محمد الأحمد - أزمةُ المثقف العربي في رواية "أمريكانلي" للكاتب صنع الله إبراهيم

إذا كان قد كتب عن "القاهرة" بشوارعها الحديثة، وحواريها القديمة بوصفه أحد مواطنيها العارفين حقائقها، وايضا عن بناء "السد العالي" في (نجمة اغسطس)، ومن بعدُ غادر "مصر"، واتجه شرقاً الى "لبنان" في رواية (بيروت.. بيروت) كاشفا دقائق حربها الأهلية، ثم عبر الى الخليج، و (وردة) عن بواطن "سلطنة عُمان"، وسبقها (اللجنة) ولحقتها (ذات) ودخل السجن وكتب (شرف)، و(تلك الرائحة).. ترجم الى العربية عن الالمانية رواية (حمار بوردن) الرائعة، فنجده في (أمريكانلي- أمري كان ليّ)، يدهش فيمايتناوله من ازمة متواصلة الخيبة، باقية، يعيشها المثقف العربي. ومحددا لخطوط محنته المتواصلة، واسبابها، فتبقى ايضاً كعلامة فارقة بين العلامات الكبيرة التي ابتدعها (صنع الله ابراهيم) في مسيرة الرواية العربية الحديثة. حيث يقفُ أستاذ التاريخ بطلها موقفاً مهاجماً لما كان راكداً تحت بركة الزيت التي تفصل الماء عن الهواء، بموضوعية جريئة ذات زخماً ابستمولوجياً، موسوعياً، مقارناً، كاشفاً عبرها عما بقيَّ ازدواجي متناقضاً ما بين الفكر، والممارسة، فأستاذ التاريخ العربي، أُستدعيَّ معيناً ليعطي دروسه لثلة من طلبة الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، نجدهُ للتوِّ قد أنهى فنجان قهوته، في شقة له مؤجرة حديثاً، لينطلق سيراً حثيثاً في عمقِ مدينةٍ كبيرة، متنقلاً بسردٍ دقيق مليء بالإشارات والدلالات، مجترحاً اياها بفطنة عالية، وهي مزية فيه جعلته في طليعة كبار كتاب الرواية العربية، وسائرا مقارناً بين الثقافات المتباينة وسلطاتها المتناحرة، عند منحدر تحولها الخطير، في عالم اليوم التكنولوجي، متابعاً مسار التاريخ القديم والمعاصر مشرفاً على الاحتلال الاوروبي للقارة الاميركية بعد عام 1492 بالتزامن مع سقوط غرناطة، وتأثير ذلك على مصير المشرق العربي. (اكتشفتُ اننا نقف الى جوار تمثال لإلهة الديمقراطية، اقيم بعد أحداث ميدان "بنيامين" في بكين سنة1989م، وجذبت "سارة" امها من ملابسها، فانحنت وحملتها بين ذراعيها. قالت: هذه الساحة التي يتم فيها الليشنج- ليشنج؟ اجل. يقرر الجمهور شنق زنجي أو صيني وينفذون قرارهم في الحال دون ان ينظروا حكماً قضائياً. كان الامر منذ قرن ونصف- الرواية ص 87)، ونجد الروائي- المؤرخ يستخدم وثائق ذكرها على لسان ابطاله، او كهوامش في أسفل الصفحات، عبر استاذ التاريخ الناطق باسم الروائي، جعله يقدم مجموعة كبيرة من الوثائق التي تصور منظورا مختلفا عن التاريخ المعلن المكتوب، ويكتب ما كان مسكوتاً عنه، حيث يمسه في جوهر اختلافه، ما بين غربة الآخر لدى الآخر. وايضاً ما بين كل سلطة تطمس السلطة التي سبقتها، فالتاريخ العربي ليس موضع اختصاصه، فحسب. وانما اجتراحا ًروائياً ذكياً يفتقدهُ كل من يريد ان يقول قوله.. فيما غُلِّقَ على المفكر العربي ابواب حريته، وجعلته مقصي.. (كانت نوافذ جيراني مسدله كالعادة وقدرت أنهم إما لم يفيقوا بعد من النوم أو يقضون عطلة نهاية الأسبوع خارج المدينة. استمتعت برهة بالهدوء الشامل ثم تصاعدت أصوات مرحة من حديقة المنزل الملاصق. وتردد من بعيد عويل سيارات الشرطة أو الاسعاف- الرواية ص55)، في عزلة تحتاج الجهد الكبير للفكاك منها، والاقتراب اكثر نحو اعادة النظر، ملياً. (ليس هناك شيءغير عادي. هو من العائلة المالكة وغني جدا. هل تعرف أنه بني في سن الخامسة والعشرين قصراً في الرياض كلفه 300 مليون دولار؟ ثم حصل على عمولة قدرها مليار دولار عن عقد تليفون المملكة مع شركة التليفون والتلغراف الأمريكية. أطلقت صفارة من فمي: وما علاقته اذن بالثقافة؟ دعك أنفه بأصبعه وقال: الرجل واسع المعرفة. ثم أنه يقبل التعددية وحرية التعبير. وهو الذي أسس هذا المركز بعشرين مليون دولارندفع منها راتبك. وهو الذي سيدفع لك لو أردت أن تبقي عندنا مدة أخرى- الرواية). و يقدم الروائي في روايته مجموعة كبيرة، لا بأس بها، من الشخصيات التي تخدم اهدافه الفكرية التي كتب من اجلها الرواية، اهمها (المرأة العربية المسلمة)، و(الفتاة اليهودية)، و(الهندي الاحمر) و(الاسود)، و(اليساري) اضافة الى (المدرسة اليهودية)، والموظفتين (السوداء والبيضاء) وبعض الاساتذة العرب، قد اختارهم من كل بستان زهرة، لتمتد المساحة اكبر من "مصر". ويشير الروائيعبر علاقته مع مجموعة من الأكاديميين العرب، وخصوصاً المصريين، وبعض المثقفين الذين لجأوا الى الولايات المتحدة ودورهم في تزييف الوعي. (توافق ذلك مع فلسفة التعليم ذاتها التي وضع أسسها المستشار الإنجليزي "دنلوب" عقب الاحتلال الإنجليزي مازالت سائدة حتى اليوم- أي بعد أكثر من قرن- بهدف تخريج موظفين جل اعتمادهم أثناء الدراسة على الاستظهار والحفظ لا على القوى العقلية في الابتكار والاستنباط، وأذكر مرة أردت أن أتفلسف على أحد الأساتذة فتساءلت عما إذا كان من الممكن اعتبار الفتح العربي لمصر حرباً توسعية تحت ستار الدين. وتعرضت يومها للسخرية والاستهزاء فكيف أجرؤ على التفكير بشكل مختلف؟ الرواية ص99). معرجاً على مرحلة المماليك والاحتلال العثماني حتى الاستعمار البريطاني، وسقوط فلسطين، وتجربة الرئيس (جمال عبد الناصر) ومحاكمة الوضع الحالي بعد (انور السادات)، ومن تلاه على سدة الحكم مخلفاً اوضاعاً اقتصادية مريرة، وحريات شخصية تحدّ منها هيمنة اجهزة دولته الامنية. دون ان يفوته المقابل، حيث يقارن، فيقوم بفضح المجتمع الاميركي من خلال حركته حيث يعري المذبحة الاوروبية ضد الهنود الحمر التي ابادت الملايين من السكان الاصليين متتبعا دور الاسبان والانكليز والفرنسيين. ولم ينس (فيما يتعلق بالحضارة الفرعونية فأنا أميل إلى رأي أحد علماء الجيولوجيا المصريين في هذا الشأن. فهو يقول إن التخلف التكنولوجي عرض مصر القديمة للدمار مرتين. الأولى سنة 1680 قم عندما عرفت قبائل "الهكسوس" على أطراف الصحراء السورية البرونز وابتكرت العربات الحربية، فتمكنت من غزو "مصر". واحتاجت هذه إلى قرن كامل كي تعرف صناعة البرونز وتتعلم فنون القتال الجديدة حتى تمكنت من طرد "الهكسوس". وتكررت المأساة مع الحديد الذي لم تكن تملكه ولا الخشب وهو الوقود اللازم لتصنيعه، فدخلت عصره متأخرة بعد "الحيثيين" بخمسة قرون. انهارت إذن لأنها عجزت عن مجاراة المستحدثات التقنية والحربية التي جاءت مع عصر الحديد- الرواية). رواية بطلها مثقف جامعي يقوم بتدريس برنامج عن التاريخ المقارن لعدد من طلاب الدراسات العليا في إحدى جامعات مدينة (سان فرنسيسكو)، تثير أسئلة جريئة معاصرة، صميميه، ولا تجري مقارنة عمرانية شكلية؛ (بين مدينتي" القاهرة" و "سان فرانسيسكو- الرواية ص 69)، متناولة الكمْ المعرفي، وثقافة الآخر بالتعريف والمقارنة، بالفوارق الجوهرية ما بين المنظومتين المعرفيتين. وما تشكل بينهما من اختلاف؛ يتطرق كذلك الى دور الاوروبيين في اصطياد الافارقة واستعبادهم، ونقلهم الى القارة الجديدة، والتمييز العنصري، وبعض الحوادث التي تعرض لها السود مثل حادثة "ممفيس" التي احرق فيها "75" منهم احياء، واغتيال "مارتن لوثر كينغ" ورفض الملاكم "محمد علي كلاي" حرب فتنام. مشيرا الى فساد الأنظمة متطرقا الى فضيحة الرئيس السابق "بيل كلينتون" وسكرتيرته الحسناء "مونيكا لوينسكي" في خريف 1998م، (مونيكا ارتكبت الفعل لأنها استعملت شفتيها أما هو فلم يرتكبه لأن سيجاره هو الذي لامسها وليس هو شخصياً- الرواية ص).. كذلك فضيحة "وايت ووتر" التي ذهب ضحيتها شهود كانوا حول "كلينتون" وزوجته. (لكني سرعان ما شعرت بالإحباط فالتاريخ الذي أقبلت على دراسته كان عبارة عن تسلسل معارك وملوك وعظماء وانتصارات وهزائم. مئات الأسماء والتواريخ دون تفسير، وسرد، وتجميع على طريقة مؤرخي العصور الوسطى- الرواية ص99). ويكون مقارناً باحثاً في موضوعة العولمة عبر تحليل الوضع الاقتصادي العالمي من خلال اندماج الشركات والبنوك العملاقة وتأثيرها على انتشار البطالة في الدول المتقدمة عدا عن زيادة افقار بلدان العالم الثالث. (تطرق الحديث إلى صعوبة تحقيق المخطوطات والوقائع التاريخية. وقلت إن المشكلة معقدة لأنها تتعلق في جانب منها بالمقدسات الدينية. كم من المسلمين مثلا يعرفون أن "أبي هريرة" كان يختلق الأحاديث النبوية وأن "عمر بن الخطاب" حذره من ذلك عدة مرات؟ قال: لن تجد الأجيال القادمة صعوبة فيما يتعلق بالأحداث المعاصرة. فكل شيء مسجل الآن بالصوت والصورة- الرواية).
بمعنى أنها رواية تشكِّل ((system مقسَّمة إلى مجموعة من (subsystems) قسَّمها كأستاذ مؤرخ- مثقف، يعرف ما له وما عليه، واضعاً نفسه امام مفترق الطرق، ويجري مقارناً ما بين الذي كان سائداً عليه، وما استجد عليه، بحكم الموقع الجديد: المنظومة التكنولوجية؛ المنظومة الاجتماعية؛ المنظومة الإيديولوجية؛ المنظومة السلوكية. (ان التاريخ لا ينفصل عن الانسان، وبخاصة الانسان المتخصص الذي نسميه بالمؤرخ- عبد الله العروي) فتتكوَّن المنظومة الدنيا التكنولوجية من الأدوات أو التجهيزات المجسمة ماديًّا ومن تقنية استخدامها، التي بفضلها يجري تفاعُل الأفراد والجماعات البشرية مع الوسط الطبيعي، وسجل الروائي سردا، دون اغفال (أدوات الإنتاج، وسُبُل المعيشة، ومواد بناء المساكن، ووسائل الهجوم والدفاع. وتتضمن المنظومة الاجتماعية العلاقات بين الناس، وما يقابلها من أنماط السلوك وهذا يشمل منظومات القَرابة، والمنظومات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والحربية والمهنية).
المنظومة الإيديولوجية المكوَّنة من الأفكار والمعتقدات والمعارف، التي يجري التعبير عنها بمساعدة الحديث (الكلام) والأشكال الرمزية الأخرى؛ وهي تضمُّ أيضًا الخرافة، والدين، والأدب، والفلسفة، والعلم، والحكمة الشعبية. (انفرجت أساريرها وردّت بحمية: أنا أعمل طول اليوم في شركة بها 600 محام. عمل محسوب بالساعات. في البداية كنت أعمل 15 ساعة في اليوم. هذه الساعات الخمس عشرة تجلب لي ألفين وخمسمائة دولار في السنة أي خمسين دولارافي الأسبوع. أما الشركة فتتقاضى من العميل ثلاثمائة دولار في الساعة. أي أني أحقق لها أكثر من سبعمائة وخمسين ألف دولار في السنة. لهذا أبذل كل جهدي كي أصبح من الشركاء بعد سنوات فيرتفع دخلي إلي خمسين ألفا في الشهرزائد مكافأة سنوية عشرة آلاف. وعندما أبلغ الأربعين سيصبح دخلي مليونا في السنة. أضاف زوجها: وفي الخامسة والأربعين سيكون المبلغ ثلاثة ملايين وفي الخمسين عشرة ملايين وهي اللحظة التي ستتقاعد فيها. أما أنا فلن أتجاوز عند تقاعدي في الستين رقم المئة ألف في السنة تخصم منها الضرائب وأقساط القروض. التقط حبة فستق من طبق المكسرات وأضاف متحاشي النظر إليها: المال هو كل شيء عند الأمريكي. يوميا يحسب كم كسب؟ وكم أنفق؟ وكم أدخر؟ - الرواية ص65). ولا يعوِّل المؤرخ (بطل الرواية المحور) الأهمية ذاتها على المنظومات الدنيا المذكورة، بل يعتبر التكنولوجيا حاسمةً ورئيسةً في تطور الثقافة وقيامها بوظائفها. (ابتداء من لحظة الذروة في سنة 1187 بدأ انحدار الإسلام لأنه أنغلق في وجه المعرفة- الرواية ص 107)، إذ أجرت الرواية مسحاً شاملا لمفاهيم الثقافة وتعريفاتها العديدة جدًّا، خاصة المفاهيم المنهجية، والمنظومة، التي تناولها بالسرد حيناً او بالحوار ملتقطاً الكيف والنوع في التصنيف، وراسماً صورة العزلة، والتركيب والتفاعل والتكامل للثقافة ككل، على الرغم من تعدُّد العناصر والمكوِّنات التي لا يجوز إبقاؤُها مفكَّكةً. لتبقى الرواية في مصاف الكتب الأكثر مواجهة مع حرية الإنسان. مليئة بالمفارقات، والمتعارضات (قامت السيدتان إلى المطبخ وتبعتهما ببصري. وشردت إلى أن سمعت ماهر يتحدث عن العبقرية الأمريكية، وقدرتها على علاج الأزمات بفضل الإمكانيات الهائلة والتقدم الاقتصادي والعقول المجتذبة من كل مكان، والذراع العسكرية الطويلة القادرة علي ملاحقة أي مكان في العالم. وقال إننا ربما نكون فعلا قد بلغنا نهاية التاريخ كما تنبأ "فوكوياما" وستحل أمريكا مشاكل المستقبل بالخروج إلى الفضاء الخارجي وندخل مرحلة مختلفة كلية بقوانين أخرى- الرواية). فأستاذ التاريخ عندما كان في بلده يعرف ماذا عليه ان يفعل ليتخلص من الممنوع المعرفي، حرية من كان امره بين يديه، ولكنه بعد ان وصل الى نقطة معرفية ما فرضت عليه تلك النقطة قيداً معرفيا آخراً، وصادرت امره الذي كان بين يديه، ويمكن القول: - (الثقافة كـمقولة اجتماعية: قوامها القيم والمعتقدات والمعارف والفنون والعادات والممارسات الاجتماعية والأنماط المعيشية إلخ. الثقافة كـإيديولوجيا: تعرَّف الثقافة في إطارها بصفتها المنظار الذي يرى الفرد من خلاله ذاته ومجتمعه، وبصفتها، أيضًا، معيار الحكم على الأمور أيضا. الثقافة بوصفها انتماء: تُعبِّر عن التراث والهوية والشعور القومي وطابع الحياة اليومية للجماعة الثقافية إلخ. الثقافة بوصفها تواصُلاً: من خلال نَقْل أنماط العلاقات والمعاني والخبرات بين الأجيال. الثقافة بصفتِها دافعاً: على الابتكار والإبداع، والنضال ضدَّ القهر والتصدِّي لصنوف الظلم إلخ. الثقافة بوصفها حصادًا متجددًا: يتم استهلاكه وإعادة إنتاجه والتفاعل معه وإدماجه في مسار الحياة اليومية- د نبيل علي)، ففي كل مقطع يتركهُ بلا تعليق، وقد اشار بذكاء الى مقاصده، مؤشراً للتفكك الاسري: (حلمت بأني في منزلي بالقاهرة بعد عملية جراحية وأني متزوج من واحدة لم أتبين ملامحها. وهناك صديق لي يقف بجوارها. طلبت منه الانصراف وعدم العودة ودفعته في عنف نحو الباب دون أن يقاوم. ثم عاد وأدركت أنه متآمر مع زوجتي رغم أني سبق واتفقت معها على ألا يدخل منزلنا، فأعلنت أني سأترك المنزل. ولم تعبأ زوجتي بتهديدي- الرواية ص 68)، مفككا العلاقات التي كانت يربط بينها المكان (وجدت شارعي يشغي بالنشاط على غير العادة. واكتشفت أن سكانه يعرضون حاجياتهم الفائضة للبيع أمام منازلهم ويجلسون خلفها في ملابس خفيفة وشورتات يتسامرون في انتظار المشترين، وهم يحتسون النبيذ. أعدت الأفلام إلى حانوت الشرائط وانتقيت فيلم سحر البورجوازية الخفي لـ"بونويل"، و"كرامر ضد كرامر" وثالث من النوع الإيروتيكي عن علاقة بين امرأتين. وعند عودتي وجدت جيران الشارع يتناولون الطعام بجانب حاجياتهم- الرواية)، و(صنع الله ابراهيم) يجيد التركيز على ما يختاره للقارئ من صور مشوقة لأجل ان يتابعه بشغف (ابتلعت ريقي ثم واصلت: كانت "رجاء" كما قلت أول فتاة تثير اهتمامي العاطفي وكانت هي المسئولة عن تجدد اهتمامي بالدراسة كانت لا تفتأ تهاجم برامج التدريس التي وضعت بعد الثورة، وتقول إنها تستهدف تكوين المواطن المعتز بقومتيه بالتركيز على الأمجاد التاريخية دون إطار يجعل الطالب قادرا على فهم أسس بنيته المعاصرة- الرواية ص 101). كون بطل الرواية مرتكزاً على التعددية الثقافية (التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم، ولاتؤدي بالضرورة دائما الى السيطرة والعداوة؛ بل تؤدي الى المشاركة وتجاوز الحدود، والى التواريخ المشتركة والمتقاطعة- ادوارد سعيد)؛ ذلك يتطابق وما يؤكدهُ المبدع "محمود درويش" بان الشعراء والفنانين والمبدعين (يرتكبون جرائم بريئة بتحويلهم المآسي الإنسانية إلي جماليات مفرحة، وهو المأزق الذي يقضّ مضجع أيّ مبدع ليظل عزاؤه أن هذا يخلق أملا مبتكرا أو متخيلاً). ويرى كمبدع وجود تمزق بين استفادة المبدع من العتمة وتحويلها إلي ضوء وهو ما تتمكن منه الإرادة الإنسانية، (ان أي شاعر يرغب في الانطلاق ويبذل جهودا طائلة جمالية ومعرفية من أجل شحن القصيدة لتتجاوز شرطها التاريخي نسبيا، والخطر الشعري يكون عندما ترتبط القصيدة بالراهن، ولا يترك لها مجال للاستمرارية). فالمثقف عندما اجترح خياله استاذاً للتاريخ، فهو يروم المقارنة بين مسيرة التاريخ، ووثيقته المسكوت عنها، فقد أكد على صدق ما يؤمن به عندما جهر قائلا، بلا تردد، او تحوّط :- (لا يراودني شك في ان كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحقة بوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري الاسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية، ولا على الاملاءات الاميركية، وعلى العجز الذي يتبدى في سياسة حكومتنا الخارجية، وانما تمتد الى كل مناحي حياتنا، فلم يعد لدينا مسرح او سينما او بحث علمي او تعليم لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق اكاذيب. لم تعد لدينا صناعة، او زراعة، او صحة، او عدل. تفشى الفساد والنهب. ومن يعترض يتعرض للامتهان وللضرب والتعذيب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب ان يغمض عينيه او يصمت لا يستطيع ان يتخلى عن مسؤوليته). فثمة ازمة متفاقمة في المناهج الفكرية العربية، كون اغلب اساتذته تطلب من الطلبة، ما تحت البصر، وهي الرقيب المتكرر على اي بحث جدي، إذ تريد ان تفرض عليه قيوداً، وترهبه قمعاً، حتى لا يمسّ التابوات الثلاث (الدين- الجنس- السياسة)، وتحدد له شرط الاختيار من كتب الرفوف القريبة، ليس لكونها لا تقرا جديداً، وانما لأنها تحفظ عن ظهر قلب مساحة البحث، وأطره، لأنها تريد غالبا ان تفسد اي تمرد، وربما تثنيه عن كشفه الجديد. بمثل ما قد جرى عليها، وقد تجاوز العالم الحديث تلك المحنة منذ ان حاول التأسيس (منظوميًّا) لنظرية الثقافة العامة المقارنة؛ بمنهجٍ قويم، عالِم الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكي المشهور "لِسْلي وايت" Lesley- White (1975-1900)، مسمِّيًا منهجه بـ(علْم الثقافة)، منهج تتبع الينابيع الى المصبّ، دون ان ينسى ذكر ما يستحق الذكر كروعة زقزقة الطير، وحفيف الشجر، الخ... ومثلاً: (فتحت باب التعليق. وانصبت التعليقات على الحضارة الفرعونية وسرّ انهيارها. قالت "فادية": العامل الرئيسي هو ضعف الملوك الأواخر والتجائهم إلى العناصر الأجنبية المرتزقة من الأغريق. فهؤلاء ساعدوا "الفُرسْ" على احتلال "مصر" ومكنوا "الأسكندر" من غزوها بعد 150سنة. قلت: وما الذي أضعف الملوك الأواخر؟ لماذا تجمدت الحضارة المصرية القديمة وكيف تحولت مصر من إمبراطورية إلى أطول مستعمرة في التاريخ على حدّ قول "جمال حمدان". قال "لاري" الذي يحمر وجهه كلما تكلم: حسب "توينبي" فان صعود وسقوط حضارة ما يعود إلي مبدأ التحدي الذي تواجهه هذه الحضارة وقدرتها علي الاستجابة له. فما هو التحدي الذي واجهته الحضارة الفرعونية وفشلت في مواجهته؟ علقت "ميجان" بإحالة الى أطروحة المؤرخ الأميركي "بول كنيدي": إذا زادت الالتزامات الإستراتيجية للدولة العظمى على إمكانياتها الاقتصادية اضمحلت قوتها تدريجيا. وهذا قد يفسر أيضا سقوط الإمبراطورية السوفييتية- الرواية ص). جاءت الصفحات لتوثق وقع احداث الاحداث، وليس لتحكي حكاية ما، ولكنها رواية خطوطها الفكر الذي ضاق بمفكريه، من بعد ان استعصى عليهم، ما لم يستطيعوا تحديده، وجاءت لترفع العتب ما بين اثنين اختلفاً بالمناهج، والتقيا كإنسانية، واحدة على كوكب واحد ملئ بالنصوص الجميلة، ولكن واجتها ادرجت تاريخا قاتما، ومرّا على اي باحث يريد ان يخلص نفسه من محنته السقيمة.

بعقوبة
‏الاحد‏، 06‏ مارس‏، 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى