حكايةُ عائدةٍ من "تيهرت" عاصمة الدولة الرستمية

أعشق السفر و لو أن لي إمكانيات لطفت العالم كله ، أحب السفر كان حلمي ان ألقب بالرّحالة

انطلاقا من العنوان الذي أورده الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه "جدد حياتك" و إن كان هو أراد به تجديد المسلم عهده مع الله و علاقته به الإقبال عليه، أي من الجانب العقائدي ، فالسفر يجعلنا نجدد حياتنا، طالما الحياة في تجدد مستمر، في السفر نستنشق أكسجينا جديدا، في السفر نجدد أفكرنا و نظرتنا للحياة، و التجديد له دلالات أخرى ، نجدد حياتنا في كل مجالات الحياة، السياسية، الإجتماعية، و حتى في علاقاتنا مع الآخر الذي تربطنا معه أواصر الأخوة و المحبة فلا نضيعها بل نجددها حتى لو كانت عقيدتنا تختلف عن عقيدتنا و كذلك إيديولوجيته ، لأن ما يربطنا به هو الإنسانية كقيمة سماوية.

في هذه الحياة عش كما شئت و بالطريقة التي تريدها، المهم أن تحترم حدودك كإنسان على وجه هذه الأرض و أن تحترم حرية تفكيره و تصرفاته طالما هو لم يؤذيك، إن أجمل ما في الحياة هو أن تجد أناسا يحترمونك و يقدرونك، و طالما تلمس فيهم هذه المشاعر النبيلة ، فهم بلا شك يحبونك و يحترمونك، لدرجة أنك تقطع المسافات من أجل ان تلتقي هم حين يستنجدون بك و يطلبون المساعدة، تلبي النداء مهما كانت المخاطر من اجل ان تلتقي بهم، فالحياة مهما كانت حلاوتها فهي قصيرة، قد لا نلتقي بهم مرة أخرى، الحياة كما اسلفنا تجدد وتنوع، نعم تنوع ، فأنت تنظر إلى العيون التي ترمقك تقرأ في نظراتهم التنوع، ، فكل نظرة لها قراءة تختلف من شخص لأخر، فنحن مختلفون في الزيّ ( اللباس) في الحركة ، فنجد منهم السليم المعافى و المريض و العاجز عن الحركة ، لكنها يقاوم الحيا في محاولة منه التكيف مع الواقع، البس ما يعجبك و كن على الهيئة التي ترغب أن تكون عليها ، ( سلفي، أوروبي، أصولي حداثي) و ضع على راسك ما يعجبك ( بيري، شاشية)، المهم أن يكون فكرك جزائري، أنتَ أنا و أنا أنتَ طالما يجمعنا قاسم مشترك هو الدين و للغة مهما اختلفت عاداتنا و تقاليدنا و مهما اختلفت أفكارنا و طريقة عيشنا، فما هو مطلوب منّا هو أن يكون لنا تنوع ثقافي، بل قومية ثقافية، تجمع بيننا و توحدنا فهي البديل لكل ثقافة تكون عامل هدم و تفرقة، سواء كانت ثقافة عربية، إسلامية، أو ثقافة أمازيغية.

فأن تكون لنا قومية ثقافية كافٍ لنواجه بها مخاطر العولمة، التي يسعى اصحابها القضاء على كل أنواع الثقافات ، في ظل التطور التكنولوجي الذي جمع بين القارات، كنت مؤخرا في سفر إلى إحدى ولايات الجزائر التي تقع في الغرب، و بالتحديد ولاية تيارت المعروفة تاريخيا بمدينة تيهرت ( سيأتي الحديث عنها) ، ولغياب خط مباشر بين عاصمة الشرق ( سيرتا) و هذه الولاية ، تجد نفسك مجبرا على التنقل إليها عن طريق الجزائر العاصمة ، داخل الحافلة تسمع اصواتا بمختلف اللهجات، تجد نفسك كما يقال مثل الأطرش في الزفة ، كل واحد يتكلم بلسان قومه و التيار الذي ينتمي إليه، طبعا لا يسعنا الحديث عن إشكالية اللغة و الأسلوب الخطابي، المهم أنه يوجد تنوع لغوي و أساليب متعددة في التخاطب مع الآخر، و نضرب لذلك مثلا بـ: " الغمزة" ، كان القابض كلما تعامل مع أحد الركاب إلى و ضرب له غمزة، هي طبعا حركة تعبر عن الرضى و البشاشة، كما تعبر على ان صاحبها يتكيف مع كل الذهنيات، طالما مجتمعنا متعدد الثقافات، و بالتالي يمكن اعتبارها تقنية جديدة نضمها الى تقنيات الاتصال.

Voyage avec le sourire.. هو الشعار الذي اختاره صاحب الحافلة ، التي العاصمة و بجاية و نجن ننتظر قدون الحافلة ، لفت انتباهنا هذا الشعار، أراد صاحبه أن يدخل السرور لقلوب المسافرين، و الابتسامة طبعا واحدة من تقنيات الاتصال و بدون هذه التقنية لا يمكن تحقيق روابط الأخوة و الصداقة مع من يحيطون بنا، باختصار شديد السفر يعيد لك الحياة و يدعلك أكثر حركية، و كما يقال "سيحو تصحو"، داخل الحافلة بعضهم يلتزم الصمت، و آخرون يتكلمون و البعض الاخر يقهقه ، ماذا عن المرأة؟، في عصرنا هذا لم تعد المرأة تخشى السفر بمفردها، حتى في المناطق المحافظة على العادات و التقاليد، رأيت فتيات يسافرن بمفردهن و يقطعن مسافات طويلة ، كل محطات المسافرين متشابهة ، ماعدا محطة تيارت للمسافرين بدت أكثر نظاما، فقد أنشات هذه المحطة في قاعة الانتظار جناحا خاصا بالنساء و جناح أخر للرجال و هذا من باب تفادي الاختلاط، و حماية المرأة من أي أشكال التحرّش أو الاعتداءات أو محاولة سرقتها، و على ما يبدو أن المجتمع التيارتي ( تيهرت سابقا) أكثر حفاظا على العادات و التقاليد، حيث يفضل الأغلبية بقاء المرأة في البيت باعتبار ان بيتها هو مملكتها، و لو أنها ظاهرة منتشرة في كثير من المدن و أخرى بدأت تعود إلى أصلها كما هو الشأن في مدينة وهران التي كانت تلقب بباريس الثانية 2em paris ، فقد انتشرت فيها المدارس القرآنية و كذلك بقية المدن و الولايات التي عاشت صحوة و ظهرت فيها اصوات ذهبية في ترتيل القرآن ، رغم انفتاحهم الذهني إلا أنهم بدأوا يدركون أن العودة إلى الأصل فضيلة، و بدأ الرجل يشعر بالغيرة أكثر على المرأة و راح يأمرها بليس الحجاب و الالتزام بالحشمة و أن لا تخالط الرجال أو تسافر بمفردها، و التخلي على العيش على الطريقة الغربية التي أعلنت حضارتها الإفلاس.

لم أزر يوما ولاية تيارت، و كانت هذه زيارتي الأولى لها ، عندما وصلت ُ وجدتُ أهلها يلبسون القشاشب ( القشابية)، ليس من أجل وقايتهم من البرد، و إنما من باب الاعتزاز بالهوية هكذا هو المجتمع التيهرتي، تقول إحدى السيدات التي كانت لي معها دردشة قصيرة ، لم أدخل يوما متجرا أو سوقا للتسوق، كان زوجي يوفر لي ل ما أحتاجه للمنزل و المطبخ، و عندما يكون غائبا يكلف ابنه بأن يكون البديل، نعم ماذا ينفع المرأة عندما تكون في الشارع سوى تعرضها للإهانات أحيانا من طرف من لا أخلاق لهم و لا تربية ، طالما زوجها يتولى أمرها و الأسرة، فالبيت هو مملكة الزوجة، إلا في حالة غياب الوليّ فالمرأة مجبرة على الخروج لقضاء حاجاتها ، وقفت على هذه الحالة و أنا متجهة إلى بلدية "الدّاموني" و هي كلمة محرفة لكلمة "الدحموني"، سالت عن سبب تحريف هذه لكلمة ، ولم أعثر على جواب.

تبعد بلدية الدحموني عن تيارت مركز بحوالي 18 كلم، ينادونها " الدّاموني" و الحقيقة هي تفتقر الى مواصفات البلدية وهي تشبه القرية، سكانها لا زالوا محافظون، وأهلها يميزون الغريب من ابن المنطقة، يقابلك البعض بنظراتهم، تشعرك نظراتهم بأنك غريب اقتحم "المحمية" ،فهم كما يقال يمثلون حُرّاس البوّابة، و أن القادم الى محميتهم واجب عليه أن يقدم تأشيرة الدخول، لأن أبناء "الدّاموني" معروفون و معظمهم ملتحون، حتى أنهم أحيانا تجدهم متشابهون في الملامح، قد يخيل إليك أن هذه البلدية إسلامية أو ما تزال تحمل آثارها، هكذا هي الحياة في الشرق و الغرب، في الشمال و الجنوب، فالصراع هو صراه هويات، و صراع أفكار و إيديولوجيات حتى لو كنا نعيش في إقليم واحد يؤمن بتعدد الثقافات و الديانات و يوثقها في دستوره، ما يمكن قوله أن الحياة في هذه المدن يختلف عن الحياة في العاصمة، تتلمس فيها رائحة الحرية ، لا فرق بين الرجل و المرأة ،فمثلا في إحدى مقاهي العاصمة مقهى يسمى la rotonde الكل يفضل الجلوس في هذه المقهى من النساء و الرجال، الأمر عندهم عادٍ و طبيعي ، لأن القهوة التي تقدم للزبون لها نكهة خاصة، المهم أن لا تتجاوز حدودك مع الآخر و لا تتابع حركته و ماذا يرتدي و ا تهمك نبرة صوته و طريقة تسريحة شعره، و..و..الخ، هنا تعيش مواطنتك ، لا أحد يسالك من اين جئت و ماذا تفعل.

لنعد إلى مدينة تيهرت ( تيارت حاليا) كتاريخ و حضارة، فتيارت اسمها الحقيقي تيهرت كانت عاصمة للدول الرستمية، و من خلال الكتابات فهذه المدينة تراثا ثقافيا و نخبة من شعراء و شيوخ، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن حضارة ما عاشت بهذه المنطقة وتركت بصماتها قبل أن ترحل، ذلك من خلال مواقعها الأثرية الشهيرة فكانت هذه المواقع و المعالم الأثرية عنوانا للصراع من أجل البقاء، فتيهرت تعتبر أول دولة بالمغرب العربي الإسلامي مستقلة عن الخلافة العباسية، و كان قدوم عبد الرحمن بن رستم إلى موضع تهرت في عام 760 للميلاد بعدما أن فرّ من القيروان، و بايعته القبائل المحلية بالإمامة، فأسس دولته الرستمية، و اتخذ من تهرت عاصمة له ، و ذلك في سنة 160 هـ /776 للميلاد، و تعرف مدينة تهرت بأبوابها الأربعة و هي ( باب الأندلس، باب المطاحن، باب المنازل و باب الصيّاد) ، و تضم عدة منشآت ، إلا أنه لم يبق منها إلا مسجد يقال له مسجد الإباضيين و حمّامات اكتشفها الباحث كادنا في عام 1958 .

و قد عرفت هذه المدينة بمواقعها الأثرية، نذكر منها موقع (كلمناطة) ، و يوجد بها دولمات و بازينات و تلال جنائزية، تعود إلى القرن الأول من العهد القديم، ، و معالم جنائزية 13 ضريحا موزعة في شكل مجموعات، يؤكد المؤرخون أن هذه المعالم الجنائزية بناها ملوك البربر الذين سيطروا على قبائل المنطقة، ، بعد أن أزاحوا الاستيطان الروماني عنها، و تمكنوا من تأسيس مملكتهم المسماة مملكة " الونشرييس" التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، كما نقف على موقع اثري آخر يقال له موقع عين سبيبة، و لهذا الموقع ألف حكاية و رواية، ما تتميز به مدينة تيارت ( تهرت) هو وجود مغارات كان العلامة عبد الرحمن ابن خلدون يقضي فيها أوقات الكتابة، و تقع هذه المغارات ضمن قلعة بني سلامة ، كانت تابعة لإمارة بني توجين، ثم أخذها الزيانيون، و كان العلامة و المؤرخ العربي عبد الرحمن ابن خلدون يأوي إليها فارا من الأوضاع السياسية المتردية في عصره، لتكون خلوة لكتابة "مقدمته" الشهيرة، كما كانت بداية استقراره بقلعة بني سلامة في أفريل من عام 1375، و بقي هناك قرابة ثلاثة سنوات قبل ان يرحل الى تونس في أكتوبر 1378.

علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى