أمين الزاوي - شجرة الزيتون بين القديس أوغسطين ومولود معمري وأمي لالة رابحة!

في التاريخ الإنساني كله الثقافي منه والأسطوري والأدبي والديني والخرافي لم تحظَ شجرة من أشجار الغابات كلها بانتباه الأنبياء والكتاب والمؤرخين مثلما حظيت به شجرة الزيتون، جاءت على ذكرها الكتب المقدسة كلها بخطاب فيه من التقديس ومن الغموض المثير أيضاً، وروت عنها الأساطير حكايات مشوقة.
بين المنفعة والتقديس عاشت شجرة الزيتون ولا تزال غارقة في أسرار وفضول، تكبر يوماً بعد يوم في الشعر وفي الرواية وفي الأغنية الشعبية وفي اللوحات الفنية جيلاً بعد جيل، مدرسة بعد أخرى.
تذهب غرباً أو شرقاً، شمالاً أو جنوباً، فلا تجد بيتاً يخلو من زيت الزيتون بأنواعه المختلفة، وكل بلد أو منطقة ينبت فيها شجر الزيتون تدعي بأن زيتها هو الأجود والأنفع.
إذا كان تاريخ القدس قد ارتبط بشجرة زيتون يبلغ عمرها 4000 سنة، كما تقول الأساطير، فإن تاريخ الجزائر هو الآخر ارتبط بشجرة زيتون القديس سان أوغسطين (354-430) الموجودة حتى يومنا هذا في بلدة مسقط رأسه طاغاست والتي تسمى اليوم سوق أهراس، وهي مدينة تبعد من الجزائر العاصمة حوالى 600 كيلومتر شرقاً، ويقدر علماء الطبيعة عمرها بحوالى 2900 سنة، وهي واحدة من أقدم أشجار الزيتون المعمرة في العالم. يقال إن سان أوغسطين كان يجلس إلى ظلها باستمرار في طفولته وهي التي منحته قوة الفكر والفطنة والحكمة. وقد ارتبطت شجرة القديس أوغسطين حتى الآن بعادة دفن لحمة قلفة الأطفال بعد الختان عند جذعها حتى يصبح الأطفال بذكاء سان أوغسطين.
ويدل هذا الاعتناء بشجرة زيتون القديس أوغسطين إلى مكانة هذه الشجرة في الثقافة الأمازيغية، حتى إنها أصبحت رمزاً للأمازيغية في الخطاب السياسي والفني.
وحول شجرة الزيتون قامت سردية ثقافية أمازيغية عميقة وطويلة ومتنوعة مشكلة من مدونات شعرية وغنائية وحكائية ثرية تسجل بدقة عادات القطف والنقل والتخزين والعصر والاستطباب.
وموسم قطف الزيتون في منطقة القبائل له طقوس ثقافية واجتماعية مميزة، ففي نهاية أكتوبر (تشرين الأول) يخرج الأهالي رجالاً ونساء وأطفالاً للاحتفال بهذا الموعد الزراعي السنوي البهي، وحتى الأسر التي تسكن المدن تنتظر هذا الموسم لتعود إلى القرية والمشاركة في احتفال الجني، إذ إن الاحتفال بموسم جني الزيتون هو أكثر من فعل فلاحي، إنه جزء من الهوية وصورة عن الانتماء إلى ثقافة لها خصوصياتها ولها طقوسها.
وفي موسم الجني هذا لا شيء يترك من دون تدقيق، فحتى الطيور في الغابة يترك لها نصيبها من الزيتون في الشجرة، تنقر منها ساعة الحاجة.
ويتعامل الأمازيغي مع شجرة الزيتون كما يتعامل مع الكائن الحي، فهو يعمل جاهداً على ألا يؤذي أغصانها ساعة القطف، ويعمل أيضاً على ألا يجرح حبات الزيتون التي تسقط على الشباك وأن تظل نظيفة وسليمة.
ولجني الزيتون كما لعصره في المعاصر التقليدية طقوس اجتماعية وثقافية تحيل إلى احترام الأمازيغي للعمل المشترك وهو ما يطلق عليه اسم "التويزا".
وارتبط اسم مولود معمري (1917-1989)، الباحث الأنثروبولوجي والروائي والمثقف الذي قضى حياته كلها في معركة علمية وثقافية وسياسية من أجل إعادة الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغية في الجزائر، هذه اللغة التي أصبحت اليوم لغة وطنية ورسمية إلى جانب أختها اللغة العربية، يشبه مولود معمري في جهوده المرتبطة بتقعيد اللغة الأمازيغية شخصية سيبويه في اللغة العربية، وبذلك فمولود معمري هو سيبويه اللغة الأمازيغية، جمع في بحوثه اللسانية واللغوية والشعرية والأنثروبولوجية ما بين التحقيقات الميدانية والتفكيرات التنظيرية والنحوية والصرفية، وإلى جانب هذا العمل الفكري الجبار كانت لمولود معمري علاقة خاصة وحميمة بشجرة الزيتون التي كان يعتبر أن قراءة تاريخها هو طريق مهم لفهم الثقافة والتاريخ والذاكرة الأمازيغية، وقبل ذلك فهم الشخصية الأمازيغية نفسها، وكان يكن لهذه الشجرة محبة خاصة، محبة العارف، إذ لا بدّ لتاريخ كل أمة من الأمم من شجرة يرتبط بها ويمد جذوره في نسغ جذورها، وشجرة الزيتون هي شجرة تاريخ أمازيغ شمال أفريقيا كما هي النخلة في الجزيرة العربية والأرز في بلاد الشام.
تحيل شجرة الزيتون على الأجداد وعلى حكاياتهم، على أيام عزهم وأيام فقرهم، أيام مقاوماتهم وأيام خيرهم. لا شيء يروى عن حياة الأمازيغ من دون ذكر لشجرة الزيتون.
من زيتونة القديس أوغسطين في سوق أهراس أو طاغاست إلى زيتونة مولود معمري تظل شجرة الزيتون لها حضور خاص.
يقول مولود معمري في واحد من نصوصه الجميلة رداً على سؤال طرحه عليه الكاتب جان بليغري Jean Pélégri (1920-2003) حول شجرته المفضلة، وهذا نص إجابة مولود معمري عن شجرته المفضلة، "شجرة مناخي الخاص هي شجرة الزيتون، إنها أخوية وهي على صورتنا تماماً. ولا تسمق في السماء مثل أشجارك المغمورة بالمياه. إنها معقودة، إنها عنيدة، إنها صلبة، إنها تعرض لحاء متشققاً لكنه كثيف، لمواجهة التقلبات التي تعبر السماء، ففي أيام قليلة، يتبدل الجو من صقيع شتاء قاسٍ، إلى قيظ بلا رأفة، وبهذه المقاومة الكبيرة عبرت شجرة الزيتون القرون. بعض جذوعها العتيقة، تشبه أحجار الممرات المائية، الأحجار التي تستعمل لعبور الأنهار والتي هي الأخرى خالدة وهادئة ومقاومة لمراحل التاريخ، لقد كانوا شهوداً على ميلاد آبائنا وآباء آبائنا. نمنح بعض أشجار الزيتون أسماء كأسماء أصدقاء عائليين أو للمرأة المحبوبة (على كل، فالأشجار عندنا كلها تخاطب بصيغة المؤنث) لأنها نسجت مع أيامنا، مع أفراحنا، إنها شبيهة بالبرانيس التي تغطي أجسامنا. عندما يريد العدو الوصول إلينا، فهو، كما تعلم جان، أول ما يهاجم هي أشجار الزيتون، لأنه يشعر أن فيها يكمن جزء من قلبنا... الذي ينزف تحت الضربات. شجر الزيتون، مثلنا تماماً، يحب الأفراح العميقة الصادقة، تلك التي تتجاوز الظاهري وتتفوق على السعادة المصطنعة. مثلنا تماماً، فشجرة الزيتون ترفض السهولة، وهي ضدّ كل منطق، إنها تحمل غلالها في فصل الشتاء حين يحكم الصقيع بالموت على كل الأشجار الأخرى. في مثل هذا الموعد يتجند الرجال وتتزيّن النساء للذهاب معاً إلى أعراس الجني، مهما كان الجو ماطراً، ثلجاً أو متجمداً أحياناً أخرى، وللوصول إلى أشجار الزيتون يجب عبور النهر الذي يفيض في الشتاء، وفي فيضانه يحمل معه الأحجار والأشجار ومرات العابرين أيضاً. لكن مهما يكن! لم يوقفنا هذا الوضع يوماً عن موعدنا، إنه الثمن الذي يتعين علينا دفعه لنكون في موعد مع الحفل، حفل جني الزيتون. إن الذكرى التي أحتفظ بها من هذه الأعراس مع أشجار الزيتون على الجانب الآخر من النهر، حضور أمي أو زوجة أبي، صورة لن تتلاشى من ذاكرتي إلا بنهاية أيام حياتي."
أما أمي لالة رابحة بنت الخلوي بن إبراهيم، فكانت لها هي الأخرى علاقة خاصة بشجرة الزيتون، فأمي كما جدتي من قبلها، كانت مقتنعة حدّ الإيمان المطلق بأن كل الأمراض تعالج بزيت الزيتون، من هنا لم يكن بيتنا ليخلو من زيت الزيتون بأنواع مختلفة، ولأمي وحدها حكمة التفريق بينها وحكمة استعمالها.
إذا اشتكى واحد منا أو من أبناء أو بنات العمومة أو من الجيران ألماً في الرأس، فعليه تناول ملعقة أو ملعقتين من زيت الزيتون، وبقدرة قادر كل شيء يعود لطبيعته.
إذا ما اشتكى أحد منا ألماً في المفاصل، أسرعت أمي لتدليك ذلك المكان بزيت الزيتون الدافئ وإذا الحكمة حاضرة والشفاء في الموعد.
حتى إذا اشتكى عاشق من تباريح عشق مدوّخ نتيجة هجران أو بعد أو فراق أو خصام، كان زيت الزيتون دواء العاشقين، إنه عقار لأعطاب البدن والروح على حد سواء.
وهو أيضاً دواء ضد الجنون وضد الفقر وضد ضعف القوة الجنسية وضد ثقوب الذاكرة، حاضر في كل الامتحانات المدرسية، يستعملها الإنسان الكبير كما الصغير، الأنثى والذكر، على حدّ سواء، يستعمل للأبقار والعنز والشاة والكلب والحصان والحمار والطير.
وتحت ضوء خافت ساحر يصعد من فتيل مغموس في زيت الزيتون قرأنا القرآن الكريم وهوميروس وشكسبير وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وموليير والمتنبي وروني شار ودوستويفسكي ونابوكوف ومولود فرعون وهنري ميلر وكانط وابن رشد وابن ميمون والمعري وكاتب ياسين وآخرين من كل اللغات والثقافات والجغرافيات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى