د. حسام الدين فياض - المفاهيم الأساسية المكونة لجوهر مناهج البحث في علم الاجتماع

في هذا السياق سنحاول استعراض مجموعة من المفاهيم بالتوضيح والشرح الكافي والوافي لما لها من أهمية كبرى في فهم جوهر مناهج البحث في علم الاجتماع، وهي كالآتي:

أولاً- مفهوم علم المناهج:
يعتبر علم المناهج METHODOLOGY واحداً من العلوم الاجتماعية المهتمة بالكشف عن الحقيقة العلمية التي تكمن خلف حدوث الظواهر الطبيعية والاجتماعية في الوجود، ويعرف أيضاً باسم علم مناهج البحث.
توجد لعلم المناهج عدة مسميات، ومن بينها: ( علم مناهج البحث، والمنهج العلمي، والثقافة العلمية أيضاً )، ويشير المعنى اللغوي لعلم المناهج إلى ترجمة لفظية لمصطلح إنجليزي جاء من أصول يونانية، وتنقسم الكلمة إلى شطرين، هما: METHOD وتشير إلى المنهج، وLOGOS وهي العلم.
يمكننا الإشارة إلى مفهوم علم المناهج " أنه جملة من الطرق والأساليب والتقنيات المبتكرة خصيصاً لفحص الظواهر والمعارف حديثة النشأة، وقد تأتي لغايات إكمال المعلومات والنظريات القديمة، وإجراء تصحيح أو تعديل على مسارها، وبذلك نستنتج إلى أن علم المناهج يقوم على تجميع التأكيدات القابلة للقياس، خاصة تلك الخاضعة لمبدأ الاستنتاج ".
يعود تاريخ نشأة علم المناهج إلى العصور القديمة الأولى، إذ حاز هذا النوع من العلوم على اهتمام الفيلسوف اليوناني أرسطو، وقد بزغ ذلك في كتابه " الأورغانون "* في المناهج، حيث استطاع بذلك إيجاد معرفة علمية بحتة حول رأيه، فدمجها المنهج القياسي الذي يبدأ بالمسلمات، وتكون نهايته التوصل إلى نتائج مهمة.
كما تمكن العرب مع مرور الزمن من التوصل إلى إنشاء علم مناهج البحث، وذلك من خلال محاولاتهم في إرساء القواعد المنهجية للبحث العلمي ( البيروني ) سواء كان ذلك علمياً أو نظرياً، وتعتبر الملاحظات والفرضيات والتجربة من الأساليب المستخدمة في ذلك.
يسلط علم المناهج الضوء على المبادئ العامة لموضوع ما وضع تحت المجهر للبحث عنه، ويمكن اعتبار هذا الموضوع بمثابة المناهج والطرق المتبعة من قبل العلماء في بحوثهم.
بذلك يمكن التوصل إلى أن علم المناهج يبحث ملياً عن طرق البحث العلمي ومناهجه من حيث النشأة، وذلك باستخدام الأساليب التي ساهمت في وجودها، بالإضافة إلى البحث عن التقويمات التاريخية ذات العلاقة بالمناهج وطرق البحث.

أما فيما يتعلق بمستويات علم المناهج نجد أنها تنقسم إلى ما يلي:
1- علم المناهج العام
: تتفاوت أنواع مناهج البحث بين بعضها البعض من عدة نواح، وقد يكمن الفرق في المبادئ العامة للمنهج في الطبيعة والمجتمع، كما أنه يضم كافة الأسس والمناهج العامة المرتبطة بنظرية عامة ما.
2- علم المناهج الخاص: يضم هذا المستوى المبادئ والقواعد المرتبطة بالمناهج المتقاربة لموضوع ما، ويستند هذا المستوى إلى المبادئ المعرفية التي يحتوي عليها علم المنهج العام، ويسلط هذا المستوى الضوء على علم المناهج الخاص بالعلوم الاجتماعية.
3- علم المناهج الوحيد في تخصص معين مثل المنهج في علم الاجتماع.

- البناء المنهجي لعلم الاجتماع: يتضمن البناء المنهجي لعلم الاجتماع أربعة مستويات أساسية:
المستوى الأول: يتمثل في مجموعة المبادئ المنهجية العامة التي تضم بدورها مستويين:
أ- المبادئ المنهجية الخاصة ببناء العلم بحد ذاته كمبادئ الحياد الأخلاقي، والموضوعية، الثبات والصدق، والفهم، والنسبية.... إلخ.
ب- المقولات أو القضايا النظرية التي تتبلور على هيئة مجموعة من الأبنية النظرية التي تفسر طبيعة الواقع الاجتماعي.
المستوى الثاني: المداخل المنهجية التي تحدد زاوية الاقتراب من الظواهر المدروسة أي طريقة إدراكها لفهم البناء الاجتماعي بشكل كلي أو جزئي.
المستوى الثالث: يتشكل من مناهج أو طرق البحث المختلفة التي تتأثر إلى حد بعيد بطبيعة المداخل المنهجية.
المستوى الرابع: يتحدد بأدوات جمع البيانات وهي عبارة عن وسائل يستخدمها الباحث لالتقاط المعطيات التي تتصل بالفرضيات الموجهة لبحثه. وهنا يجب أن نشير أنه كلما اتجهنا نحو الأعلى كلما كان أكثر تجريداً، وكلما هبطنا نحو الأسفل كلما كان أكثر واقعيةً.

ثانياً- مفهوم المنهج:
كلمة مشتقة من الفعل نهج يقال نهجت الطريق أي سلكته. ونهج الأمر وضّحه، والمنهاج كالمنهج: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) . وهو " الطريق الواضح، الخطة المرسومة ".
يُعبر المنهج عن مجموعة خطوات متتالية تؤدي بالباحث إلى هدف محدد والهدف هو القانون الذي يفسر الظواهر المدروسة تمهيداً لفهمها والاستفادة منها. كما يشير مفهوم المنهج إلى الكيفية أو الطريقة المتبعة في دراسة المشكلة موضوع البحث لاكتشاف الحقيقة.
وفي النهاية يمكننا تعريف المنهج: بأنه مجموعة القواعد التي تنظم عملية البحث وتحدد مسارها والإجراءات المتبعة خلاله.

ثالثاً- المنهج العلمي:
يعتبر المنهج العلمي الطريق المؤدي إلى معرفة حقيقة الظواهر الطبيعية والوقائع البنائية التاريخية – ومن ضمن ذلك الوجود الإنساني نفسه – وكشفها وتحديد العلاقات بين المتغيرات الفاعلة تساندياً، التي تتكون منها الظاهرة أو الواقعة، والتي تميزت بوجود مراحل عمل واضحة من الملاحظة وفرض الفروض وجمع البيانات وإجراء التجربة وتحليل المعلومات والبرهنة على صحة الفروض التفسيرية، وثم صياغة النتيجة على شكل قانون أو نظرية. وعندما نحلل مصطلح المنهج العلمي نجد أنه يتكون من الكلمتين "منهج" و "علمي".
- المنهج: هو البرنامج الذي يحدد لنا السبيل للوصول إلى الحقيقة، أو هو مجموعة قواعد يتبعها الباحث في إعداد بحثه، أو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم. بمعنى آخر المنهج هو " أسلوباً في التفكير، وخطوات علمية منظمة تهدف إلى حل مشكلة أو معالجة أمر من الأمور. هو برنامج عمل في البحث العلمي، وفي نقل النظري إلى التطبيقي، وفي التخطيط للمستقبل وفق نظرة علمية متبصرة ". ولجميع الدراسات على اختلاف موضوعاتها ومناهجها الخاصة، فهناك: منهج للتعلم، ومنهج للقراءة، ومنهج للتربية، ومنهج للآثار، ومنهج للعلوم التطبيقية، ومنهج في الطب (علاجي- وقائي).
- العلمي: هي كلمة منسوبة إلى العلم، وهي بمعنى المعرفة، والدراية، وإدراك الحقائق. والعلم يعني الإحاطة والإلمام بالأشياء، والمعرفة بكل ما يتصل بها.
نجد من خلال التعريفين السابقين أن المنهج العلمي Scientific method هو عبارة عن مجموعة من التقنيات والطرق المصممة لفحص الظواهر والمعارف المكتشفة أو المراقبة حديثاً، أو لتصحيح وتكميل معلومات أو نظريات قديمة. تستند هذه الطرق أساساً على تجميع تأكيدات رصدية وتجريبية وقياسية ( أي قابلة للقياس ) تخضع لمبادئ الاستنتاج.

رابعاً- مفهوم المنهجية:
يشير مفهوم المنهجية سواء للعلوم الطبيعية والاجتماعية إلى العلمية، والعلمية يقصد بها إتباع خطوات وشروط معينة في سبيل تحقيق غايات العلم وهذه الخطوات والشروط هي المنهجية أي المنهجية في اختيار موضوعات الدراسة، والمنهجية في افتراض مفسرات لها، والمنهجية في التأكد من صحة تلك الافتراضات، والمنهجية في استخلاص تلك الحقائق، والمنهجية في تفسيرها حتى تكون في النهاية معارف منظمة، ومن ثم علمية.
كما تشير إلى مجموعة الإجراءات التي يتبعها الفكر البشري لاكتشاف واقعة علمية وإثباتها حيث تهتم بتحديد الهيكل العام لكل علم، وبتحديد الطريقة التي يتشكل ويتمظهر بها أي فرع من العلوم، فهي العلم الذي يبحث في مناهج البحث العلمي والطرق العلمية التي يستخدمها العلماء والباحثون من أجل الوصول إلى الحقيقة، وتختص المنهجية بدراسة الطرق التي تتيح الوصول إلى معرفة علمية للأشياء والظواهر.
بذلك تمثل المنهجية أولى عناصر البناء المنهجي لعلم الاجتماع، فهي منطق تطبيق المنظور العلمي في دراسة المجتمع البشري وظواهره، فالمنهجية تمثل الأساس الذي يحدد الكيفية التي نحصل بها معارفنا وما الذي علينا أن نعرفه حول المجتمع البشري وظواهره وبذلك فإن المنهجية تساعدنا هنا في تحديد أي من المداخل والطرق والأساليب والأدوات المنهجية تناسب دراسة ظاهرة ما من الظواهر الاجتماعية.
- تعريف المنهجية: هي العلم الذي يدرس كيفية بناء المناهج واختبارها وتشغيلها وتعديلها ونقضها وإعادة بناءها، يبحث في كلياتها ومسلماتها وأطرها العامة، فهو الوصلة ما بين النموذج المعرفي والمناهج التي تمثل الوسائل والطرائق التي تستخدم للوصول إلى الحقيقة ويسلكها العقل البشري لكشف غوامض الوجود وفك أسراره والاقتراب من حقائقه، ومن ثم فهي أدوات للتفكير ولجمع الحقائق وتحليلها وتفسيرها وفهمها.

أ- أنواع المنهجية: تتمثل أنواع المنهجية بما يأتي:
المنهجية الحسية: وهي مجموعة العلوم والمعرفة التي تحصل عليها الإنسان من خلال الملاحظة البسيطة بواسطة حواسه الجسمية المجردة.
المنهجية الفلسفية التأملية: وهي مجموعة العلوم والمعرفة التي تحصل عليها الإنسان بواسطة التفكير والتأمل الفلسفي لمعرفة الأسباب البعيدة للظواهر والأمور.
المنهجية التجريبية: وهي العلوم والمعرفة التي تتحقق على أساس الملاحظات العلمية المنظمة والمقصودة للظواهر، والأشياء والأمور وصياغة الفروض واستخراج النظريات العامة والقوانين العلمية الثابتة واكتشافها.

ب- وظيفة المنهجية: إن أهمية المنهجية تنبثق من خلال الوظائف التي تؤديها على النحو الآتي:
- وظيفة التحليل والتفسير: إن الغاية الأولى التي ينشدها العلم هي اكتشاف القوانين العلمية العامة وقولبتها للظواهر والأحداث المتشابهة والمترابطة من أجل الخروج بتفسير علمي لها، وذلك عن طريق التصنيف والتحليل بواسطة مختلف الفرضيات العلمية، وإجراء تجارب علمية تصل في النهاية إلى القوانين العلمية الموضوعية العامة والشاملة لتفسير هذه الظواهر والوقائع والأحداث.
- غاية الضبط والتحكم:
هي من الوظائف الأساسية المهمة للمنهجية، فهي تهدف إلى الوصول إلى التحكم العلمي بالظواهر والأحداث من أجل السيطرة على مجرياتها وتوجيهها واستغلال النتائج لخدمة الإنسانية.
- غاية التنبؤ: وتتعلق هذه الغاية بالتعرف على سبل سير الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية بهدف التأثير عليها وأخذ الاحتياطات والإجراءات العلمية لتفادي آثارها السلبية على الإنسانية، والأمثلة على ذلك التنبؤ بموعد خسوف القمر وكسوف الشمس، ومعرفة تقلب الرأي العام سياسياً.

- الفرق بين المنهجية والمنهج:
هناك فرق بين المنهجية والمنهج. فالمنهجية عملية إنتاج المعرفة، وهي استراتيجية الباحث في إنتاج المعرفة العلمية، بينما يشير المنهج إلى الأدوات والوسائل النوعية لاكتساب المعرفة العلمية أي الأدوات لتحقيق هذه المهمة. وبهذا يمكننا القول إن المنهجية أشمل وأعم من المنهج، وما هذا الأخير سوى جزء لا يتجزأ من المنهجية.
بناء على سبق يمكننا التفريق بين مفهومي المنهج والمنهجية، من خلال الاعتبارات التالية:
- إن المناهج وصف لأعمال العلماء المتقدمين، وطرائق بحوثهم وأساليبهم، ومصطلحاتهم في العلوم، والبحث العلمي سابقة للمناهج، أما المنهجية فمجموعة معايير وتقنيات ووسائل يجب إتباعها قبل البحث وفي أثنائه.
- إن المنهجية، كالمنهج، وصفية، لأنها تبين كيف يقوم الباحثون بأبحاثهم، لكنها تختلف عنه في أنها معيارية في الوقت نفسه، لأنها تقدم للباحث مجموعة الوسائل والتقنيات الواجب إتباعها.
- إن مناهج الدراسة تختلف من علم إلى آخر، و لعلم الاجتماع مناهجه الخاصة، وكذلك للغة، وللتاريخ، والبيولوجيا، والرياضيات، أما المنهجية فواحدة عموماً في جميع العلوم.
- إن المناهج تُطرح عادةً للنقد والتقويم، فيفصل ما لها وما عليها، وأيها أولى بالإتباع، وما المنهج المناسب من الدراسات، أما المنهجية، فمعايير وتقنيات يجب التزامها لتوفير الجهد، وعدم إضاعة الوقت، وتسديد الخطى على الطريق العلمي الصحيح.
خلاصة القول، إن هناك فرقاً بين المنهج والمنهجية في أن المنهجية تشير إلى عملية إنتاج المعرفة بينما المنهج يشير إلى الأدوات والوسائل النوعية لاكتساب المعرفة. فالمنهجية هي الاستراتيجية الشاملة لمنتج المعرفة، بينما المنهج هو الأدوات المستخدمة لتحقيق هذه المهمة.
وهكذا نجد أن المناهج مرتبطة بالمنطق وطرق الاستدلال والاستنتاج، لذلك فهي تتطور وتتعدل من حين لآخر، أما المنهجية فأضحت – عموماً – جملة قواعد ثابتة.

* الأورغانون: هي مجموعة كتب أرسطو في المنطق. و« أورغانون » كلمة إغريقية تعني « الآلة ». وسميت بهذا الاسم لأن المنطق عند أرسطو هو « آلة العلم » أو وسيلته للوصول إلى الصواب.


د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى