كان من الممكن أن أسحب إحدى القصص الكثيرة التي كتبتها من قبل عن تجربتي في الحرب, غير أن الأصدقاء قبل النقاد ربطوا اسمي بتلك التجربة, وكأنني لم أكتب سوى عن تجربتهم هم لا عن الإنسان في شخصي, وكأني إنسان بلا حياة ولا تجارب. من شدة وطأة هذه المؤامرة, بدأت أفكر في حيلة لا يستطيع الناقد أو القائم على أية صفحة أدبية أن تبين له. أن أكتب عن الحرب وكأنني أكتب عن حياتي, أو أكتب عن حياتي وكأنني أكتب عن الحرب.
سحبت ورقة بيضاء من غير سؤ, خططت خطوات الحيلة. بداية من تحديد الهدف.. وهو كتابة قصة (اكتشفت منذ فترة طويلة أنني لا أجيد إلا كتابة قصة, لم أعتد على اليوميات أو المقالات). فالقصة وحدها القناع الخفي الظاهر الذي أتخفى من تحته ولا يستطيع أحدهم أن يتهمني بسؤ الأدب (أعنى سؤ السلوك) حتى لو شرحت أحوال اللذة وأنا هائم في أسرار النفس البشرية أسعى لإبداع متعة بديلة! فالذي لا يعرفه البعض أنني لم أتزوج حتى تاريخه لقصر ذات اليد, بينما أسعار الشقق في حاجة إلى يد طويلة! حتى عبرتنى سنين الزواج، ولم أعد أصلح إلا لتربية العصافير في شرفة الشقة التي اشتريتها أخيرا.
بالقصة وحدها لن يتهموني أحدهم بأنني من قوى المعارضة المشاغبين, عندما أجمل في مساكن الإيواء والعشش التي يقطنها سكان ضواحي القاهرة والمدن الكبرى, فأجعل من السرقات بالإكراه التي زادت, وسيلة للحياة وأكرر حكاية “أدهم الشرقاوي” بحيلة بسيطة, فأجعل بطل قصتي “طلحة” أو “شبارة” أو أي اسم يبدو بلا معنى. ولأنني ممن درسوا علم الجمال والنظريات النقدية, سوف أتعلق بنظرية “جمال القبح”! (أحد الفنانين التشكيلين من الخبثاء من سكان حي السيدة زينب, التقط مشهد المخلفات فوق أسطح المنازل التي يطل عليها من نافذة شقته العلوية, وسجلها –كلها- في لوحاته, ولم يرسم غيرها.)
وبالقصة فقط لن يتهمني أحد, على الرغم مما تسببت له من الم وفضائح, لن يجرؤ أحدهم أن يواجهني بتهمة السب أو القذف! لن يحرر محضرا في قسم الشرطة ضدي, بالاعتداء على كرامته.. أدير دفة القصة بحنكة وخبث ناحية من أقصد سبه وقذفه. كأن أسجله باسمه وأقول تشابه في الأسماء, وأن دليل التليفونات مليء بالاسم محل الشكوى, أو أقول ما أقوله وقد جعلته في أدنى درجات السؤ باسم مستعار وبقية الأوصاف والأحوال تؤكد أنه هو ولن يجهله أحد.
أخيرا أميز ما تتميز به القصة أنها تحميني من سطوة جهات خفية, تعلم أنني من هؤلاء المتابعين الفاهمين ولكنني من الخبثاء, فلا أفصح عما أريد, ولم أعبر الخطوط الحمراء, من يفهم يفهم, ومن لم يفهم.. فهم الغالبية, وفى كل الأحوال أستطيع أن أقسم بغليظ الإيمان أمام القاضي وأنا أضع المصحف على صدري.. أنني لا أعنى ما يتهموني به.. خبيثا ذلك الذي اخترع القصة, وعلمني كتابتها!
عادة أبدأ القصة وأنا على مشارف عنوانها, إن لم يكن مكتوبا بالحرف والكلمة على الترتيب. لكن الغريب أن تلك القصة التي قررت أن أتخابث وأتوجه بها إلى الجميع, بدأت بلا عنوان, وهو ما جعلني أشعر بشيء من الضجر والقلق.
أصبحت من محترفي كتابتها, أعرف أن أبدأ بفكرة واضحة أو حتى ملتبسة، لا يهم. ثم أقرأ بعض من الشعر, ثم أحتسى القهوة التي تبدو وكأنها السحر الساحر, وأدخن, مع كل فكرة جزئية جديدة أنتهي منها, وأي جملة لم تكن على الخاطر, أكافئ نفسي بسيجارة. ثم قبل ذلك كله أفتح النافذة على مصراعيها, إن صيفا أو شتاء.
فيما سبق كنت أستخدم –غالبا- ضمير المتكلم, حتى ظن النقاد قبل الأصدقاء أنني أكتب عما حدث لي شخصيا, أقسم أنني لم أر جنديا إسرائيليا واحدا طوال فترة الخمس سنوات التي قضيتها في السويس أثناء المعارك وما قبلها… لا يصدقني أحد.. “هكذا البطل, دائما متواضعا, وتخجل الحديث عن نفسك.. أنت بطل, يا بطل”.. يبدو أن الناس تريد بطلا.. لا يهم،
موافق!
سوف أستخدم ضمير المخاطب, لا أريد أن يخلقوا صورة كاذبة عنى, سوف أخاطب عقولهم لا خيالهم, لعلهم ينتبهوا. المشكلة تتجدد, سوف يضعني ضمير المخاطب هذا في ورطة. أتذكر يوم أن استخدمته للمرة الأولى, وتبت بعدها. قدمت القصة إلى المحرر الوقور المجهد المتشعث وقد غلبته أشياء لم أدركها في حينها..ولكنني وصفتها بأنها ضرورات الفن والصحافة.. كثرة التدخين, أن ينظر إليك مجهدا ملولا, أن يكتب ثم يسرع ويمزق ما كتبه, وأشياء أخرى قد تبدو فردية.. كأن يفعل ما قلته لك وعندما تهل كاتبة مجهولة الهوية يبدو منفرج الشفتين من الأذن إلى الأذن على حد وصف المثل الأمريكي.
يوم أن قدمت القصة إلى المشرف الأدبي إياه.. سحب الورقة من يدي, أقول شدها بملل وزهق واشمئزاز قائلا: “هات”. كنت قد انتويت قراءتها له, فضل أن يقرأها بنفسه. ومع السطر الأول تبدلت كل ألوان الطيف على صفحة وجهه, بعد الفقرة الأولى رمى نظرة من تحت نظارته الطبية المعلقة وسط عظمة أنفه. بعد الفقرة الثانية سحب شهيقا عميقا, وقبل أن تنتهي الصفحة والقصة ضرب المكتب بكفه الفئرانية الصغيرة:”تقصد من يا أيها الصعلوك النكرة الهلفوت ..أنا أم الأستاذ” وحتى الآن لم أعرف من هو بالضبط الأستاذ الذي يعنى. فيومها لم يعطن الفرصة كي أتكلم, ولا أقول أو أشرح, وقتها لم أكن قادرا حتى على تبرير استخدام الضمائر في القصة ولا في الحياة!
موضوع الضمائر مع المشرف الأدبي في أول قصة أستخدم فيها ضمير المخاطب, صنع لي عقدة.. في القصة والحياة. أوضح لك المسألة أكثر.. إذا استخدمت ضمير المخاطب في الحياة فأنت مضطر لاستخدام ألفاظ غير المعتادة حتما, مثل سيادتك وحضرتك ومعاليك وسموك وكلها باتت شائعة, جيلي الآن يستخدمها بأكثر من استخدامها قبل الثورة. قبل الثورة كانوا يسبقون الأسماء أو يلحقونها بلقب ببك أو باشا ودمتم. الآن المسألة تعدت البيه والباشا. الباشا عبود بكل ما نعرفه عن ثروته كان يملك خمسة ملايين جنيها مصريا. أقسم أن الحاج “قرمة” جزار العمارة التي أقطنها يملك أكثر من عبود باشا لكن العملة بالدولار.
سوف يتعدى الأمر مسألة استخدام مفردات خاصة, الوضوح في الفكرة والإشارة وهو ما يعنى تحديد المسئولية المباشرة للمخاطب, سوف يوقعك في ورطة توجيه التهم للآخر. تخيل أن القصة تتناول الشرير الذي استولى على تيمه فكرة قصة حول موضوع “الحرب” وتجربته (مثلا) وكيف أنها لم تعد هي المقاتلة والانتصار الدائم والبطولة والفرح؟
أصبحت تعنى البحث في دخائل الشخصيات وإبرازها تجاه تجربة خاصة جدا, وأثناء لحظات يصعب على المرء التفكير فيها أو إقرارها أو حتى تخيلها, ولولا أنني رأيتها بعين رأسي, ما كتبت عنها.
تجربة الحرب في القصة التي أريدها, لا تصرخ فرحا, بل تندم على سؤ الفهم والغباوة التي يمكن أن تمتلك جماعة أو حتى دولة بأكملها. كما أنها تعنى الموت في مقابل الحياة, إذا كان ضروريا ولابد من الموت, بدلا عن العيش في هوان أو مذلة سرقة الأرض والشرف. يبدو أنني سأتكلم مثل الجميع, وأعود إلى مقولاتهم الجاهزة, بينما أريد قصة غير مسبوقة.
نعم, نعم.. التجربة الحربية التي سوف أشكلها في قصتي سوف تعنى تأمل الجديد.. مثل لحظة لا نعرف لها وصفا يقرر فيها أحدهم أن يلقى بنفسه على فوهة المزغل الذي يحمى مدفعا سريع الطلقات.. ماذا كان في رأس “عواد” وهو يسرع الخطى, بتقدمنا, كي يلقى بنفسه..ليموت من أجلنا؟
لو نجحت في إبراز الأسباب بطريقة فنية, غير مفتعلة ولا منفعلة, سوف يعترفون أنني كتبت قصة حربية غير مسبوقة, وأن تجربتي الخاصة جدا في الحرب, ليست هي, تجربتهم. ما ذنبي وأنا أرى الجندي “فوزي” في ميدان التحرير, يهل على وهو يعرج فرحا أن رآني ثانية, وقد نلت الوظائف العليا في الدولة, وشاهد صورتي في إعلان خاص عن الشركة التي أتبوأ مكانا مميزا فيها, بينما لم ينجح أحدهم من نزع الرصاصات من قدمه, وأصبح ساعيا في دهاليز ديوان وزارة الأوقاف, وبلا عمل حقيقي. آه يا فوزي, كنت أقوانا, وأشجعنا, أتذكر جيدا خبثي وكلانا داخل الحفرة البرميلية الغائرة, ولفترة زادت عن الساعتين, زهقت, طلبت منه أن نخرج لأننا لسنا جبناء نبقى هكذا تحت الأرض بينما الزملاء يقاتلون ويردون الرصاص بالرصاص.. هاجت حميته المعتادة, وخرج مندفعا من فوهة الحفرة, وأنا أقذف به بكل طاقتي كي يخرج, و… ولم أتبعه. سمعت فجأة صرخة, حتى حدود الحاجبين رفعت رأسي من فوهة الحفرة, رأيته مصابا, مدرجا في دمائه…
تذكرت الآن.. لماذا تذكرت الجندى “فوزي”, لأن أكتب قصة البحث في أسباب ذلك الذي بترت ساقه وظل يدافع عن موقعه وخندقه حتى فقد بقية جسده ثم روحه.. يعنى أجعله بطلا, هو يريد ذلك, والناس.
البحث في دلالة البطولة والمقاتلة ومعناها..يعنى البحث في أسباب تلك الشراسة التي يحارب بها الجنود وهم قلة من أفراد القوات الخاصة في مواجهة رطل من دبابات الأعداء.. والبحث فيما كان عليه حال “عبدالعاطى” وهو يبكى كي يشارك في التصدي للواء الدبابات المهاجم, ثم وهو يحرق الدبابة تلو الأخرى, وقد اقترب بشدة من الدبابة إلى الحد الذي أدهش الجميع..ثم البحث في ذلك الرقيب الذي اصطاد عددا من الدبابات المعتدية أكثر من “عبدالعاطى” ومع ذلك لم يسمع عنه أحد.. حتى أنا نسيت اسمه, لا يهم!
وأخيرا ربما تكون القصة حول فكرة اتخاذ القرار, وأخاطب صاحبه, هذا سيجعل من فرصة نشرها أسرع, لن يتهموني بسؤ النية, وستحل كل مشاكل استخدام أسلوب ضمير المخاطب, لأنني ببساطة سوف أتساءل عن ذلك الجني الذي همس في أذنه باتخاذ قرار دخول المعركة. ربما لأنه موقن بشجاعة رجاله قبل كفاءة سلاحه, أي معيار اتبعه وأي تاريخ قرأه؟! الأمر الآن وبعد كل السنوات التي تعدت الخمس والثلاثين سنة على بداية ميعاد اشتعالها, يتعدى وصف الأفعال, يجب أن يتناولها الجميع بالتحليل والبحث عن جوهرها, لأنها بالعقل غير قابلة للتصديق!
أشعر الآن بعدم الرغبة في استكمال القصة. ناقشت الفكرة.. فتبعثرت. ناقشت تفاصيل التقنية الفنية واستحضرت خبرة كل ما قرأت وسمعت.. فتبعثرت.
قررت أن أهون على نفسي, وأن أقضى بعض الوقت أمام شاشة التلفاز, لعلى أرى إحداهن ترقص وأخرى ترقص أيضا.. فعلت. اعتدت أن أخفى الصوت وأنا في حالة الكتابة أو التمهيد لها حتى لا تشوش رأسي بما أسمع..يكفيني جدا أن أراها ترقص.
لم أر راقصة, رأيت بركة دماء, وبيت يتهدم, وطفل معلق بشجرة, يبكى على جذعها الخشبي وهو بتابع البلد وزر يذبح لوحة الشطرنج وكرته الكاوتش وكراسته. رأيت مئذنة أعرفها, منذ عشرة أعوام كنت أمامها في زيارة إلى ضريح “على” ومقهى بشارع “أبى نواس”..في بغداد.
سألت رأسي وجعلتها لعبتي حتى آخر الليلة.. هل ما رأيت هي العراق أم رفح في فلسطين أم جنين؟؟
وحتى نهاية الليلة, حيث لم أفتح صوت التلفاز, ولم أعرف الإجابة. نسيت موضوع كتابة القصة.. لعنت قصتي وكل قصص العالم والقاصين, وكل الضمائر التي استخدمتها من قبل والتي سوف يستخدمها قلمي وقلم كل الناس في المستقبل!
* نقلا عن المجلة الثقافية مجلة جزائرية، ت
سحبت ورقة بيضاء من غير سؤ, خططت خطوات الحيلة. بداية من تحديد الهدف.. وهو كتابة قصة (اكتشفت منذ فترة طويلة أنني لا أجيد إلا كتابة قصة, لم أعتد على اليوميات أو المقالات). فالقصة وحدها القناع الخفي الظاهر الذي أتخفى من تحته ولا يستطيع أحدهم أن يتهمني بسؤ الأدب (أعنى سؤ السلوك) حتى لو شرحت أحوال اللذة وأنا هائم في أسرار النفس البشرية أسعى لإبداع متعة بديلة! فالذي لا يعرفه البعض أنني لم أتزوج حتى تاريخه لقصر ذات اليد, بينما أسعار الشقق في حاجة إلى يد طويلة! حتى عبرتنى سنين الزواج، ولم أعد أصلح إلا لتربية العصافير في شرفة الشقة التي اشتريتها أخيرا.
بالقصة وحدها لن يتهموني أحدهم بأنني من قوى المعارضة المشاغبين, عندما أجمل في مساكن الإيواء والعشش التي يقطنها سكان ضواحي القاهرة والمدن الكبرى, فأجعل من السرقات بالإكراه التي زادت, وسيلة للحياة وأكرر حكاية “أدهم الشرقاوي” بحيلة بسيطة, فأجعل بطل قصتي “طلحة” أو “شبارة” أو أي اسم يبدو بلا معنى. ولأنني ممن درسوا علم الجمال والنظريات النقدية, سوف أتعلق بنظرية “جمال القبح”! (أحد الفنانين التشكيلين من الخبثاء من سكان حي السيدة زينب, التقط مشهد المخلفات فوق أسطح المنازل التي يطل عليها من نافذة شقته العلوية, وسجلها –كلها- في لوحاته, ولم يرسم غيرها.)
وبالقصة فقط لن يتهمني أحد, على الرغم مما تسببت له من الم وفضائح, لن يجرؤ أحدهم أن يواجهني بتهمة السب أو القذف! لن يحرر محضرا في قسم الشرطة ضدي, بالاعتداء على كرامته.. أدير دفة القصة بحنكة وخبث ناحية من أقصد سبه وقذفه. كأن أسجله باسمه وأقول تشابه في الأسماء, وأن دليل التليفونات مليء بالاسم محل الشكوى, أو أقول ما أقوله وقد جعلته في أدنى درجات السؤ باسم مستعار وبقية الأوصاف والأحوال تؤكد أنه هو ولن يجهله أحد.
أخيرا أميز ما تتميز به القصة أنها تحميني من سطوة جهات خفية, تعلم أنني من هؤلاء المتابعين الفاهمين ولكنني من الخبثاء, فلا أفصح عما أريد, ولم أعبر الخطوط الحمراء, من يفهم يفهم, ومن لم يفهم.. فهم الغالبية, وفى كل الأحوال أستطيع أن أقسم بغليظ الإيمان أمام القاضي وأنا أضع المصحف على صدري.. أنني لا أعنى ما يتهموني به.. خبيثا ذلك الذي اخترع القصة, وعلمني كتابتها!
عادة أبدأ القصة وأنا على مشارف عنوانها, إن لم يكن مكتوبا بالحرف والكلمة على الترتيب. لكن الغريب أن تلك القصة التي قررت أن أتخابث وأتوجه بها إلى الجميع, بدأت بلا عنوان, وهو ما جعلني أشعر بشيء من الضجر والقلق.
أصبحت من محترفي كتابتها, أعرف أن أبدأ بفكرة واضحة أو حتى ملتبسة، لا يهم. ثم أقرأ بعض من الشعر, ثم أحتسى القهوة التي تبدو وكأنها السحر الساحر, وأدخن, مع كل فكرة جزئية جديدة أنتهي منها, وأي جملة لم تكن على الخاطر, أكافئ نفسي بسيجارة. ثم قبل ذلك كله أفتح النافذة على مصراعيها, إن صيفا أو شتاء.
فيما سبق كنت أستخدم –غالبا- ضمير المتكلم, حتى ظن النقاد قبل الأصدقاء أنني أكتب عما حدث لي شخصيا, أقسم أنني لم أر جنديا إسرائيليا واحدا طوال فترة الخمس سنوات التي قضيتها في السويس أثناء المعارك وما قبلها… لا يصدقني أحد.. “هكذا البطل, دائما متواضعا, وتخجل الحديث عن نفسك.. أنت بطل, يا بطل”.. يبدو أن الناس تريد بطلا.. لا يهم،
موافق!
سوف أستخدم ضمير المخاطب, لا أريد أن يخلقوا صورة كاذبة عنى, سوف أخاطب عقولهم لا خيالهم, لعلهم ينتبهوا. المشكلة تتجدد, سوف يضعني ضمير المخاطب هذا في ورطة. أتذكر يوم أن استخدمته للمرة الأولى, وتبت بعدها. قدمت القصة إلى المحرر الوقور المجهد المتشعث وقد غلبته أشياء لم أدركها في حينها..ولكنني وصفتها بأنها ضرورات الفن والصحافة.. كثرة التدخين, أن ينظر إليك مجهدا ملولا, أن يكتب ثم يسرع ويمزق ما كتبه, وأشياء أخرى قد تبدو فردية.. كأن يفعل ما قلته لك وعندما تهل كاتبة مجهولة الهوية يبدو منفرج الشفتين من الأذن إلى الأذن على حد وصف المثل الأمريكي.
يوم أن قدمت القصة إلى المشرف الأدبي إياه.. سحب الورقة من يدي, أقول شدها بملل وزهق واشمئزاز قائلا: “هات”. كنت قد انتويت قراءتها له, فضل أن يقرأها بنفسه. ومع السطر الأول تبدلت كل ألوان الطيف على صفحة وجهه, بعد الفقرة الأولى رمى نظرة من تحت نظارته الطبية المعلقة وسط عظمة أنفه. بعد الفقرة الثانية سحب شهيقا عميقا, وقبل أن تنتهي الصفحة والقصة ضرب المكتب بكفه الفئرانية الصغيرة:”تقصد من يا أيها الصعلوك النكرة الهلفوت ..أنا أم الأستاذ” وحتى الآن لم أعرف من هو بالضبط الأستاذ الذي يعنى. فيومها لم يعطن الفرصة كي أتكلم, ولا أقول أو أشرح, وقتها لم أكن قادرا حتى على تبرير استخدام الضمائر في القصة ولا في الحياة!
موضوع الضمائر مع المشرف الأدبي في أول قصة أستخدم فيها ضمير المخاطب, صنع لي عقدة.. في القصة والحياة. أوضح لك المسألة أكثر.. إذا استخدمت ضمير المخاطب في الحياة فأنت مضطر لاستخدام ألفاظ غير المعتادة حتما, مثل سيادتك وحضرتك ومعاليك وسموك وكلها باتت شائعة, جيلي الآن يستخدمها بأكثر من استخدامها قبل الثورة. قبل الثورة كانوا يسبقون الأسماء أو يلحقونها بلقب ببك أو باشا ودمتم. الآن المسألة تعدت البيه والباشا. الباشا عبود بكل ما نعرفه عن ثروته كان يملك خمسة ملايين جنيها مصريا. أقسم أن الحاج “قرمة” جزار العمارة التي أقطنها يملك أكثر من عبود باشا لكن العملة بالدولار.
سوف يتعدى الأمر مسألة استخدام مفردات خاصة, الوضوح في الفكرة والإشارة وهو ما يعنى تحديد المسئولية المباشرة للمخاطب, سوف يوقعك في ورطة توجيه التهم للآخر. تخيل أن القصة تتناول الشرير الذي استولى على تيمه فكرة قصة حول موضوع “الحرب” وتجربته (مثلا) وكيف أنها لم تعد هي المقاتلة والانتصار الدائم والبطولة والفرح؟
أصبحت تعنى البحث في دخائل الشخصيات وإبرازها تجاه تجربة خاصة جدا, وأثناء لحظات يصعب على المرء التفكير فيها أو إقرارها أو حتى تخيلها, ولولا أنني رأيتها بعين رأسي, ما كتبت عنها.
تجربة الحرب في القصة التي أريدها, لا تصرخ فرحا, بل تندم على سؤ الفهم والغباوة التي يمكن أن تمتلك جماعة أو حتى دولة بأكملها. كما أنها تعنى الموت في مقابل الحياة, إذا كان ضروريا ولابد من الموت, بدلا عن العيش في هوان أو مذلة سرقة الأرض والشرف. يبدو أنني سأتكلم مثل الجميع, وأعود إلى مقولاتهم الجاهزة, بينما أريد قصة غير مسبوقة.
نعم, نعم.. التجربة الحربية التي سوف أشكلها في قصتي سوف تعنى تأمل الجديد.. مثل لحظة لا نعرف لها وصفا يقرر فيها أحدهم أن يلقى بنفسه على فوهة المزغل الذي يحمى مدفعا سريع الطلقات.. ماذا كان في رأس “عواد” وهو يسرع الخطى, بتقدمنا, كي يلقى بنفسه..ليموت من أجلنا؟
لو نجحت في إبراز الأسباب بطريقة فنية, غير مفتعلة ولا منفعلة, سوف يعترفون أنني كتبت قصة حربية غير مسبوقة, وأن تجربتي الخاصة جدا في الحرب, ليست هي, تجربتهم. ما ذنبي وأنا أرى الجندي “فوزي” في ميدان التحرير, يهل على وهو يعرج فرحا أن رآني ثانية, وقد نلت الوظائف العليا في الدولة, وشاهد صورتي في إعلان خاص عن الشركة التي أتبوأ مكانا مميزا فيها, بينما لم ينجح أحدهم من نزع الرصاصات من قدمه, وأصبح ساعيا في دهاليز ديوان وزارة الأوقاف, وبلا عمل حقيقي. آه يا فوزي, كنت أقوانا, وأشجعنا, أتذكر جيدا خبثي وكلانا داخل الحفرة البرميلية الغائرة, ولفترة زادت عن الساعتين, زهقت, طلبت منه أن نخرج لأننا لسنا جبناء نبقى هكذا تحت الأرض بينما الزملاء يقاتلون ويردون الرصاص بالرصاص.. هاجت حميته المعتادة, وخرج مندفعا من فوهة الحفرة, وأنا أقذف به بكل طاقتي كي يخرج, و… ولم أتبعه. سمعت فجأة صرخة, حتى حدود الحاجبين رفعت رأسي من فوهة الحفرة, رأيته مصابا, مدرجا في دمائه…
تذكرت الآن.. لماذا تذكرت الجندى “فوزي”, لأن أكتب قصة البحث في أسباب ذلك الذي بترت ساقه وظل يدافع عن موقعه وخندقه حتى فقد بقية جسده ثم روحه.. يعنى أجعله بطلا, هو يريد ذلك, والناس.
البحث في دلالة البطولة والمقاتلة ومعناها..يعنى البحث في أسباب تلك الشراسة التي يحارب بها الجنود وهم قلة من أفراد القوات الخاصة في مواجهة رطل من دبابات الأعداء.. والبحث فيما كان عليه حال “عبدالعاطى” وهو يبكى كي يشارك في التصدي للواء الدبابات المهاجم, ثم وهو يحرق الدبابة تلو الأخرى, وقد اقترب بشدة من الدبابة إلى الحد الذي أدهش الجميع..ثم البحث في ذلك الرقيب الذي اصطاد عددا من الدبابات المعتدية أكثر من “عبدالعاطى” ومع ذلك لم يسمع عنه أحد.. حتى أنا نسيت اسمه, لا يهم!
وأخيرا ربما تكون القصة حول فكرة اتخاذ القرار, وأخاطب صاحبه, هذا سيجعل من فرصة نشرها أسرع, لن يتهموني بسؤ النية, وستحل كل مشاكل استخدام أسلوب ضمير المخاطب, لأنني ببساطة سوف أتساءل عن ذلك الجني الذي همس في أذنه باتخاذ قرار دخول المعركة. ربما لأنه موقن بشجاعة رجاله قبل كفاءة سلاحه, أي معيار اتبعه وأي تاريخ قرأه؟! الأمر الآن وبعد كل السنوات التي تعدت الخمس والثلاثين سنة على بداية ميعاد اشتعالها, يتعدى وصف الأفعال, يجب أن يتناولها الجميع بالتحليل والبحث عن جوهرها, لأنها بالعقل غير قابلة للتصديق!
أشعر الآن بعدم الرغبة في استكمال القصة. ناقشت الفكرة.. فتبعثرت. ناقشت تفاصيل التقنية الفنية واستحضرت خبرة كل ما قرأت وسمعت.. فتبعثرت.
قررت أن أهون على نفسي, وأن أقضى بعض الوقت أمام شاشة التلفاز, لعلى أرى إحداهن ترقص وأخرى ترقص أيضا.. فعلت. اعتدت أن أخفى الصوت وأنا في حالة الكتابة أو التمهيد لها حتى لا تشوش رأسي بما أسمع..يكفيني جدا أن أراها ترقص.
لم أر راقصة, رأيت بركة دماء, وبيت يتهدم, وطفل معلق بشجرة, يبكى على جذعها الخشبي وهو بتابع البلد وزر يذبح لوحة الشطرنج وكرته الكاوتش وكراسته. رأيت مئذنة أعرفها, منذ عشرة أعوام كنت أمامها في زيارة إلى ضريح “على” ومقهى بشارع “أبى نواس”..في بغداد.
سألت رأسي وجعلتها لعبتي حتى آخر الليلة.. هل ما رأيت هي العراق أم رفح في فلسطين أم جنين؟؟
وحتى نهاية الليلة, حيث لم أفتح صوت التلفاز, ولم أعرف الإجابة. نسيت موضوع كتابة القصة.. لعنت قصتي وكل قصص العالم والقاصين, وكل الضمائر التي استخدمتها من قبل والتي سوف يستخدمها قلمي وقلم كل الناس في المستقبل!
* نقلا عن المجلة الثقافية مجلة جزائرية، ت