د. محمد الشرقاوي - مبتدأ الصداع وخبر الهلوسة!

عانيتُ صداعًا حادًّا وسعالًا متقطعًا دون حرارة خلال ثلاثة أيام عسيرة جدا. وأدركت المعنى الحقيقي لمقولة "لا راحة في أي حال". لا راحة في الوقوف حتى تجلس، ولا راحة في الجلوس حتى تستلقي بجسدك المتهالك على السرير وأنت تتقلّب ذات اليمين وذات الشمال مرات ومرات بلا هوادة، وكأنك حصان يحكّ ظهره على الأرض وقد علق عند محاولة قلب ذاته بين المنزلتين.
تأخذك خطاك من غرفة النوم إلى الصالة إلى المطبخ في جولات شاردة، وكأنك تودّ أن تخرج من جلدك إلى هيئة وجود أخرى. تفتح باب الثلاجة مرارا وتتأمل أدراجها ومعروضاتها من الفواكه والخضار ونوعين من السمك المتبّل، ولا تلمس في نفسك شهية للأكل ولا طاقة تستحمل رائحة الطبخ. تصبح صوفيا ممعنا في الزهد متأففا من شتى ملذات المعدة. وللمرة الأولى، أكتشف أن الثلاجة من صنع ألماني Made in Germany، ولم أعلم هذه "الحقيقة التاريخية" إلا عندما طال تأملي وامتدّ بصري إلى الملصق الماثل على يمين الثلاجة.
يساورني الملل من هذه الحال المزرية. وأشعر ببعض البرد، فأدخل السرير لأتدثر بالغطاء السميك. انغمس فيه بالكامل وتزيد أنفاسي في ارتفاع مستوى الحرارة إلى حدّ أن يبدأ عنقي يتصبب عرقا. وأكون هنا قد أجدت تصريف فعل "يتغنبر"وهو لفظ مغربي أصيل، وهو مستوحى من “تخَمّر”، من الجذر العربي كناية عن ارتداء الخمار ومصدره التخمير. وسرعان ما تحين لحظة التمرد على الحرارة المتعالية بأن تركل إحدى رجلاي الغطاء تلمسًا لبعض الاعتدال. وبعض لحظات، تساورك النزعة في الاتجاه المعاكس بجر الغطاء مجدّدا والانصهار فيه بالجملة.
تمر ساعة أو اثنتان، فتعود إلى جولاتك الشاردة بين ردهات البيت، فتغويك نفسك بالخروج مشيا إلى الهواء الطلق بحثا عن نسمة منعشة تروّح بها عن النفس. لكن عقلك الصغير داخل جمجمتك الكبيرة يردّ عليك بنبرة صارمة: "مهلا أيها المتهوّر المعاند... كيف تُقدم على مجازفة غير محسوبة، وحال جسمك كحال السيارات المودعة في مراكز جمع الخردة". تدير وجهك الخنوع يسارا عن وجه هذا العقل غير الصديق الذي لن تنفع معه محاولة إقناع ودية أو مفاوضات ناعمة.
هذه مقدمة لما خفي كان أعظما عندما تحل ساعات الليل، وتطفئ من حولك جميع المصابيح ومنافذ الضوء إلى مرقدك. أنت تهادن الصداع الحادّ وهو عنيد لا يراعي مودّة قديمة أو جديدة، ولا لإمعانه في التعسف هذه المرة. وتأتي الطامة الكبرى وأنت بين لحظات الصحوة والغفوة وتراهن بعقلك الباطن وحدسك الصّدوق على استيعاب التحدي ببعض النوم المريح. وكلما قلبتَ جسمك يمينا أو بسارا أو زدت أو خفّفت من علو الوسادة، يظل الصداع المارد الذي لا يغفل ولا يتراجع: تزايد في الضغط وكأنني أجّرتُ رأسي استوديو لطبّال ليقوم بتمرينات قبل يوم الحفل. يشعر المرء وقتها بأنه مطاردٌ بكل دلالات الإصرار والترصّد على ألا ينعم بخمس دقائق نوم في ماراثون المعاناة المفتوحة. ويصل إلى حد التشكيك في تقييمه للوضع أو ما يقترب من الهلوسة بحكم هيمنة الصداع أكثر من حرية الإرادة.

د. محمد الشرقاوي




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى