محمد الأحمد - كِيّا..

انتشر خبرها كشرارة في هشيم..
- "المرأة تركتهُ جثة مهشمة الراس ملقاة في ساقية احدى البساتين القصية".!!
رأيتُ في الامر من اهمية ان لا ينسى، وان لا يكون بينه وبين ما يحدث من احداث كثيرة قريبة الشبه، أي نسيان، فيعبر كفعل عابر، يحدث بين الاحداث الجسيمة، المتشابهة في زمن تكررت فيه الافعال الجسيمة المتشابهة..
كأنما قطرة حبر انتشرت ولم تستطع رفعها ورقة نشاف، قد امتصّت الحبر، ثم تلفت، ولكنها لم تستطع ان ترفع أثره من على سطح ورقة الكتابة ابدا.. هكذا عصفت بي بداية حكايتي مع "ليلى"..
رحتُ اقول في نفسي:
- "كأي قتيل في زمن الرجال القتلى"؛
خبر عادي جداً، ولا غبار عليه، لكن ان يكون القاتل أمرأه، فذلك امراً استثنائياً، ولن يخلو من الاثارة..
"على الاقل نكون ملمين في تفاصيل حكاية قد تصلح لثرثرة مشوقة"..
لم أكن اول الراكبين، ولم اختر طوعا المقعد الذي جلست عليه، برغبةٍ محضّة. وجدتني منقاداً اليه بخجل بليغ؛ رغم من أني لا احبّذه، بجانب السائق الذي سوف يبقي محرك سيارته يزمجر تحتي، وتتصاعد منه ابخرة العادم الخانقة.
كأن المقعد مهيأً للانطلاق بي الى الفضاء المتلاشي في ايةِ لحظة.. غير ثابت معه.
ان اكون في الواجهة، ذلك يعرضني ان اكون اول من يطلب منه بطاقة الهوية، والاجوبة.التفتيش في الشارع لا يعني سوى اظهارها، والرد على اسئلة المسلحين، وهمّ على الاغلب غير معرفين الجانب، مليشيات، او عسكر، او عصابات خطف، كل منهم يقطع الطريق في المكان والزمان الذي يريد، ولا يهمّه قربه او بعده عن نقطة تفتيش رسمية، خلل كبير مرسوم بعناية فائقة، وكأنما ليكون ذلك الخلل مكمّلا لتبعات اخرى.
جلست صامتا بغير ارتياح، في المكان الذي لا اريد، حتى جاء الى المقعد الملاصق لمقعدي أحد الطلبة،بغية التحاقه بمكان دراسته. نظرت اليه بطرف عيني ووجدته حليق الرأس ببشرةٍ سمراء ترك لحيته الصغيرة دون شاربين، كأنه لصقها لتتوضح كبقعة سوداء أسفل حنكه، غير متناسقة، بدت مثل ذرق طير وقع عليه، وأهمله دون غسل.. لكنه كان بعطر طيب فاح من ملابسه.. غطي به على ما شممته من مزيج روائح اخرى.. بعد ذلك اخذ الذاهبين الى مركز المدينة، يتوافدون تباعاً، وكل منهم يلقي على مسامع الحاضرين سلامه، توالوا ليحتل كل منهم مقعده بركود، يَسمعه كل منا الردّ على "سلامه". لم يكن من عادتي ان لا أرد على السلام، ولم يكن من عادتي ان التفت الى الخلف، ولكني افرز حفيف الاقدام من بين الجلبة، التي تحاول الصعود بمهلٍ، لأعدّ مع نفسي بقية المقاعد الممتلئة من الفارغة. تمتلئ المركبة وتتحرك بنا بعد الوقوف الطويل، اذ بقيتُ مشنّفاً اذناي لأستمع بسقمٍ الى تواصل تلك المساحة الصوتية التي تصف الاحداث الضاغطة بحوادث القتل المتتابع، والذي مازال يجري، ولا يستثني احدا على الاطلاق، حوادث موت زؤام يجرى علينا كغيمة ماطرة ترشّ على كل الناس، عطاياها، وتزمجر على مساحة ايام لا تقاس الا به..
"كيف وصلت المرأة اليه؟"..
"هو الذي وصل اليها"..
وجدت نفسي كهواة السماع، احاول ان اتوقع كيف يكون صاحب الصوت، او صاحبته، واحزر ما يرتدي من ملابس، اذا تعودت على ذلك عندما كنت موظفا في الاذاعة استلم اول المكالمات عبر الهاتف مع الناس، واحاول ان اقيّمها قبل ان اشركها مع المخرج كي يشركها مع مذيع برنامج كان اسمه "انت على الهواء" ثم يذيع ما يودّ قوله على الهواء، مباشرة، ولكن الحال تغيّر منذ ان احالنا "برايمر" الى التقاعد، مع اغلب كوادر وزارة الاعلام، ووجدت نفسي عامل على جهاز استنساخ قديم "نوع كانون"، وصرتُ مستحصل منه قوت يومي في محل مؤجر من بناية متداعية بقيت مسافتها في وسط مركز المدينة، حيث انتصفت المسافة بين محكمة الاحوال الشخصية، واحدى فروع مصرف الرافدين، فتعودت على ان اصل الى المكان يوميا، بواسطة الـ"الكيّه" في حين لم تكن لي معرفة بإجادة قيادة مركبة، ولم يكن لدي المال حتى يدفعني لشراء سيارة اصل بها موقع عملي..
اجدني في كل مرة قد اصغيت جيداً الى تلك النتف من بعض أذيال كمّ كثيف من القصص الذائبة بين الفضاءات.. كأنما اللحظات سوف تبقى ساكنة ومستقرة في أطراف فضاء مفتوح النوافذ، بالرغم من تتصاعد رائحة النيكوتين والأفواه المليئة بالأسنان المتسوسّة، للفقراء الذين يقصدون ارزاقهم، يكدحون من أجل قوت يومهم.. متحدرون لأجل عمل كشريان يصل الحياة الى اهليهم، تتوحد قصصهم بالرغم من العيون التي تتقاطع وتتشتّت خطوطها لما ابعد ما يصل اليه النظر.
اعهد احيانا؛ عيون اخرى متطلعة بحذر، واخرى لا مبالية، لكنها تصبّ في تملي قامة امرأة اخرى قادمة كالأمل، ولعلها تكون الشخص الاخير الذي سوف يملأ المقعد الفارغ لأجل ان ينطلق به مشوار يومنا..
"امرأة من منطقتكم اغتالت مسؤولا حكومياً"..
في الغالب اترك لاذني حرية ان تلتقط الكثير من البوح الذي يختلط فيه التحسّر والغبن والانكسار، كما صرت ارى وجوها قد اضرّ بها الخوف، جعلها بصوت واهن يئن متداخل بين حلقات الناس القادمة بقلق وريبة كالهمّالخفي المشترك..
- "يقال انها هرست رأسه بمفك العجلات"..
- "البارحة"؟..
- "طبعا لم تسمع بالخبر لأنك يوميا تدفن وجهك بالكتاب ولا تريد ان تعرف ما الذي يحصل"..
تبقى تندلع مسارات تلك القصص الطائفة في فضاء المركبةوتختلط بدخان العوادم والسكائر، وعطن اجساد متلاصقة، تشربت بها الملابس، تقاومها عطور رخيصة تطغي على بعضها،وكل منا يغوص في مقعده. تعودت الاصغاء الى تلك الحكايات الشفاهية المنقولة ببراءة،ولمعرفة ماذا يحدث في العالم، من بعد ان ألغيت من حياتي اليومية متابعة اخبار الفضائيات التي صارت تجلب لنا الموت بأكثر مما نعرفه ونسمع به، صرت غير مهتما بالتلفاز، لكونه احدى ادوات الارهاب التي يتبادل عبره السفاحون رسائلهم..
- "ليتني أستطيع تدوين ما يمكنني تدوينه بصورة مصغرة عما يدور عبر هذه الحقبة الخانقة، ارسم عالما مصغرا، نموذجا، حكاية تعكس، رواية، شهادة عن العصر، كتابة".
- "قسمت المناطق الناس الى مناطق صغيرة، كأنما حبست الناس في اقفاص دجاج وبات على الجميع ان ينتظر تنتيف ريشه من بعد ذبح"..
فرزتُ صوت امرأة عجوز بصحبة ابنتها، وحفيدها، اذ نهرته ان لا يعبث بزجاج المركبة..
- "كأنها الجريمة الوحيدة التي صاروا يبحثون عن مرتكبيها ما دام ضحيتها مسؤول"
- "غايتهم ان يفرغ البلد من اهله ويأتي اليه سكان جدد من كواكب اخرى ليكون لهم بكامل ثرواته، حيث يجري تفريغ الارض من اهلها فالذي مات والذي هاجر، والذي بقي مثلنا ينتظر دوره"
بعدها التحقت بنا عجوز اخرى عرفتها من صوتها المحشرّج الذي كشف تاريخ اسرافها في التدخين، والتي صارت ترافقني يوميا الى مشواري، اظن بها مرة قد شكت سوء معاملة مزارعين الخضروات الذين يضاربون بالسعر دون وازع اخلاقي.
كعادتي كنت أموت موتي اليومي ككل مرة، ولا إنسي انني احيا لكي أموت مجددا، فانا الميت الحي الذي يقوم من الموت، وفي كل مرة ينسى انه يحيا من الموت الذي لا موت فيه.فأي سقم تمتزج فيه الأخبار بمصير الحكايات التي تعودوا على حكيها كشكوى هم بعضهم البعض، وكل بطريقته. صار السائق يسمح الزجاج الذي امامه، وينادي بصوت مثل كل زملائه في المهنة، بالإعلان عن وجهته:
- "طالع الى السوق"
وينزل ليتمكن من اكمال وتنظيف ليرى بوضح من خلال الزجاجة الامامية. فأتحرك بتلقائية الى امام، اجدني قد سحبت المرآة المتراخية، برأسي لتتغير صورتها، عن دون قصد، فتوضحت امامي صورة كل مقاعد "الكية"، حيث كان سبب عدم الانطلاق هو انتظار الشخص الحادي عشر، الاخير.. حتى يملأ المقعد الفارغ،ومن ثمَّ الانطلاق..يتواصل بين فراغ الصمت همهمات اخرى طغت على صوت المرأة العجوز الذي بقي يتواصل في راسي مثل حريق لم يطفأ بعد، بقيّتالهموم تعلو فوق تلك الاصوات المتراكبة..
"لم يكن للمرأة اية علاقة بالإرهاب".
فقال صوت اخر:
"لكن يا خالة لو لم يكن هناك ارهاب لما احترقت البلاد بأيدي العباد"..
التقت عيني بعينه، وكأنه شعر بخوف، واراد ان يتراجع عما قاله، فآثرت ان اقول بصوت واضح، معطياه اياه مساحة لأمانٍ مفتقد:
- "بتنا نحن بحجته غرباء البلد"..
مضت العجوز تواصل الكلام مع امرأة بجانبها
- سمعت عن الفاعلة من عائلة معروفة..
- ربما مغرر بها..
تداخل بالحكاية رجل جلس جواري
- جريمة شرف..
- هل انت محام؟..
ولم يجبها على سؤالها بعد ان تراصفنا جميعاً في مقاعدنا وعجّ الفضاء بحكاياته أخرى متواصلة بالخوف. تترسب في قاع ذهن الكاتب الذي يشاركني رأسي يودّ تنظيمها فيما بعد.. حيث لا أجد لهذه العزلة القصية اي علاج، سوى تمرين ذاكرتي على التذكر، وان افترض خيالات منظمة متواصلة مع بعضها لتبدو حلقات موصولة، مقنعة..
سأقول انا المجنون وحنجرتي سُلخت بانتظار القول؛ لكنها لم تستطع النطق ولم تقل..
هاجت في أنفسنا مخاوف كبيرة، تتعلق بمصائرنا المجهولة. لكني هل أستطيع التعامل مع تواتر الاحداث بكل اتزان، بدلا من الكلام مع النفس وملامتها. يوميا اودّ الالتزام بما قررته، ان اتوجه الى الحاسب، حالما أصل البيت، وان ادوّن اولاً ما فاتني تدوينه، من سطور؛ بشأن تلك المرأة الجميلة التي غزت عقلي ذات يوم، وفرضت على مخيلتي شخصها الشجاع.. مرّ عليَّأكثر من عام وانا ابرر تكاسلي بانشغالات شتى، ومزاحمات نفسية، وكأني اعود الى البيت للآخر مرة، حيث امضي وقتي في قراءة الاخبار في صحف الأنترنيت، وازداد خوفاً كلما ضاع مني الامل ان يعود البلد الى ما كان عليه من استقرار..


محمد الأحمد
بعقوبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى