حينما تدخل هذا الشارع، وترى مقاهي الكلمة مصطفة على جانبيه، على طول امتداده، ينتابك لا شك إحساس جميل يرفعك بعيدا عن واقعك. بل، قد تقودك قدماك لا شعوريا لتزاحم جموع الرواد.
ترتشف معهم كأسا من الحرف الذي تعشقه أو ستتورط في عشقه كما حدث مع الكثير من هؤلاء الذين تراهم يتدفقون على المكان. هذا الصباح، استقرت عيناي المبتهجتان عليه وحده، دون غيره من جموع الرواد. شاب سمين يتقدم، بخطوات بطيئة مثقلة بالتردد والارتباك، نحو المقهى الأدبي القريب مني. في الحقيقة، لم أكن أراه هو رغم عيني المعلقتين عليه. كنت أرى ذلك الشاب النحيف الطموح الساكن كياني أبدا. أراه بلحمه وشحمه وشعره اللولبي الكثيف وقلمه المطل من خلف أذنه. يجري في اتجاه منتدى المعرفة، أول منتدى نبت في نهاية هذا الشارع من حينا الشعبي المهمش آنذاك. لا يرفع عينيه على ورقته إلا ليتبين الطريق، أو ليقضم قضمة كبيرة من رغيفه المدهون بالزبدة والمربى. تظاهر بمغص شديد وحالة إسهال قوية حتى يأذن له مستخدمه، بائع الأحذية، بالخروج للالتحاق بالأمسية الأدبية الخاصة بالشباب.
توكأ على ركبتيه في آخر الحلقة. قلبه يخفق بشدة؛ كأنه داخل على امتحان عسير سيحدد مصير حياته خلال دقائق معدودة. ينصت إلى قراءات الرواد من الشباب وعيناه تقرآن ورقته. يغمره بعض الرضا على نصه فيرفعه عاليا في مدارج الفخر. ثم يشعر بتفاهة ما سود به ورقته فيسقط من عليائه غبارا. والانتقادات الثقيلة النازلة على صديقه جميل «الشاعر» تنزل طعنات سيف حادة على قلبه الغض، فتزيده اضمحلالا.
طوى ورقته وراح يدسها في جيبه لينسحب من الحلقة بهدوء كما دخل. فيعود لبيع الأحذية، آملا أن يحظى بزوج حذاء جديد مع الموسم الدراسي القريب بدلا من هذا الحذاء الذي تمرد عليه إصبعه الأكبر، فيطل من مقدمته كرأس سلحفاة لا تخاف.
باغته صوت مؤدب رزين:
مرحبا بك أستاذ فهيم، حللت أهلا في منتدى المعرفة.
التفت بعينين مندهشتين إلى رئيس المنتدى المبتسم له كأنه يعرفه. ظل يحدق إليه كالمستيقظ من النوم متحاشيا النظر إلى أعين الرواد التي اخترقت ملبوسه المتواضع، وحذاءه المبتسم من الأمام فانغرست سهاما حادة في قلبه. راح يرد التحية ويلقي الكلمة التي هيأها لإيهام أعضاء المنتدى بأن مشاركته هي أول نتاج أثمره قلمه علهم يخففون من حدة انتقاداتهم له.. لا يدري في أي دهليز في ذاكرته توارت هذه الكلمة.. ولا يرى جدوى من محاولة استرجاعها أمام هذا الارتباك الشامل الذي لبسه.
هيا أيها الشاب. تفضل وأتحفنا بمشاركتك، ومرحبا بك مرة أخرى في منتدى المعرفة، قرأت ورقتي بصوت أجزم أنه ليس صوتي. حرارة الخجل من تفاهة ما أقرؤه تجتاح كياني. تفجر أنهارا من العرق على جبيني، على كل جسدي، تبللت أطراف ورقتي، توقفت عن القراءة في المنتصف. أخذت نفسا عميقا بعد سعلة مديدة دفعت بها وعيناي الخجولتان تقرآن الوجوه أمامي. هزات رأس إيجابية قليلة. نظرات تطلب المزيد قرأتها في عيني رئيس الملتقى، فبسمة لطيفة منه، وإشارة لي بيده بأن أن أتمم ورقتي. كان هذا كافيا بأن يعيد إلي صوتي، ويضبط نبض قلبي، ويرسم على وجهي الخطوط الأولى لبسمتي العجيبة.
أكملت ورقتي بحماس. ختمتها ببسمة بلهاء، فجرها على وجهي التصفيق الذي زاد عن حده المعروف، فظلت هذه البسمة العجيبة وقتا كالملصق على فمي واستعصى علي لملمة أطرافها، هي ذاتها أراها اللحظة، في مرآة سيارتي، ترتسم على وجهي وزئير السيارات يزلزلني من الخلف. التفت إلى الضوء الأخضر. ابتسمت للشاب السمين الجالس على كرسيه يقرأ ورقته. فدست على دواسة سيارتي. أطوي المسافة المتبقية عن مقر مجلتي الأدبية، المطل على منتدى المعرفة في نهاية هذا الشارع. وقد تخفف قلبي كلية، من هلعي الشديد من أستيقظ يوما ما وأجد الأرض قد اجتثت من رياض الحرف المسطرة على امتداد هذا الشارع. وعاد الحرف يموت في صمت في المكتبات المهجورة، أو يطل على الكتاب من فوق الرفوف كمناقير الكواسر الشريرة كما كان الحال قبل سنوات خلت. أقنعت نفسي، هذه المرة، بأن الأوردة قد ارتوت بسحر الحرف وامتلأت بحبه. وأن انفجارا مزلزلا للأركان قد يحدث إن امتدت الأيادي لتجتثه من أيديهم.
فجأة، تذبذب المقود بين يدي. خفق قلبي خفقة الموت وأنا أرى الأرجل تتلاحق. تحضن إليها الأوراق وتفر بها كأنها هاربة من نيران متوحشة. خراب عارم حل بالمنتديات الطرقية القريبة وبروادها. كلما توغلت أكثر في الشارع تبدى لعيني الجاحظتين هول الخراب أكثر. الرواد لا زالوا يفرون بأوراقهم في كل اتجاه والهراوى تلحقهم.. بعضهم سقط في الأيادي الشرسة. تدك أجسادهم هراوى ضخمة. تركلهم قوائم حديدية. تنتزع الأوراق من تحت أجسادهم المكومة. تمزقها بوحشية وتهديها بسخاء للرياح.
اقتحمت العاصفة الورقية بسرعة جنونية وأنا أطلق زمار الموت. تسمرت، بسيارتي وروحي، حاجزا بين أيديهم الفتاكة وبين منتدى المعرفة والكشك الملحق الزاخر بكتب الأعضاء. تدجج حولي جمهور غفير من الرفاق. بعضهم تسلح بالعصي، وآخرون بالأحجار، وآخرون بقضبان حديدية، جلبوها من ركام المنتديات المقتحمة القريبة ليدافعوا عن رياض الروح.
ترتشف معهم كأسا من الحرف الذي تعشقه أو ستتورط في عشقه كما حدث مع الكثير من هؤلاء الذين تراهم يتدفقون على المكان. هذا الصباح، استقرت عيناي المبتهجتان عليه وحده، دون غيره من جموع الرواد. شاب سمين يتقدم، بخطوات بطيئة مثقلة بالتردد والارتباك، نحو المقهى الأدبي القريب مني. في الحقيقة، لم أكن أراه هو رغم عيني المعلقتين عليه. كنت أرى ذلك الشاب النحيف الطموح الساكن كياني أبدا. أراه بلحمه وشحمه وشعره اللولبي الكثيف وقلمه المطل من خلف أذنه. يجري في اتجاه منتدى المعرفة، أول منتدى نبت في نهاية هذا الشارع من حينا الشعبي المهمش آنذاك. لا يرفع عينيه على ورقته إلا ليتبين الطريق، أو ليقضم قضمة كبيرة من رغيفه المدهون بالزبدة والمربى. تظاهر بمغص شديد وحالة إسهال قوية حتى يأذن له مستخدمه، بائع الأحذية، بالخروج للالتحاق بالأمسية الأدبية الخاصة بالشباب.
توكأ على ركبتيه في آخر الحلقة. قلبه يخفق بشدة؛ كأنه داخل على امتحان عسير سيحدد مصير حياته خلال دقائق معدودة. ينصت إلى قراءات الرواد من الشباب وعيناه تقرآن ورقته. يغمره بعض الرضا على نصه فيرفعه عاليا في مدارج الفخر. ثم يشعر بتفاهة ما سود به ورقته فيسقط من عليائه غبارا. والانتقادات الثقيلة النازلة على صديقه جميل «الشاعر» تنزل طعنات سيف حادة على قلبه الغض، فتزيده اضمحلالا.
طوى ورقته وراح يدسها في جيبه لينسحب من الحلقة بهدوء كما دخل. فيعود لبيع الأحذية، آملا أن يحظى بزوج حذاء جديد مع الموسم الدراسي القريب بدلا من هذا الحذاء الذي تمرد عليه إصبعه الأكبر، فيطل من مقدمته كرأس سلحفاة لا تخاف.
باغته صوت مؤدب رزين:
مرحبا بك أستاذ فهيم، حللت أهلا في منتدى المعرفة.
التفت بعينين مندهشتين إلى رئيس المنتدى المبتسم له كأنه يعرفه. ظل يحدق إليه كالمستيقظ من النوم متحاشيا النظر إلى أعين الرواد التي اخترقت ملبوسه المتواضع، وحذاءه المبتسم من الأمام فانغرست سهاما حادة في قلبه. راح يرد التحية ويلقي الكلمة التي هيأها لإيهام أعضاء المنتدى بأن مشاركته هي أول نتاج أثمره قلمه علهم يخففون من حدة انتقاداتهم له.. لا يدري في أي دهليز في ذاكرته توارت هذه الكلمة.. ولا يرى جدوى من محاولة استرجاعها أمام هذا الارتباك الشامل الذي لبسه.
هيا أيها الشاب. تفضل وأتحفنا بمشاركتك، ومرحبا بك مرة أخرى في منتدى المعرفة، قرأت ورقتي بصوت أجزم أنه ليس صوتي. حرارة الخجل من تفاهة ما أقرؤه تجتاح كياني. تفجر أنهارا من العرق على جبيني، على كل جسدي، تبللت أطراف ورقتي، توقفت عن القراءة في المنتصف. أخذت نفسا عميقا بعد سعلة مديدة دفعت بها وعيناي الخجولتان تقرآن الوجوه أمامي. هزات رأس إيجابية قليلة. نظرات تطلب المزيد قرأتها في عيني رئيس الملتقى، فبسمة لطيفة منه، وإشارة لي بيده بأن أن أتمم ورقتي. كان هذا كافيا بأن يعيد إلي صوتي، ويضبط نبض قلبي، ويرسم على وجهي الخطوط الأولى لبسمتي العجيبة.
أكملت ورقتي بحماس. ختمتها ببسمة بلهاء، فجرها على وجهي التصفيق الذي زاد عن حده المعروف، فظلت هذه البسمة العجيبة وقتا كالملصق على فمي واستعصى علي لملمة أطرافها، هي ذاتها أراها اللحظة، في مرآة سيارتي، ترتسم على وجهي وزئير السيارات يزلزلني من الخلف. التفت إلى الضوء الأخضر. ابتسمت للشاب السمين الجالس على كرسيه يقرأ ورقته. فدست على دواسة سيارتي. أطوي المسافة المتبقية عن مقر مجلتي الأدبية، المطل على منتدى المعرفة في نهاية هذا الشارع. وقد تخفف قلبي كلية، من هلعي الشديد من أستيقظ يوما ما وأجد الأرض قد اجتثت من رياض الحرف المسطرة على امتداد هذا الشارع. وعاد الحرف يموت في صمت في المكتبات المهجورة، أو يطل على الكتاب من فوق الرفوف كمناقير الكواسر الشريرة كما كان الحال قبل سنوات خلت. أقنعت نفسي، هذه المرة، بأن الأوردة قد ارتوت بسحر الحرف وامتلأت بحبه. وأن انفجارا مزلزلا للأركان قد يحدث إن امتدت الأيادي لتجتثه من أيديهم.
فجأة، تذبذب المقود بين يدي. خفق قلبي خفقة الموت وأنا أرى الأرجل تتلاحق. تحضن إليها الأوراق وتفر بها كأنها هاربة من نيران متوحشة. خراب عارم حل بالمنتديات الطرقية القريبة وبروادها. كلما توغلت أكثر في الشارع تبدى لعيني الجاحظتين هول الخراب أكثر. الرواد لا زالوا يفرون بأوراقهم في كل اتجاه والهراوى تلحقهم.. بعضهم سقط في الأيادي الشرسة. تدك أجسادهم هراوى ضخمة. تركلهم قوائم حديدية. تنتزع الأوراق من تحت أجسادهم المكومة. تمزقها بوحشية وتهديها بسخاء للرياح.
اقتحمت العاصفة الورقية بسرعة جنونية وأنا أطلق زمار الموت. تسمرت، بسيارتي وروحي، حاجزا بين أيديهم الفتاكة وبين منتدى المعرفة والكشك الملحق الزاخر بكتب الأعضاء. تدجج حولي جمهور غفير من الرفاق. بعضهم تسلح بالعصي، وآخرون بالأحجار، وآخرون بقضبان حديدية، جلبوها من ركام المنتديات المقتحمة القريبة ليدافعوا عن رياض الروح.