سعيد رفيع - الرقصة الأخيرة للبعوة

سليمة أولى الضحايا .. كانت بمفردها في البيت .. وأمها في زيارة للجيران .. وعندما عادت الأم وجدت باب الدار مفتوحا ، والبنت ملقاة على العتبة.
تقول الجدة حسينة أنها على علاقة وثيقة بالجان الطيبين ، أما الجان الأشرار فهناك عهد بينها وبينهم بألا تفضح سرهم ، فالبعو هو الجان الشرير الذي يسكن الأرض السابعة .
ثم تستطرد الجدة حسينة :
البعو له زوجة نصف جنية ونصف إنسية تدعى البعوة ، وكان البعو يهيم بها حبا في بادئ الأمر ، ولكنها عصت أمره ذات ليلة ، كان من نتيجتها أنه عزف عن معاشرتها ، حتى يكيدها ، فقد سخرها رغما عنها لتجلب له أجمل العذارى من الإنس كي يعاشرهن على فراشها وعلى مرأى منها ، ومن يومها وهي مسخرة لهذا الغرض دون أن تجرؤ على الإعتراض ، حتى لا ينتقم منها البعو ، فيحولها إلى كتلة من النار .
وتسترسل الجدة حسينة :
تخرج البعوة إلى السطح ، من أي شق من شقوق الأرض ، يتصاعد من الشق دخان أبيض كثيف في البداية ، ثم ينقشع الدخان لتتجلى البعوة في شكل إنسية ترتدي النقاب كدأب حريم العربان ، وتتجه مباشرة إلى منزل البنت التي يشير لها البعو ، ولا بد أن تكون البنت بمفردها بالدار في تلك اللحظة ، فتطرق البعوة على الباب ، وعندما تفتح لها البنت تمد لها البعوة يدها لتصافحها ، وبمجرد أن تتم المصافحة تصاب البنت بالغيبوبة ، وتسقط من طولها على عتبة الدار .
وعندما تفقد البنت وعيها ، والكلام لا يزال للجدة حسينة ، لا يتبقى منها فوق الأرض سوى جسد كاذب ، أما جسدها الحقيقي فيكون في سابع أرض مع البعو ، وبعد أن يقضي البعو حاجته يعود للبنت جسدها الحقيقي ، وتفيق من غيبوبتها ، ولكن دون أن تتذكر شيئا عما جرى لها ، كما تعود للبنت عذريتها وبكارتها حتى يستدعيها البعو من جديد لسابع أرض .
تتحدث الجدة حسينة بثقة شديدة ، وتقول على ابناء القبيلة أن يرشوا الشيح المدقوق على عتبات منازلهم ، ذلك أن رائحة الشيح تؤذي البعوة ، وتمنعها من الإقتراب من البيوت ، أما إذا أراد اهل القبيلة أن يتخلصوا من البعوة إلى الأبد ، فلا مناص من أن يقوم فتى بالغ بلمسها في أي منطقة من جسدها ، وحيث أن البعوة تكون متدثرة بالثياب من رأسها إلى أخمص قدميها ، فإن مجرد ملامسة الفتي لثيابها تكفي للقضاء عليها ، إذ تتحول البعوة على الفور إلى كرة مشتعلة من النار ، ثم تخمد النار ويتطاير رمادها في الهواء دون رجعة ، وتؤكد الجدة حسينة أن البعو قد وجد في بنات القبيلة الجميلات ضالته ، وأن مزيونة ستكون ضحيته القادمة .
وكان لا بد لأهل القبيلة من حل دائم يخلصهم من البعوة ، وكان الحل جاهزا عندهم ، لا بد من أن يتطوع أحد فتيانهم بملامسة البعوة ، كما نصحت الجدة حسينة ، والخطة بسيطة للغاية ، إذ لا تتطلب سوى أن تنتظر القبيلة أول عرس زواج يقام في النجع ، وفي هذا العرس ترقص مزيونة بين صفوف الرجال ، ومن المؤكد أن البعوة التي فشلت مرارا في أسر مزيونة لن تغيب عن العرس ، بل ستأتي خصيصا كي تتظاهر بمشاركة مزيونة في الرقص ، ثم تقترب منها رويدا رويدا حتى تلمس يدي البنت ، عندئذ ستسقط مزيونة في غيبوبة .
وحتى تفوت الفرصة على البعوة ، كان عليهم أن يتخيروا فتى يتنكر في ثياب امرأة ، وعلى الفتى أن ينزل الحلبة بمجرد دخول البعوة إليها ، عليه أن يتظاهر أيضا بالرقص ، ثم يقترب رويدا رويدا من البعوة ، وبمجرد أن تصبح في متناول إحدى يديه ، عليه أن يلامسها أو أن يلامس ثيابها ، عندئذ ستطلق البعوة صرخة مرعبة ، ثم تسقط متكورة على الأرض ، وسرعان ماتندلع فيها النيران لتهلك دون رجعة .
أوصت الجدة حسينة بأن يتم التشديد على جميع نسوة القبيلة بعدم النزول إلى حلبة الرقص ، مزيونة فقط هي المسموح لها بذلك ، باعتبارها مجرد طعم لاستدراج البعوة ، عندئذ يمكن التعرف على البعوة بسهولة .
وبالطبع تم إطلاع والد مزيونة على الخطة ، فتردد في بادئ الأمر ، ثم اضطر للموافقة ، وترددت مزيونة أيضا ، بل رفضت رفضا قاطعا فكرة الرقص مع البعوة في حلبة واحدة ، ثم عادت ووافقت بعد أن وقع الإختيار على عمران خطيب مزيونة ، كي يشاركها الرقص في الساحة متنكرا في ثياب امرأة .
بعد صلاة المغرب مباشرة ، إصطف الرجال في صفين متقابلين ، بينما جلست النسوة حيث يصطف الرجال ، ورقصت مزيونة كما لم ترقص من قبل ، إذ رغم جزعها من مجرد التفكير في قدوم البعوة ، إلا أن شعورها بالزهو كان قد فاق شعورها بالجزع ، يكفي أنها انتزعت إعترافا صريحا من جموع القبيلة بأنها أجمل البنات ، ويكفي أن عمران سيشاركها الرقص لأول مرة ، كانت ترقص وعيونها تبحث عنه من خلف النقاب ، وجالت بعيونها كثيرا بين صفوف الرجال ، ثم تذكرت أن الخطة تقضي بأن يتنكر عمران في ثياب امرأة ، فولت وجهها صوب النسوة المتربعات على الأرض ، تبحث بينهن عن فتاها .
إمتد العرس في اليوم الأول بعد منتصف الليل ، دون أن يظهر للبعوة أي أثر ، وانتهى اليوم الثاني كذلك من دون بارقة أمل في ظهورها ، وبدأ الشك ينتاب الجميع في صحة ما تروج له الجدة حسينة ، وعاد البعض يسخر مرة أخرى من تخاريف الجدة .
في اليوم الثالث والأخير ، إصطف الرجال في صف واحد كبير ، واحتشد الفتيان من ضاربي الدفوف ، وشرعت مزيونة في الرقص السريع ، وبمجرد أن شرعت في الرقص سرت همهمة بين الرجال ، بعد أن شوهدت امرأة منقبة ، تختلف عن نسوة القبيلة في ثيابها ومظهرها ، وهي تنسل إلى الساحة لتشارك مزيونة الرقص .
بمجرد ولوج البعوة إلى الساحة كاد أن يغشى على مزيونة من الرعب ، وهمت بأن تصرخ أو تغادر الساحة لتنجو بجلدها ، ولكن دخول عمران إلى الساحة مباشرة في أعقاب البعوة ، أشعرها ببعض الطمأنينة ، فاستمرت في رقصها المرتبك، وحرصت أن تبتعد بقدر الإمكان عن البعوة ، كما حرصت ألا تعطي البعوة ظهرها تحت أي ظرف من الظروف .
وبالطبع فإن هروب مزيونة من الساحة لم يكن ممكنا حتى لو أرادت ، ذلك أنه بمجرد ولوج البعوة ثم عمران الساحة ، عمد الرجال إلى تشكيل حلقة حولهم لمنع البعوة من الهرب ، فعل الرجال ذلك دون أن يتوقفوا عن الغناء ، ودون أن يتوقف الفتيان عن ضرب الدفوف ، ثم عم الحماس النسوة فارتفعت الزغاريد ، وتركت بعضهن أماكنهن وهرولن ليشكلن حلقة أخرى خلف الرجال ، يحاولن التطلع من بين الأعناق على ما يجري في الساحة .
ويبدو أن البعوة فطنت إلى ما يجري حولها ، فتوقفت برهة عن الرقص ، وأخذت تتطلع إلى الطوق المضروب حولها ، ثم راحت تمعن النظر في عمران ، وكان عمران قد اقترب كثيرا من البعوة في تلك اللحظة ، ولكن البعوة كانت تبتعد خطوتين كلما اقترب منها خطوة .
إستحكمت الحلقة حول البعوة ، فعادت إلى الرقص من جديد ، كان رقصها عصبيا كرقص الزار ، وازدادت عصبيتها بعد أن عمد الرجال إلى تضييق الحلقة حولها أكثر فأكثر ، حتى أصبحت المساحة التي يرقص فيها الثلاثة محدودة للغاية ، وكان معنى هذا أن يزداد الخطر على مزيونة ، إذ أن قدرة مزيونة على المناورة أصبحت محدودة أيضا ، وازداد شعورها بالرعب حتى همت أن تصرخ طلبا للنجدة، ولكن عمران أعفاها من ذلك باقترابه أكثر فأكثر من البعوة ، وعندها عمدت مزيونة إلى مد يديها متظاهرة برغبتها في مصافحة البعوة ، فعلت ذلك حتى تبعد انتباه البعوة عن عمران ، الذي اقترب من البعوة لدرجة كانت كافية كي تمتد يمناه لتلمس رأس البعوة ، وتشد نقابها إلى الأرض .
فعل عمران ذلك بسرعة مذهلة ، ويبدو أن الرجال لم يتوقعوا أن يحدث ذلك بهذه السرعة ، فحبسوا أنفاسهم ، وتراجع بعضهم مرتاعا ، فارتدت النسوة بدورهن ، وترقب الجميع أن تصرخ البعوة ثم تتحول إلى كرة من نار ، ولكن هذا لم يحدث ، إذ كشفت البعوة عن وجهها فجأة ، ثم اقتربت من عمران وهي تشعر بالحرج .. وقالت : " أنا أم عبدالرحمن .. من جيرانكم . "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى