الساعات. كثيرة تتوالى، والذكريات تترى. الأحلام والرؤى وتلك الأحداث.. وأنا الممدد فوق كرسى فوتيه، أفتش عن نفسي، فوق المقعد، بعيدا نسبيا عن مدخل الفندق، على صوت البحر. كنت قد بدأت أفكر فى عزلتى بعمق، المقعد نبيذى محشو بالقطن ومنجد بقطيفة. يشعرنى بدفء ما، أستسلم للأصوات بوعي. تنفلت ذكريات جمة، يعتلينى صوت البحر، بهدر مخيف يفوق ذعر الطوفان الذى حكى لى عنه جدى البحار قديما فى مدينة الحرق والغرق، والتى شهدت ميلاد الغلام. أرقب الباب الزجاجي، تائها، ما بين ماض وحاضر وذكريات. معيشة آنية، تخايلنى سيسيليا.. وينهمر الضباب. الغمام كثيف فى طرقات الإسكندرية، قدمى باردة ترتجف ليقتحمنى صوت الهدر والوشيش، أو أضطر لاستدعائه، اتدفأ بالذكريات، أتلصص بخوف وأرمى بنظرات من فوق الصخور بترقب لعل جثث الموتى من رفاق الرحلة تطفو قريبا من رقدتي، لم يزل صوت خالد صادحا وهو يهاتفنى من الجانب الآخر من الشاطبى، وأنا ألهث مذعورا أتخطى السيارات التى تفر فى جنون، بنتى تصرخ ورفيقتى تضحك بجنون، وسيسيليا حزينة فى صمت، وخالد مات منذ سنوات ثلاث، وأنا أستعيد رحلتى اليومية على الكورنيش وقت الغروب، أستعيد سيرة «ميرامار» و«زهرة وعيسى». يقتلني، تقتلنى الذكريات، وصوتى غلاما:
_ (أتى إلى هنا فى فجر العام التاسع والسبعين، أرقب البيت، (كان يعمل بحارا ويطوف بلاد العالم. وفارق البلاد له عقودا طويلة لا تحصى؟!! أدقق فى القريب المخفى وتنهمر السيارات من جديد وتنقلب على الزجاج قريبا من عيني فى هالات متموجة، على صفحات الزجاج المتسعة التى تفصلنى عن محطة الرمل، وهذا الزعيم الصامت فى سواد الطرقات البازلت. سعد سعد يحيا سعد، طلقات رصاص فارغة، مطاطية، حارقة خارقة، طرقعة سياط لسوارس، وفتحى صقر مهندس الميكانيكا فى بورسعيد الثانوية الصناعية يسحبنا فى الظلام، ويشير إلى قصر الملك فى المنتزه، ويردد هامسًا: (الفاسد الخائن، وأبى لا يعلم شيئًا عن الرحلة، ولا طريق ميناء الوصول؟!!.. أبى الذى غاب طويلا عن الحياة له خمسة عقود ولم يزل؟!!).
حلمى أن أجد تفسيرا منطقيا لهذا الحلم الذى يتكرر يوميا منذ أن فارقت حى الزمالك وجئت إلى هنا.. منذ متى وأنا هنا؟!! وهو هناك؟!!
(لا أعلم أى هناك، ولا أى هنا. كل ما أقبض عليه هو صوت ماكينات الديزل، الوشيش فى ليل الغريب، ومقهى يتوسط ميدانا متسعا ترمى كل منافذه جهة البحر، وصوت سفن، ومهجرين من الدلتا يتسامرون فى كابينة قيادة لعربة نقل «بدفورد» تسير تحت الأشجار المخيفة، فمنهم من ينام مستسلما لصوت وشيش الموتور وطفو الذكريات، وآخرون يدخنون راشقين نظراتهم للسماء فى انتظار نهار. مراس بعيدة، وأنا أقتحم الأبواب الحديدية الضخمة المنفتحة على اتساعها أصرخ وأنادى على أبي، وأكتشف تفاصيل المكان، فيتكشف لى رويدا رويدا، سوق أوروبى مخصص لبيع الأسماك وطاولات فارغة فى انتظار عودة الصيادين بطرح البحر المتوسطي، وأنا أطرق العتبات بجسارة وبلا خوف، فيتجمعون حولى فى غل، أسأل عن أبي، بعد ما أكون قد تأكدت من خارطة المكان، ومضاهاة التفاصيل بصورة الحلم، حسبما أشارت رسائل البحر التى رمت بها الأقدار لعلها تفرحنى أو تعطينى أملا فى العثور على مكان إقامة لأبى حليم البحار.. يطوقوننى وقد أمسك كل منهم ببلطة فى يده لأفر وللمرة العاشرة مذعورا، وأعود أسأل سيسيليا وهى تقرأ كفافيس فى حزن ولوعة، تؤكد تكرار الزمان بشروطه، وأن إنسانا ما، حليما وجسورا وشاعرا. غامر ومر من هنا وكتب رسائله فى الغروب على صوت البحر، سيسيليا تخايلنى فى الخطو المتعمد بغنج ودلال وصمت مريب. قبل مجلسى فوق الفوتيه، تمشى ببطء كحلم مرئي، تخترق منافذ تافرنا، قاصدة محطة الرمل القديمة تنفد من بين عربات الترام قاصدة إتينيوس. بجووب أزرق وبلوزة لامية سوداء وحذاء هاف بوت برتقالى يبرز ربلتى ساقيها، يتجلى النهدان من تحت القماط البلوري، تغيب وسط زحام ما بعد الغروب قرب النبى دانيال، تخايل المشاة بأرداف شقراء مستديرة وشامخة يرتج لها الأسفلت مرحبا بتلك الشامة النافرة تعاكس وجه القمر الراشق فى سماء صفية زغلول. أين أبي، أين عمري، أين البحار؟!!
أين نفسى؟ الساعات تمر، أين خالد، كيف ذهب، ومتى يتم العثور على جثة الصومالى الغريب فى هدر قايتباى، وهاأنذا أرقد فوق كرسى محشو بقطن نبيذي، بمدخل الفندق العتيق، لى أربعون خريفا، أستقبل كل يوم الرسائل؟ لم تعد تنفذ من خارطة الزجاج المتسعة والتى تهشمت بعد أن ضلت سيارات الليل الطريق نحو سبل العودة.
_ (أتى إلى هنا فى فجر العام التاسع والسبعين، أرقب البيت، (كان يعمل بحارا ويطوف بلاد العالم. وفارق البلاد له عقودا طويلة لا تحصى؟!! أدقق فى القريب المخفى وتنهمر السيارات من جديد وتنقلب على الزجاج قريبا من عيني فى هالات متموجة، على صفحات الزجاج المتسعة التى تفصلنى عن محطة الرمل، وهذا الزعيم الصامت فى سواد الطرقات البازلت. سعد سعد يحيا سعد، طلقات رصاص فارغة، مطاطية، حارقة خارقة، طرقعة سياط لسوارس، وفتحى صقر مهندس الميكانيكا فى بورسعيد الثانوية الصناعية يسحبنا فى الظلام، ويشير إلى قصر الملك فى المنتزه، ويردد هامسًا: (الفاسد الخائن، وأبى لا يعلم شيئًا عن الرحلة، ولا طريق ميناء الوصول؟!!.. أبى الذى غاب طويلا عن الحياة له خمسة عقود ولم يزل؟!!).
حلمى أن أجد تفسيرا منطقيا لهذا الحلم الذى يتكرر يوميا منذ أن فارقت حى الزمالك وجئت إلى هنا.. منذ متى وأنا هنا؟!! وهو هناك؟!!
(لا أعلم أى هناك، ولا أى هنا. كل ما أقبض عليه هو صوت ماكينات الديزل، الوشيش فى ليل الغريب، ومقهى يتوسط ميدانا متسعا ترمى كل منافذه جهة البحر، وصوت سفن، ومهجرين من الدلتا يتسامرون فى كابينة قيادة لعربة نقل «بدفورد» تسير تحت الأشجار المخيفة، فمنهم من ينام مستسلما لصوت وشيش الموتور وطفو الذكريات، وآخرون يدخنون راشقين نظراتهم للسماء فى انتظار نهار. مراس بعيدة، وأنا أقتحم الأبواب الحديدية الضخمة المنفتحة على اتساعها أصرخ وأنادى على أبي، وأكتشف تفاصيل المكان، فيتكشف لى رويدا رويدا، سوق أوروبى مخصص لبيع الأسماك وطاولات فارغة فى انتظار عودة الصيادين بطرح البحر المتوسطي، وأنا أطرق العتبات بجسارة وبلا خوف، فيتجمعون حولى فى غل، أسأل عن أبي، بعد ما أكون قد تأكدت من خارطة المكان، ومضاهاة التفاصيل بصورة الحلم، حسبما أشارت رسائل البحر التى رمت بها الأقدار لعلها تفرحنى أو تعطينى أملا فى العثور على مكان إقامة لأبى حليم البحار.. يطوقوننى وقد أمسك كل منهم ببلطة فى يده لأفر وللمرة العاشرة مذعورا، وأعود أسأل سيسيليا وهى تقرأ كفافيس فى حزن ولوعة، تؤكد تكرار الزمان بشروطه، وأن إنسانا ما، حليما وجسورا وشاعرا. غامر ومر من هنا وكتب رسائله فى الغروب على صوت البحر، سيسيليا تخايلنى فى الخطو المتعمد بغنج ودلال وصمت مريب. قبل مجلسى فوق الفوتيه، تمشى ببطء كحلم مرئي، تخترق منافذ تافرنا، قاصدة محطة الرمل القديمة تنفد من بين عربات الترام قاصدة إتينيوس. بجووب أزرق وبلوزة لامية سوداء وحذاء هاف بوت برتقالى يبرز ربلتى ساقيها، يتجلى النهدان من تحت القماط البلوري، تغيب وسط زحام ما بعد الغروب قرب النبى دانيال، تخايل المشاة بأرداف شقراء مستديرة وشامخة يرتج لها الأسفلت مرحبا بتلك الشامة النافرة تعاكس وجه القمر الراشق فى سماء صفية زغلول. أين أبي، أين عمري، أين البحار؟!!
أين نفسى؟ الساعات تمر، أين خالد، كيف ذهب، ومتى يتم العثور على جثة الصومالى الغريب فى هدر قايتباى، وهاأنذا أرقد فوق كرسى محشو بقطن نبيذي، بمدخل الفندق العتيق، لى أربعون خريفا، أستقبل كل يوم الرسائل؟ لم تعد تنفذ من خارطة الزجاج المتسعة والتى تهشمت بعد أن ضلت سيارات الليل الطريق نحو سبل العودة.