كلماتٌ على جبينِ البؤس
بالقرب من ميناء يرصّع ساحلا جزائريا كجوهرة في جيدِ غادة، يقف شابّ يهوى البحر، يتأمّل وهو يرنو إلى العيش خارج إفريقيا. في جبهته يقدح الحماس، يتطاير الشرر، تشتعل نفسه بالحياة، ويبدو من عينيه المتوقّدتين بأنّه لن يستسلم حتّى ينال ما يريد.
على جنبات شارع طويل فوضوي الملامح في مدينة جزائرية، ترتسمُ المحلّات والمقاهي والمديريات. على الرصيف طفلة، تحمل في يدها دمية، وبيدها الأخرى تشدّ يد أبيها الذي يمشي الهُوينى بدون هدف. علّمها أبوها الحروف فصارت تقرأ اللّافتات وهي في سنّ الحضانة. وقد أصبحت تُحسِن تهجئة أسماء المحلّات والمقاهي والمديريات...
علّمها بعض الكلمات، أما المعاني فيتكفّل بتعليمها الزمن. بدأت بعض الكلمات تزحف على بياض عقلها، ونقاء سريرتها، كما تكتسح الغيوم صفحة السّماء. لم تُدرك الطفلةُ بَعدُ معنى الفوضى والزحام والتلوّث والضجيج. هي لا تعرفُ القانون و الجزاء والعقاب..لا تعِي معنى اليأس والإحباط والغشّ وغيرها من العيوب التي يعرفها الكبار بالممارسة أو الأزمات...باختصار هي لا تزال تكتشف الحياة.
لقّنها أبوها سورة الفاتحة ولقّنتها بعض القنوات أناشيد الفتيات. أمّا الحياة فتطبع في نفسها الصغيرة آثارا عميقة. تتراكم الأجزاء الصغيرة، والتجارب الضئيلة، واللحظات العابرة، لتصنع فيها طبعا وشخصية، كما تتراكم الحفريات والأتربة في طبقاتٍ لتصنَعَ جيولوجيا الأرض.
في ذلك الشارع، تحت اللّافتات يمشي شيخٌ مرهَقٌ قد وَخَطَ الشّيبُ شعره، ورَسَت التجاعيد في صفحة وجهه منذ أمد، ورسمت أشكالا وخطوطا تعبّر عن الوهن وانقضاء الحياة. وفي جبينه، تصرخ تقاطيعٌ بأعلى صوتها وهي تقول: "فات القطار!".
...آه...آه من الأسمال التي يرتديها، و التي تأبى كلّ يوم أن يرتديها!...ألوانها تُرهقُ الأذواق، رائحتها تدعو الذباب المـُتخم إلى مائدة العفن، ومنظرها يحشِدُ الأطفال الساخرين الذين يقتلون الوقت والبراءة بكلّ طريقة ممكنة.
يمشي الشيخ وعلى شفتيه المرتجفتين تتردّد كلمتان: "مَا نْعَاوَدْشْ". وكانت هاتين الكلمتين تتكرّران كلازمةٍ في سمفونيةٍ رهيبة. يلقي خطوة أو خطوتين في ضَعف، ثمّ يتردّد صدى الكلمتين من جديد. يُطلقهما بصفة آلية وهو يدبُّ على ظلال الجدران. لقد عَهِدَ أن يقولها خائفاً من كلّ شيء، وقد تحمّل مسؤوليةَ أخطاءِ البشر كلّها، فقط ليسلَمَ من الأذى! وقد خانه وعيُه منذ زمن، فصارت هذه الكلمات تتردّد وحدها على لسانه، يلوكُها كلّما أحسّ بالخوف.
نظر الشارع المثقل بالمقاهي واللّافتات وسمع تلك الكلمات التي تذوب وسط الضجيج. أنصَتَ إلى تلك الآهات المتعبة وتمعّن جيّدا في ذلك الجسد المتهالك الذي يختبئ هُزاله وراء الأطمار البالية.
لم يفهم أحدٌ ذلك الشيخ، ما عدا الشارع. هو الوحيد الذي يعرفه، منذ أن رماه ابنه في ذلك المكان الذي يأوي العجزة. ذلك المكان الذي ينزوي فيه الأحياء في انتظار الاندثار. يخرجون في النّهار يمشون كالموتى الأحياء، ويجوسون خلال الشوارع كالأشباح، حتّى أنّ النّاسَ لا يكادون يرَونَهم!...ثمّ يعودون في المساء، وكأنّ الحياة تخجل منهم، فتخبّئهم في المراكز.
مشى ذلك الشيخ الذي ورِثَه الحاضر من الماضي والذي بدا كحبّةٍ تنزلقُ وحيدة وقد انفرطت من عِقدِ الزمن. أمّا الشارع الذي اختفت معالمه وسط فوضى البشر، فيبقى ماثلا في مكانه، ينتحب ويتأسّف لهذا المخلوق الذي اضمحلّت الحياة بين تجاعيده وهيئته.
مشت الطفلة بجانب أبيها ونظرت إلى الشيخ بعينيها الصغيرتين الّلتين تقدحان بالفضول. أمّا أبوها فراح يُتمتم، وهو يسأل العافية، وقد أشاح بوجهه عن تلك الذّات الذابلة، وأَغَذَّ السّيرَ قائلا لابنته: "اِمشِ..أسرعي!".
دنت الساعة من منتصف النّهار ودقّت نواقيس الوجبة الوسطى في ذهن هذا الرجل المشتّت، فانتفى العالم ولم يبقَ غير كلمة واحدة: "الخبز".
وسط الشارع، وعلى طول الطريق، تُولد الحفر والممهّلات، تتعثّر السيّارات، ترتفع الأصوات، ويتألّم الشارع لكنّه يحمد الله لأنّ الطفلة لم تستطع قراءة شيء على الطريق لأنّه لم يُكتب "حُفْرَة"، وإلّا استهلَكت المسكينة كلّ حروف "الحاء" و "الفاء" و "الراء"...أمّا "التاء المربوطة" فسيُفضُّ رباطها عندما تسقط في الحفر.
واصلت الطفلة مشيها وهي موصولة إلى أبيها كقاطرة يشدّها القطار، حتّى رأت الشيخ يقترب، ونظراتٌ حيّةٌ غريبة تعلو وجهه، حتّى خُطاه صارت أسرع، تتجاهل الأطفال الذين يتبعونه. كانت عيناه الشاخصتان تنظران نحو أبيها. وعندما اقترب أكثر منهما، قال كعادته وبصعوبة:"مانعاودش.."، لكنّ الأب واصل المشي حثيثا، والدمعة تترجرج في مآقيه. وراح الشيخ يطارده وهو يجرُّ كيانه المضمحلّ، والأب يسحَبُ ابنته التي تنظر إلى كلّ ما يجري كزهرة متفتّحة. يسحبها أبوها كي لا تتعرّف على البؤس والشقاء في سنّ النسيم والياسمين، لكن كيف عساه ينجح، والبؤس يوجدُ حيث يتواجدُ البشر...
وفجأةً، على وقع تلك السمفونية الرهيبة، تغرغرت عينا الأب، ثمّ انهمرت الدموع كالسيل لا تتوقّف وهُو يمضي في طريقه، والشَّيخ يطارده كشبح مخيف.
وكان الأطفال السَّاخرون لا يزالون وراءه يزيدون جسمه المكدود معاناةً فوق معاناته. دار الرجل إليهم وطاردهم بقوّة. عنّفهم وصرخ في وجوههم والدّمع يتطاير من وجنتيه. لقد انفجرت مكبوتات نفسه كالبركان ولم يكن أمامه غير شلّة من الأطفال المحرومين من شعاع الطفولة. وأفرَغَ في الشارع المثقل بالهموم صرخاته...
اختفى أولئك الأطفال وراحوا يُلاحقون مجنونا كان يرتع بجانب مقهى مأهول بالعاطلين والهاربين من أعمالهم...أمّا الشيخ فوقف ينكأ الجراح، وكأنّ كيانه الذي يتفكّك يوما بعد يوم، أبى أن يواصل اللحاق بحلم ضائع وابن صائع كان بالأمس ابنه. والآن صار مجرّدَ رجلٍ يرافقُ ابنته على طول الشارع، ينظر إليه كما ينظر الغرباء، يشتري الخبز ثمّ يغادر.
توقّف الشيخ، تردّد وهو ينظر نحو ابنه ثمّ أطلق زفرةً طويلةً وقال:"مانْعَاوَدْشْ.. يا ولدي!". سمعها الرجل، فتجمّد في مكانه، طأطأ رأسه وأجهش بالبكاء.
وبينما يقف الشيخ أمام ابنه وحفيدته وسط الشارع، توجّهت عيون السُوقة الجالسين على أعتاب المقاهي، تلقي سهاما حارّة. وراحت ألسنتهم تلهج وهي تصف المشهد وكأنّهم مجموعة من النقّاد يشاهدون مسرحية.
في تلك اللّحظة التي شهدت ميلادَ حفرة جديدة، وتعثّرت فيها السيّارات وصَدَحَت فيها أبواقُ الشاحنات وغصَّ فيها الرّصيف بالغوغاء وعجّ فيها الهواء بالضوضاء وثاني أوكسيد الكربون...في تلك اللحظة، وقف الرجل يسترجع الماضي البعيد، كان حينها صبيّا يتعلّق بعباءة أبيه. وقد كان يحبّ اصطحابه في جَوَلَاتِه وهو فخورٌ به. كان هذا الشيخ في الماضي يضع عمامةً فوق رأسه، ولم تكن العمامة يومها وصمة عار في مدننا شبه المعاصرة ومجتمعنا شبه المتحضر، كما لم يكن الضجيجُ صوتا تستسيغه الآذان. واليومَ صار أبوه شيخا وهن العظم منه وسَامَهُ الخسفُ والهوان!
في ذلك الوقت، لم يكن في الشارع مأوى للعجزة وكانت العائلاتُ الكبيرة محشورةً في البيوت الصغيرة وقد كوّنت مع جيرانها عائلات أكبر تتشارك كلّ شيء، القصاع والقدور، الملح والسكّر، الأفراح والأحزان كخلية نحل كبيرة تعيش في وئام وانسجام. أمّا اليوم! فلا الفيلات ولا العمارات ولا الصروح المشيّدة صارت كافية عندما استحالت القلوبُ أطلالاً خَربَة...
لم يُقدِم قبل ذلك اليوم، شخصٌ من المدينة بوضع أبيه في دارٍ للعجزة، حتّى فعلها هذا الرجل. وقد كان تطليقُه لزوجته الأولى أوّلُ حلقات هذا المسلسل. فتسبّبت زوجتُه الثانية في طرد أبيه وتهجير ابنه. وصار بفعلته هذه في نظر الجميع مثل قابيل وقد دشّن هذا الجرم الشنيع.
لم تتعرّف الطفلةُ على معنى كلمة "أخ" أو "جَدّ"، لأنّها لم تعرف أخاها من أبيها ولا جدّها.
وقد شاهدَت اليومَ أباها يبكي والشيخُ أمامه ماثلٌ كهرمٍ يأبى التلاشي تحت دثار الزمن. وفي لحظة انكسار واستسلام، عانق الابن العاصي أباه الشيخ. في تلك اللحظة التاريخية، بكى الشارع وسَخِر القدر وتعجّبت أفواه المتفرّجين على أعتاب المقاهي.
ومَشَى ثلاثَتُهم على الرصيف الذي يزدحم بالبشر وتتوقّف فيه السيّارات غير آبهة...وقد بدت على وجه الشيخ شبهُ ابتسامة وهي تُشرق على السُّمرة الداكنة التي طبعتها الشَّمس والأحزان. وذرفت عيناه الغائرتان دموع الفرح. وبعد أن عاد الشيخ واستجمع الرجل شظايا ضميره، بحثَ عن ابنه الهائم. لكن ليست كلّ الأمراض تُشفى ولا كلّ الذنوب تُغتفر، ولا تتماثَلُ كلُّ جراحِ الضمير للشفاء.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى تعلّمت الطفلة معنى كلمة "جدّ" ولم يكن هذا المعنى ناصعا. أمّا كلمة "أخ" فلن تُدرك معناها حتّى يعود أخوها من أحضان الغُربة.
بالقرب من ميناء يرصّع ساحلا جزائريا كجوهرة في جيدِ غادة، يقف شابّ يهوى البحر، يتأمّل وهو يرنو إلى العيش خارج إفريقيا. في جبهته يقدح الحماس، يتطاير الشرر، تشتعل نفسه بالحياة، ويبدو من عينيه المتوقّدتين بأنّه لن يستسلم حتّى ينال ما يريد.
على جنبات شارع طويل فوضوي الملامح في مدينة جزائرية، ترتسمُ المحلّات والمقاهي والمديريات. على الرصيف طفلة، تحمل في يدها دمية، وبيدها الأخرى تشدّ يد أبيها الذي يمشي الهُوينى بدون هدف. علّمها أبوها الحروف فصارت تقرأ اللّافتات وهي في سنّ الحضانة. وقد أصبحت تُحسِن تهجئة أسماء المحلّات والمقاهي والمديريات...
علّمها بعض الكلمات، أما المعاني فيتكفّل بتعليمها الزمن. بدأت بعض الكلمات تزحف على بياض عقلها، ونقاء سريرتها، كما تكتسح الغيوم صفحة السّماء. لم تُدرك الطفلةُ بَعدُ معنى الفوضى والزحام والتلوّث والضجيج. هي لا تعرفُ القانون و الجزاء والعقاب..لا تعِي معنى اليأس والإحباط والغشّ وغيرها من العيوب التي يعرفها الكبار بالممارسة أو الأزمات...باختصار هي لا تزال تكتشف الحياة.
لقّنها أبوها سورة الفاتحة ولقّنتها بعض القنوات أناشيد الفتيات. أمّا الحياة فتطبع في نفسها الصغيرة آثارا عميقة. تتراكم الأجزاء الصغيرة، والتجارب الضئيلة، واللحظات العابرة، لتصنع فيها طبعا وشخصية، كما تتراكم الحفريات والأتربة في طبقاتٍ لتصنَعَ جيولوجيا الأرض.
في ذلك الشارع، تحت اللّافتات يمشي شيخٌ مرهَقٌ قد وَخَطَ الشّيبُ شعره، ورَسَت التجاعيد في صفحة وجهه منذ أمد، ورسمت أشكالا وخطوطا تعبّر عن الوهن وانقضاء الحياة. وفي جبينه، تصرخ تقاطيعٌ بأعلى صوتها وهي تقول: "فات القطار!".
...آه...آه من الأسمال التي يرتديها، و التي تأبى كلّ يوم أن يرتديها!...ألوانها تُرهقُ الأذواق، رائحتها تدعو الذباب المـُتخم إلى مائدة العفن، ومنظرها يحشِدُ الأطفال الساخرين الذين يقتلون الوقت والبراءة بكلّ طريقة ممكنة.
يمشي الشيخ وعلى شفتيه المرتجفتين تتردّد كلمتان: "مَا نْعَاوَدْشْ". وكانت هاتين الكلمتين تتكرّران كلازمةٍ في سمفونيةٍ رهيبة. يلقي خطوة أو خطوتين في ضَعف، ثمّ يتردّد صدى الكلمتين من جديد. يُطلقهما بصفة آلية وهو يدبُّ على ظلال الجدران. لقد عَهِدَ أن يقولها خائفاً من كلّ شيء، وقد تحمّل مسؤوليةَ أخطاءِ البشر كلّها، فقط ليسلَمَ من الأذى! وقد خانه وعيُه منذ زمن، فصارت هذه الكلمات تتردّد وحدها على لسانه، يلوكُها كلّما أحسّ بالخوف.
نظر الشارع المثقل بالمقاهي واللّافتات وسمع تلك الكلمات التي تذوب وسط الضجيج. أنصَتَ إلى تلك الآهات المتعبة وتمعّن جيّدا في ذلك الجسد المتهالك الذي يختبئ هُزاله وراء الأطمار البالية.
لم يفهم أحدٌ ذلك الشيخ، ما عدا الشارع. هو الوحيد الذي يعرفه، منذ أن رماه ابنه في ذلك المكان الذي يأوي العجزة. ذلك المكان الذي ينزوي فيه الأحياء في انتظار الاندثار. يخرجون في النّهار يمشون كالموتى الأحياء، ويجوسون خلال الشوارع كالأشباح، حتّى أنّ النّاسَ لا يكادون يرَونَهم!...ثمّ يعودون في المساء، وكأنّ الحياة تخجل منهم، فتخبّئهم في المراكز.
مشى ذلك الشيخ الذي ورِثَه الحاضر من الماضي والذي بدا كحبّةٍ تنزلقُ وحيدة وقد انفرطت من عِقدِ الزمن. أمّا الشارع الذي اختفت معالمه وسط فوضى البشر، فيبقى ماثلا في مكانه، ينتحب ويتأسّف لهذا المخلوق الذي اضمحلّت الحياة بين تجاعيده وهيئته.
مشت الطفلة بجانب أبيها ونظرت إلى الشيخ بعينيها الصغيرتين الّلتين تقدحان بالفضول. أمّا أبوها فراح يُتمتم، وهو يسأل العافية، وقد أشاح بوجهه عن تلك الذّات الذابلة، وأَغَذَّ السّيرَ قائلا لابنته: "اِمشِ..أسرعي!".
دنت الساعة من منتصف النّهار ودقّت نواقيس الوجبة الوسطى في ذهن هذا الرجل المشتّت، فانتفى العالم ولم يبقَ غير كلمة واحدة: "الخبز".
وسط الشارع، وعلى طول الطريق، تُولد الحفر والممهّلات، تتعثّر السيّارات، ترتفع الأصوات، ويتألّم الشارع لكنّه يحمد الله لأنّ الطفلة لم تستطع قراءة شيء على الطريق لأنّه لم يُكتب "حُفْرَة"، وإلّا استهلَكت المسكينة كلّ حروف "الحاء" و "الفاء" و "الراء"...أمّا "التاء المربوطة" فسيُفضُّ رباطها عندما تسقط في الحفر.
واصلت الطفلة مشيها وهي موصولة إلى أبيها كقاطرة يشدّها القطار، حتّى رأت الشيخ يقترب، ونظراتٌ حيّةٌ غريبة تعلو وجهه، حتّى خُطاه صارت أسرع، تتجاهل الأطفال الذين يتبعونه. كانت عيناه الشاخصتان تنظران نحو أبيها. وعندما اقترب أكثر منهما، قال كعادته وبصعوبة:"مانعاودش.."، لكنّ الأب واصل المشي حثيثا، والدمعة تترجرج في مآقيه. وراح الشيخ يطارده وهو يجرُّ كيانه المضمحلّ، والأب يسحَبُ ابنته التي تنظر إلى كلّ ما يجري كزهرة متفتّحة. يسحبها أبوها كي لا تتعرّف على البؤس والشقاء في سنّ النسيم والياسمين، لكن كيف عساه ينجح، والبؤس يوجدُ حيث يتواجدُ البشر...
وفجأةً، على وقع تلك السمفونية الرهيبة، تغرغرت عينا الأب، ثمّ انهمرت الدموع كالسيل لا تتوقّف وهُو يمضي في طريقه، والشَّيخ يطارده كشبح مخيف.
وكان الأطفال السَّاخرون لا يزالون وراءه يزيدون جسمه المكدود معاناةً فوق معاناته. دار الرجل إليهم وطاردهم بقوّة. عنّفهم وصرخ في وجوههم والدّمع يتطاير من وجنتيه. لقد انفجرت مكبوتات نفسه كالبركان ولم يكن أمامه غير شلّة من الأطفال المحرومين من شعاع الطفولة. وأفرَغَ في الشارع المثقل بالهموم صرخاته...
اختفى أولئك الأطفال وراحوا يُلاحقون مجنونا كان يرتع بجانب مقهى مأهول بالعاطلين والهاربين من أعمالهم...أمّا الشيخ فوقف ينكأ الجراح، وكأنّ كيانه الذي يتفكّك يوما بعد يوم، أبى أن يواصل اللحاق بحلم ضائع وابن صائع كان بالأمس ابنه. والآن صار مجرّدَ رجلٍ يرافقُ ابنته على طول الشارع، ينظر إليه كما ينظر الغرباء، يشتري الخبز ثمّ يغادر.
توقّف الشيخ، تردّد وهو ينظر نحو ابنه ثمّ أطلق زفرةً طويلةً وقال:"مانْعَاوَدْشْ.. يا ولدي!". سمعها الرجل، فتجمّد في مكانه، طأطأ رأسه وأجهش بالبكاء.
وبينما يقف الشيخ أمام ابنه وحفيدته وسط الشارع، توجّهت عيون السُوقة الجالسين على أعتاب المقاهي، تلقي سهاما حارّة. وراحت ألسنتهم تلهج وهي تصف المشهد وكأنّهم مجموعة من النقّاد يشاهدون مسرحية.
في تلك اللّحظة التي شهدت ميلادَ حفرة جديدة، وتعثّرت فيها السيّارات وصَدَحَت فيها أبواقُ الشاحنات وغصَّ فيها الرّصيف بالغوغاء وعجّ فيها الهواء بالضوضاء وثاني أوكسيد الكربون...في تلك اللحظة، وقف الرجل يسترجع الماضي البعيد، كان حينها صبيّا يتعلّق بعباءة أبيه. وقد كان يحبّ اصطحابه في جَوَلَاتِه وهو فخورٌ به. كان هذا الشيخ في الماضي يضع عمامةً فوق رأسه، ولم تكن العمامة يومها وصمة عار في مدننا شبه المعاصرة ومجتمعنا شبه المتحضر، كما لم يكن الضجيجُ صوتا تستسيغه الآذان. واليومَ صار أبوه شيخا وهن العظم منه وسَامَهُ الخسفُ والهوان!
في ذلك الوقت، لم يكن في الشارع مأوى للعجزة وكانت العائلاتُ الكبيرة محشورةً في البيوت الصغيرة وقد كوّنت مع جيرانها عائلات أكبر تتشارك كلّ شيء، القصاع والقدور، الملح والسكّر، الأفراح والأحزان كخلية نحل كبيرة تعيش في وئام وانسجام. أمّا اليوم! فلا الفيلات ولا العمارات ولا الصروح المشيّدة صارت كافية عندما استحالت القلوبُ أطلالاً خَربَة...
لم يُقدِم قبل ذلك اليوم، شخصٌ من المدينة بوضع أبيه في دارٍ للعجزة، حتّى فعلها هذا الرجل. وقد كان تطليقُه لزوجته الأولى أوّلُ حلقات هذا المسلسل. فتسبّبت زوجتُه الثانية في طرد أبيه وتهجير ابنه. وصار بفعلته هذه في نظر الجميع مثل قابيل وقد دشّن هذا الجرم الشنيع.
لم تتعرّف الطفلةُ على معنى كلمة "أخ" أو "جَدّ"، لأنّها لم تعرف أخاها من أبيها ولا جدّها.
وقد شاهدَت اليومَ أباها يبكي والشيخُ أمامه ماثلٌ كهرمٍ يأبى التلاشي تحت دثار الزمن. وفي لحظة انكسار واستسلام، عانق الابن العاصي أباه الشيخ. في تلك اللحظة التاريخية، بكى الشارع وسَخِر القدر وتعجّبت أفواه المتفرّجين على أعتاب المقاهي.
ومَشَى ثلاثَتُهم على الرصيف الذي يزدحم بالبشر وتتوقّف فيه السيّارات غير آبهة...وقد بدت على وجه الشيخ شبهُ ابتسامة وهي تُشرق على السُّمرة الداكنة التي طبعتها الشَّمس والأحزان. وذرفت عيناه الغائرتان دموع الفرح. وبعد أن عاد الشيخ واستجمع الرجل شظايا ضميره، بحثَ عن ابنه الهائم. لكن ليست كلّ الأمراض تُشفى ولا كلّ الذنوب تُغتفر، ولا تتماثَلُ كلُّ جراحِ الضمير للشفاء.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى تعلّمت الطفلة معنى كلمة "جدّ" ولم يكن هذا المعنى ناصعا. أمّا كلمة "أخ" فلن تُدرك معناها حتّى يعود أخوها من أحضان الغُربة.