد أن الرجل رغم بعض الاختلاف مع أفكاره، هو شاعر عذب الحديث ومثقف مهم وأقرب إلينا من الحكومة.
تحدثت له حديثاً غامضاً بين الخبز والشعر وقالت له هذا يا صديقي هو ثمن تلميعك الذي سألت عنه، فلا تتخابث، ليس هناك مجانيات فى عالمنا، وأنت تعلم، وكثيراً ما رددت ذلك أمامي. الآن - يا صغيري جاء المحصل ينادي على فواتيره، إما الدفع أو العودة لما دون البدايات، جلس عندها مرتعداً يكتب ما طلبت وقدمه لها، قالت وهي تختطف من يده الوريقات التي سطرها: لن أقرأ ولن يقرأها أحد حتى رئيس التحرير، ستُنشر دون تعديل. اتصلت برئيس التحرير أمامه قائلةً إنها قد قرأت لتوها مسودة مقال هائل لشاعرها يسهم بشكل عظيم فى محاربة الخفافيش، ولم يسمع بقية الحوار فقد غاص فى نوبة من نوبات خوفه التي تتداعى فيها الذكريات.
بعد أيام كان يضحك من تردده وارتعاده فبمجرد أن اندلعت تلك الحملة الكبيرة ضد الرجل وتردد معها اسمه، صار الذي كان مجرد شاعر كاتباً ومثقفاً ومناضلاً معروفاً، تُقتطف مقالاته فى الصحف، ويُدعى به للمنتديات، وعرف بعدها جلسات لم يحلم بها، استقبلته صالونات تفوح منها عطور باريسية، أجاد بتوجيهها الابتسام والحديث الخافت مع رجال أعمال كبار وسيدات مجتمع نافذات، حضر بصحبتها اجتماع الروتاري ودعته سيدات الأانرويل لإلالقاء أشعاره، الديوان صار أربعة، والطبعة على ورق الاستنسل صارت طبعة ملونة فاخرة، هرب منها، وهي تراقبه دون أن تضغط عليه، تعلم أنه صنيعتها، ظن أن المسافات بينهما قد تباعدت بما يكفي له كي يفعل ما يشاء، لم تحاول هي الاقتراب كانت تلاحقه فقط بنظراتها فيرتعد ويعود إليها، ابتسم حين قطعت تداعي ذكرياته بتعليقها المعجب بقميصه الكاروه، قالت له ابق معي هنا لدقائق فثمة صديق سيمر بنا وأريد أن أعرفه بك، وستجئ معنا سهرة قصيرة، قال حسناً وهو يمد يده نحو علبة سجائرها "الكنت" البيضاء ملتقفاً سيجارة أخذ ينفث دخانها بتوتر لأعلى وهو يتابع الدوائر بعينه، مدت يدها لحقيبتها وأخرجت عدة سجائر محشوة، دستها فى العلبة ووضعتها فى جيب قميصه، شكرها بابتسامة جائعة، قالت له لا تنسى أن تعزم عليه، هز رأسه راضخاً.
لحظات وحضر الرجل المنتظر؛ شيخ ضخم الكرش، ذو وجه أبيض مشرب بحمرة، ولغد عظيم لا يقارعه فى عظمته سوى شارب كث مهندم احتل نصف وجهه تكلم الرجل فميزته كحة عسرة أشارت لحقيقة كونه مصدوراً، وضحكته الذاهلة وعينه التي لا تتوقف عن الدوران وشت بكونه سياسياً. نطقت باسمه مستخدمة لهجتهم فابتسم.
فى حضرة الشيخ رحبت بشاعرها كأنها لا تعرفه إلا معرفةً عابرةً وقدمته باعتباره الغريب وليس هذا الشيخ الضيف. دعته ليرافقهما فى السهرة، فرضى منشرحاً وهو يردد فى نفسه أن بنت حواء جبلت على اللعب بالبيضة والحجر. ومنها اقتنص درساً كان مفتاحاً لكنز مثير.
صعد السلم نحو النادي اليوناني يتبع ظلهما، تجاهل يد الرجل العابثة الملتفة حول خصرها، وتغنجها المفضوح، يعرف أن عليه أن يرد بعض الجميل القديم، اتسعت الطاولة لتضمه معهما وحشد آخر قد دعاهم الرجل، تحدث عن مشروعاته وآماله الثقافية، شعر بيدها تمر فوق فخذه فأثنى على حديث الرجل ورحب بما قاله، وادعى أنه انفعل بقصائده
سخنت السهرة، فأخرج من جيبه علبة سجائرها وقدم بابتسامة بلهاء ليد مضيفه واحدة من السيجارات المحشوة فتهللت أسارير الرجل، شكرته بعينيها أن ساعدها، وقالت له أنهم على موعد للسفر للإمارة لحضور مؤتمر الشعر العربي ، الخمر لم تسعفه للرد، تجرع آخر ما تبقى فى زجاجة البلاك ليبل التى دعت به إليه، زعم ارتباطه بموعد، تبادلا الضحكات مع الرجل ومدح بابتسامة مفتعلة تعليق سمج للرجل حول أن الموعد موعد غرامي ، أشار لعينيه عندما قال مضيفه له لا تنسانا من كتاباتك يا أخي ، فأنت من كبار شعراء الأقاليم، الكلمة الأخيرة حزت فى قلبه، أراد أن يقلب عليهما الطاولة لكنه اكتفى بالابتسام
بعد منتصف الليل استأذن، كانت نظرتها لا تعني له إلا أن وقته قد انتهى ، اجتهد كي تسير قدمه نحو ستلا دون أن يتعثر، سار نحوهم هذه المرة، تهللوا لمرآه فارتمى بينهم، طلب بيرة رخيصة، لم يزاحمهم هذه المرة، تجاهل الجميع ما كان بينهم من فتور، ضحكوا تلك الليلة كما لم يضحكوا من قبل، ملأت السعادة قلبه، وانزاح وخز كلمة أقاليم من أذنه، اكتشف مع تعالي ضحكاته أنه رغم كل السخرية التي يوزعها فى جلسات الكبار فى اليوناني والجريون والآفتر إيت والهيلتون وصالونات علية القوم بالمهندسين والزمالك وهيليوبوليس، أنه لم يكن يضحك، ردد الضحكات فى صدره حتى أنهكته وسحبت دموعاً من مآقيه لم يرها هى أيضا منذ سنوات، أعادت كلماتهم لذاكرته ما أسقطه فى قرارها المكين وأراد طمسه، سرد عليهم حكاية عمه المأفون الذى حاول مجامعة الإتان فى الزريبة بأن حفر لها حفرة وأنزل قوائمها فيها وحين هم أن يلجها انتفضت ولكزته فى عضوه فعاش حياته عاجزاً يداري خيبته بشارب عظيم.
جرت الياء الممطوطه على لسانه دون تعثر، لم يجتهد كي يغير لهجته الريفية، أحس بأنه يسمع صوته المحبوس في جوفه منذ زمن، قال لهم إنه سيسقط بينهم الآن فهو يشعر بدوار شديد يضرب رأسه، قال له لا تخف، وحملوه بينهم ومضوا وغاب هو فى نوم عميق، وحين أفاق وجد نفسه فى شقته القديمة، تحوطه زجاجات البيرة وبقايا ورق اللعب وكتب ملقاة فى كل ركن، لم تتغير، وجدهم جميعاً يضحكون، استأذنهم فى إجراء مكالمة عاجلة، طلبها فردت عليه مستغربة أن يتصل بها فى وقت مثل هذا، يعلم تمام العلم أنها لا تصحوا قبل التاسعة مساء
كانت قد دخلت للفراش لتوها، طلب منها أن تمنحه قبلة فقالت له أن يأتيها فى بيتها على وجه السرعة هناك عرض مغرٍ له، حطت قدمه المكان الذى استقبله لأول مرة فى طريق الخبز، جلس بجوارها، قال أرفضه قبل أن أسمعه، قالت له لما ترفض عرضاً كهذا عشر ليال ورزمة دولارات وربما طباعة بعض الأعمال هناك، قال لها أود فقط أن أقبلك، حين انتهى ضحكت وقالت فهمت تقبلني الآن كما كنت تفعلها كريفي ، حنانك لأصلك الريفي يجرك دوماً للخلف يا صديقي ، قال لها أنا شاعر، ضحكت بسخريتها المعهودة وقالت أنا صنم شعركم تتطوفون حولي تضعون قرابينكم عند قدمي ، ابتسم وقال حسناً وأخرج من جيبه قصيدةً طويلةً وضع وريقاتها بين فخذيها وقال اسمها طريق الخبز إقرأيها وستعرفين لما سأظل شاعر أقاليم
فى الليلة التالية كان يبيت فى حضنها فى تلك الإمارة على ساحل الخليج، قررت أن تمنحه ليلة استثنائية قبل أن تهجره لتكرم مضيفيها، قالت له، ستظل دوماً هكذا، جزء منك يعيش بينهم، وجزء منك سيظل يتوق لحضني وطريق خبزي . فى هذه الليلة عرف أن ما قالته هو حقيقته، وقرر أن ينفصم بإرادته، حين يكون بينهم وبينهم فقط يخرج قرينه الريفي ، ينزع أستار التحفظ ويتحدث كريفي قح، وبعد أن يفرغ من العبث ماضيه ومعهم وينجح فى تسول الشعر من جلستهم الصاخبة، يعود لطريق الخبز ليسرده هناك .. .
هو ابن المدينة الآن، متأنق، خفيض الصوت، شيوعي ... وشاعر... يعمل صحفياً.. ويدير صفحة ذائعة الصيت تختص بالثقافة والأدب بصحيفة صباح بارزة. وجهه صار مألوفاً بين المثقفين، اشتهر بصولاته وجولاته علي قارعة ورق الصحف واشتباكاته مع خفافيش الظلام الذين يكرههم دون أن يراهم.
لطيف المعشر، حبوب، لا مانع لديه من اقتراض قصة حكاها زميل كلما ضاقت به الحكايات، صار صاحب مساحة متميزة فى الحكي.. ينعي الأيام الخوالي للمدينة التى لم يعشها، ولا مانع من معارك صغيرة مع ناقد هنا وكاتب هناك، تعلم الصنعة، يمكنك أن تكون مناضلاً حقوقياً اليوم، ومشجعاً كروياً غداً، وعاشقاً لصوت رفعت بعد غد، وخبير بالطعام المغربي في الصيف وعاشق لليل باريس فى الشتاء، فكل ذلك من أصول الصنعة.
امتدت شهرته لخارج القطر، وفتح الله عليه بعمود رأي فى صحيفة خليجية، وأخرى تُطبع فى لندن،يغالبه الكرم الريفي خصوصاً فى موسم توافد مثقفي البلدان العربية على قاهرته، فيكتب مرحباً بهذا ومتذكراً أياماً لذاك لم ترها الدنيا لكنها لحظات ناضلا فيها من أجل الخبز والحرية، وتشاركا جلسات الاستمتاع بغناء خليلة أو ضيفة، لا يني يؤكد أنه لم يستطع أن يشيح بأذنه عن قطر العسل المتدفق مع غنائها، أو يحول ناظريه عن مؤخرتها العظيمة، يحكي كيف تحدثا وفلان عن واقع الفن واختلفا عند الفروق بين الأصيل والمغشوش في أيامنا هذه، ولا ينسى أن يلمح عن كيفية مراودتها - تلك الملتهبة رغبة - له عن نفسه وكيف أنف – وهو الصديق الصدوق - أن يتعدى على ملك صاحبه المثقف ذي الشماغ الحريرى.
ييهرب.. فهم يتربصون به، يحلم بهم وهم يحملون فى أكفهم مديات الماضي التى يطعنون بها ذاكرته، يرتعد فى دخيلته كلما لقيهم، يفزع منهم ويجتهد فى التواري عن أنظارهم، يحاول الهروب من اللوحة التى يرسمونها حولهم كلما اجتمعوا فى مكان ضمه معهم عنوة، هو منهم شاء أم أبى ، وإن استطاع الهروب بجسده، لكنه يكره أن يظل حبيساً فى لوحتهم الريفية العتيقة.
كلما التقاها هى الأخرى يحاول الهروب، لكن نظراتها الملاحقة تفضحه، لا زالت تحييه بسخرية يفهم مرادها. يملأ خدها بقبلة عابرة علمته أن يطبعها على خد النسوة اللاتي عرفته بهن وصرن بعدها صديقات ورفيقات لنضالاته، يجلس أمامها راضخاً وهو يتلهى عن نظراتها بمداعبة دخان سيجارته، ويجعل ضحكته قناعاً يخفي فزعه منها، ابتسامتها تعبر إلي عينه وتفتحهما، إنها - على قسوتها - أعلم الناس به، تحس باضطرابه كما تشعر الجياد بالزلازل قبل وقوعها، تسأله عن الأحوال، وتعلن إعجابها بديوانه الصادر عن المجلس الثقافي ، وتردد تلك الشائعات التي تشنف أذنه منذ أيام عن قرب حصوله على جائزة الدولة، يظنها تقولها بشئ من السخرية السوداء، وتلمح لما وراء أبواب النضال من تحالفات صنعتها له، ربما ينشرح قلبه قليلاً، وربما تخفف من توتره بأناملها التي تمررها خلسة على ظهره، لكن توتره من الجلوس معها لا يختفي .
يتذكر أول دواوينه .. هذا الذي كان مفاجأتها التي أسرته بها طويلاً، كان هديةً خالصةً منها، كتبه فيها - عند بداياته الغضة - كي يجتذبها إليها، لم يعلم ساعتها أنها تمارس أفضل مواهبها، التغرير بأمثاله ممن سكنتهم سذاجة الريف وتلقائيته.
الفاهمون والقارئون للطالع وأولاد الأفاعي ، تلعنهم دائماً - رغم أنها أكثر من أوقع بهم واستغل عماهم - لنكرانهم لجمائلها. طالما قالت له إنها تكرههم - فينتفض – وهي تداعب وجهه بأصابعها، يتذكر كيف كانت قروشها طوق النجاة له من الصعلكة اللانهائية التي ظن أنها قد كُتبت على جبينه الأسمر، وكيف ينسى أن طوق الإنقاذ من حياة وضيعة ظن ألا مخرج منها كانت وظيفة الصحفي فى تلك المؤسسة الصحفية التي أتته كمفاجأة ثانية بتوصية منها، توصية من نوع آثر ألاّ يعرف تفاصيله، لكنه دوماً يحسها في عيون رئيسه والحاسدين من أقرانه.
آثر نفض مخاوفه.. ومال للتفاعل معها وتخفيف توتره.. صحيح أنه لازال يفزع منها وتخونه ارتعاشات يده ولجلجة لسانه فى حضورها، لكنه يأنس إليها أكثر من أي شخص عرفه.. عرفها ويعرف أنها تعرفه كما يعرف هو تفاصيل جسدها، هى من علمته أن الشعر عظيم ورائع، لكنه لا يصنع الخبز.
فى عالم الخبز وجدها تجرجره خلفها باعتباره شاعراً أصيلاً، قدمته على أنه أبرز اكتشافاتها، استخدمت كلمة شاعر الأقاليم التي يكرهها ويحاول التخلص منها عند وصف عظمته، تحكي عنه ككنز اجتهدت فى نبش القفار البعيدة حتي عثرت عليه، يجزع.. قد صار إبنا للمدينة فلما تعشيقة الريف هذه قد كانت تكفي صفة شاعر.
حضر عندها أول جلسات النضال، قبل على مضض وتجرأ على تجاوز فزعه وكوابيسه في ليلة بدأها عندها مبكراً احتسى معها قليل خمر جعله ينتشي ومعركة صغيرة على سريرها بثت فى روحه ثقةً برجولته. قالت إنها تستقبل خلية شيوعية فى بيتها، مفكرون ومناضلون من أجل غد أفضل، هكذا اقتنع ، أو أقنع نفسه بأن عليه أن يقتنع، خصوصاً فى البداية، لم يرد أن يعبر عن إحساسه بأن المناقشات العقيمة التى تحدث كل أسبوع ويتغير أفرادها - بإضافة غرير ساذج من عينته كل أسبوع - كانت منقولةً بحذافيرها دوماً لجهة ما. تعلم الصمت وادعي إقلالا للكلام، وكلما كان لا مفر من الحديث أتى بقصة قديمة أو كرر ما قال من جلستين أو ثلاث، كانت نصيحة غالية منها، استأثرت به عشيقاً، فلم تشأ أن تدفع به لعالم مجهول يقتل فيه روحه وهي الأعلم أنه مجبول على الخوف. لاحظ مع إجادته للصمت وتمسكه به أن القدامى يقولون نفس الكلام الكبير المكرور، أما ذلك الجديد - الذى كانه يوماً - فهو الذي يضيف للكلام كل جديد.
حذرته فى البداية، ونصحته ألا يندفع عند الكلام، وزعمت إن لديها شكوكاً بوجود من يشي بالمجموعة من أولئك القدامى. حين همست فى أذنه: احترس، سألها: لما تورطين نفسك فى كل هذا، وتأتين بهذه اللقاءات فى بيتك؟
ذكرته بقصة الشعر والخبز، فلم يفطن لما ترمي إليه، لكنه من بعدها استطاع أن يجلو غموضاً طالما حيرة وأن يعي أشياءً مهمةً عبدت له طريق الخبز.
تجاوز المنطق الذى طالبها بأن تنيره له فى مسألة الخبز التي وترت الأجواء بينهما لفترة. عندما قدمته لرئيس تحرير الجريدة الثقافية الأولى، ذلك الشاعر الكبير الذي احتفى به وبها بصورة لم يصدقها أو جالت بخاطره يوماً من قبل، استطاع بكل سهولة رسم بسمة عريضة على وجهة وقال عبارات امتنان ومديح للرجل لم يكن ليصدق يوماً أنها ستخرج من فمه. فى العدد التالي شاهد اسمه مكتوباً ببنط عريض فوق صفحة لم يشاركه فيها أحد سوى رئيس التحرير بكلمة مقتضبة يقدمه فيها للقراء، ظن أن حساب هذا الجميل قد سددته هى بطريقتها. لكنها أفهمته أن الثمن سيدفعه هو نفسه لاحقاً، وما قدمته ليس إلا عربوناً. حين لم يفهم لما يفعل معه هذا الرجل كل هذه الجمايل، تقبل احتمال أنها قد منحت الرجل جسدها. وحين ألقى إليها بهذا الظن مع لفافة تبغ محشوة، ضحكت واعتبرته مجرد ساذج ريفي يفكر بعضوه، مؤكدة: الرجل بالمناسبة ملهوش فى الستات. سخرت بغنج المومسات القديمات وهى تكرر انه رئيس التحرير لا يستطيع مع النساء سوى الحديث، ولقمته اسم خليله، الذى يعمل معهم فى الجريدة. لم تصدمه هذه المعلومة، بل تلقفها ووجدها مسلية وجمع حولها ما يجعلها قصة خلوات خاصة مذهلة.
اختلفا غير مرة.. لكن رنة هاتفها الليلي التي تأتيه وهو يعمل فى الجريدة المسائية كانت تخرجه من توتره وغضبه وتعيد إليه الفرحة والإحساس بنشوة الانتصار. يقتنص سويعات يهرع خلالها لبيتها فى وسط البلد ليفرغ عند جسدها اللامع كل مراراته، وكانت كل مرة تستقبله فى أحضانها كأم عاد وليدها.
لم ينس هذه الليلة عندما حلّ على بيتها فصدته وأخرجت له ورقة بها سطور قليلة، قائلةً له بحزم لم يتعوده منها: عليك أن تكتب في هذا الموضوع، مطلوب أن تشتبك مع هذا الرجل، قال لها إنه قد التقاه وأجرى معه حواراً سطره وتركه لدى رئيس التحرير منذ أيام قلائل، استغرب وردد أمام وجهها الجامد أن الرجل رغم بعض الاختلاف مع أفكاره، هو شاعر عذب الحديث ومثقف مهم وأقرب إلينا من الحكومة.
تحدثت له حديثاً غامضاً بين الخبز والشعر وقالت له هذا يا صديقي هو ثمن تلميعك الذي سألت عنه، فلا تتخابث، ليس هناك مجانيات فى عالمنا، وأنت تعلم، وكثيراً ما رددت ذلك أمامي. الآن - يا صغيري جاء المحصل ينادي على فواتيره، إما الدفع أو العودة لما دون البدايات، جلس عندها مرتعداً يكتب ما طلبت وقدمه لها، قالت وهي تختطف من يده الوريقات التي سطرها: لن أقرأ ولن يقرأها أحد حتى رئيس التحرير، ستُنشر دون تعديل. اتصلت برئيس التحرير أمامه قائلةً إنها قد قرأت لتوها مسودة مقال هائل لشاعرها يسهم بشكل عظيم فى محاربة الخفافيش، ولم يسمع بقية الحوار فقد غاص فى نوبة من نوبات خوفه التي تتداعى فيها الذكريات.
بعد أيام كان يضحك من تردده وارتعاده فبمجرد أن اندلعت تلك الحملة الكبيرة ضد الرجل وتردد معها اسمه، صار الذي كان مجرد شاعر كاتباً ومثقفاً ومناضلاً معروفاً، تُقتطف مقالاته فى الصحف، ويُدعى به للمنتديات، وعرف بعدها جلسات لم يحلم بها، استقبلته صالونات تفوح منها عطور باريسية، أجاد بتوجيهها الابتسام والحديث الخافت مع رجال أعمال كبار وسيدات مجتمع نافذات، حضر بصحبتها اجتماع الروتاري ودعته سيدات الأانرويل لإلالقاء أشعاره، الديوان صار أربعة، والطبعة على ورق الاستنسل صارت طبعة ملونة فاخرة، هرب منها، وهي تراقبه دون أن تضغط عليه، تعلم أنه صنيعتها، ظن أن المسافات بينهما قد تباعدت بما يكفي له كي يفعل ما يشاء، لم تحاول هي الاقتراب كانت تلاحقه فقط بنظراتها فيرتعد ويعود إليها، ابتسم حين قطعت تداعي ذكرياته بتعليقها المعجب بقميصه الكاروه، قالت له ابق معي هنا لدقائق فثمة صديق سيمر بنا وأريد أن أعرفه بك، وستجئ معنا سهرة قصيرة، قال حسناً وهو يمد يده نحو علبة سجائرها "الكنت" البيضاء ملتقفاً سيجارة أخذ ينفث دخانها بتوتر لأعلى وهو يتابع الدوائر بعينه، مدت يدها لحقيبتها وأخرجت عدة سجائر محشوة، دستها فى العلبة ووضعتها فى جيب قميصه، شكرها بابتسامة جائعة، قالت له لا تنسى أن تعزم عليه، هز رأسه راضخاً.
لحظات وحضر الرجل المنتظر؛ شيخ ضخم الكرش، ذو وجه أبيض مشرب بحمرة، ولغد عظيم لا يقارعه فى عظمته سوى شارب كث مهندم احتل نصف وجهه تكلم الرجل فميزته كحة عسرة أشارت لحقيقة كونه مصدوراً، وضحكته الذاهلة وعينه التي لا تتوقف عن الدوران وشت بكونه سياسياً. نطقت باسمه مستخدمة لهجتهم فابتسم.
فى حضرة الشيخ رحبت بشاعرها كأنها لا تعرفه إلا معرفةً عابرةً وقدمته باعتباره الغريب وليس هذا الشيخ الضيف. دعته ليرافقهما فى السهرة، فرضى منشرحاً وهو يردد فى نفسه أن بنت حواء جبلت على اللعب بالبيضة والحجر. ومنها اقتنص درساً كان مفتاحاً لكنز مثير.
صعد السلم نحو النادي اليوناني يتبع ظلهما، تجاهل يد الرجل العابثة الملتفة حول خصرها، وتغنجها المفضوح، يعرف أن عليه أن يرد بعض الجميل القديم، اتسعت الطاولة لتضمه معهما وحشد آخر قد دعاهم الرجل، تحدث عن مشروعاته وآماله الثقافية، شعر بيدها تمر فوق فخذه فأثنى على حديث الرجل ورحب بما قاله، وادعى أنه انفعل بقصائده
سخنت السهرة، فأخرج من جيبه علبة سجائرها وقدم بابتسامة بلهاء ليد مضيفه واحدة من السيجارات المحشوة فتهللت أسارير الرجل، شكرته بعينيها أن ساعدها، وقالت له أنهم على موعد للسفر للإمارة لحضور مؤتمر الشعر العربي ، الخمر لم تسعفه للرد، تجرع آخر ما تبقى فى زجاجة البلاك ليبل التى دعت به إليه، زعم ارتباطه بموعد، تبادلا الضحكات مع الرجل ومدح بابتسامة مفتعلة تعليق سمج للرجل حول أن الموعد موعد غرامي ، أشار لعينيه عندما قال مضيفه له لا تنسانا من كتاباتك يا أخي ، فأنت من كبار شعراء الأقاليم، الكلمة الأخيرة حزت فى قلبه، أراد أن يقلب عليهما الطاولة لكنه اكتفى بالابتسام
بعد منتصف الليل استأذن، كانت نظرتها لا تعني له إلا أن وقته قد انتهى ، اجتهد كي تسير قدمه نحو ستلا دون أن يتعثر، سار نحوهم هذه المرة، تهللوا لمرآه فارتمى بينهم، طلب بيرة رخيصة، لم يزاحمهم هذه المرة، تجاهل الجميع ما كان بينهم من فتور، ضحكوا تلك الليلة كما لم يضحكوا من قبل، ملأت السعادة قلبه، وانزاح وخز كلمة أقاليم من أذنه، اكتشف مع تعالي ضحكاته أنه رغم كل السخرية التي يوزعها فى جلسات الكبار فى اليوناني والجريون والآفتر إيت والهيلتون وصالونات علية القوم بالمهندسين والزمالك وهيليوبوليس، أنه لم يكن يضحك، ردد الضحكات فى صدره حتى أنهكته وسحبت دموعاً من مآقيه لم يرها هى أيضا منذ سنوات، أعادت كلماتهم لذاكرته ما أسقطه فى قرارها المكين وأراد طمسه، سرد عليهم حكاية عمه المأفون الذى حاول مجامعة الإتان فى الزريبة بأن حفر لها حفرة وأنزل قوائمها فيها وحين هم أن يلجها انتفضت ولكزته فى عضوه فعاش حياته عاجزاً يداري خيبته بشارب عظيم.
جرت الياء الممطوطه على لسانه دون تعثر، لم يجتهد كي يغير لهجته الريفية، أحس بأنه يسمع صوته المحبوس في جوفه منذ زمن، قال لهم إنه سيسقط بينهم الآن فهو يشعر بدوار شديد يضرب رأسه، قال له لا تخف، وحملوه بينهم ومضوا وغاب هو فى نوم عميق، وحين أفاق وجد نفسه فى شقته القديمة، تحوطه زجاجات البيرة وبقايا ورق اللعب وكتب ملقاة فى كل ركن، لم تتغير، وجدهم جميعاً يضحكون، استأذنهم فى إجراء مكالمة عاجلة، طلبها فردت عليه مستغربة أن يتصل بها فى وقت مثل هذا، يعلم تمام العلم أنها لا تصحوا قبل التاسعة مساء
كانت قد دخلت للفراش لتوها، طلب منها أن تمنحه قبلة فقالت له أن يأتيها فى بيتها على وجه السرعة هناك عرض مغرٍ له، حطت قدمه المكان الذى استقبله لأول مرة فى طريق الخبز، جلس بجوارها، قال أرفضه قبل أن أسمعه، قالت له لما ترفض عرضاً كهذا عشر ليال ورزمة دولارات وربما طباعة بعض الأعمال هناك، قال لها أود فقط أن أقبلك، حين انتهى ضحكت وقالت فهمت تقبلني الآن كما كنت تفعلها كريفي ، حنانك لأصلك الريفي يجرك دوماً للخلف يا صديقي ، قال لها أنا شاعر، ضحكت بسخريتها المعهودة وقالت أنا صنم شعركم تتطوفون حولي تضعون قرابينكم عند قدمي ، ابتسم وقال حسناً وأخرج من جيبه قصيدةً طويلةً وضع وريقاتها بين فخذيها وقال اسمها طريق الخبز إقرأيها وستعرفين لما سأظل شاعر أقاليم
فى الليلة التالية كان يبيت فى حضنها فى تلك الإمارة على ساحل الخليج، قررت أن تمنحه ليلة استثنائية قبل أن تهجره لتكرم مضيفيها، قالت له، ستظل دوماً هكذا، جزء منك يعيش بينهم، وجزء منك سيظل يتوق لحضني وطريق خبزي . فى هذه الليلة عرف أن ما قالته هو حقيقته، وقرر أن ينفصم بإرادته، حين يكون بينهم وبينهم فقط يخرج قرينه الريفي ، ينزع أستار التحفظ ويتحدث كريفي قح، وبعد أن يفرغ من العبث ماضيه ومعهم وينجح فى تسول الشعر من جلستهم الصاخبة، يعود لطريق الخبز ليسرده هناك .. .