د. محمد لبيب سالم - السيادة البيولوجية والعسكرية

ما يجعل اللون الغامق (الأسمر أو البني) والمجعد للشعر سائدا على اللون الفاتح (الأشقر) والأملس هي الجينات، وهكذا مع كل الصفات السائدة في الانسان مثل لون العيون البني مقابل اللون الأزرق. هذه القوة البيولوجية الكامنة في جينات بعينها هي التي تجعلها عندما تنتقل من جيل إلى جيل تبقي سائدة على نفس النوع من الجينات الضعيفة. ولذلك أطلقت على هذه الظاهرة مصطلح "السيادة البيولوجية" والتي لا تعتمد على العواطف أو الدعوات أو التمنيات، بل هي مرهونة تماما بنوع الجينات التي تجعلها سائدة أو متنحية.

والعبرة هنا ليست بجمال المخرج النهائي للبروتين الذي يكونه الجين. فمع أن جينات اللون الأسود للعيون أو الشعر هي السائدة على جينات الأصفر أو البني، إلا أن كثير من الناس تحب الألوان الفاتحة للشعر والعيون. ولذلك، فهناك من يعمل عمدا على سيادة وغلبة الجينات المتنحية حتى تتكون البروتينات الجميلة طالما فيها رغبته أو مصلحته. ولكن هذا التحكم في غلبة المتنحي على حساب ما هو من المفترض أن يكون سائدا يحتاج إلى من يمتلك العلم والمعرفة والتكنولوجيا المتقدمة والإرادة التي تمكنه من تنفيذ ذلك.

إذا، تعلمنا البيولوجيا أن السيادة الطبيعية التي تعارف عليها الناس قد تتغير بفعل فاعل قادر علميا وتكنولوجيا فيستطيع تحويل السائد إلى متنحي والمتنحي إلي سائد طبقا للمصلحة التي يراها هو وليس غيره. وهذه العلمية البيولوجية نطلق عليها الهندسة الجينية والتي هي احدي علوم التكنولوجيا الحيوية، وهو العلم الذي أصبح من أهم العلوم الحيوية التي تهتم بتخليق كل ما هو متعلق بصحة ومرض الانسان والحيوان والنبات, ولذلك تتحكم في هذا العلم الدول المتقدمة علميا.

وما يقاس على السيادة البيولوجية ينطبق على سيادة القوي الدولية. فعلي مدار التاريخ البعيد والقريب، نري أن هناك دولا سادت العالم بفضل قدراتها (جيناتها) القوية. سادت العالم علميا وثقافيا وعسكريا وصناعيا وماليا بدون منازع أمام الدول الأخرى التي كانت موجودة، ولكن ضعيفة ومتنحية. وفي ظل الإهمال والضعف والوهن الذي أصاب هذه الدول السائدة، استطاعت الدول المتنحية أن تعدل من قدراتها (جيناتها) لتجعل نفسها تسود بالقوة والغلبة. وهكذا تحول الحال على مدار التاريخ من سائد إلي متنحي ومن متنحي إلي سائد، ولكن بفضل القوة العلمية والتكنولوجية والايمان بالذات في القدرة على التغيير.

وهكذا نري أن السيادة العلمية، أو التكنولوجية، أو العسكرية، أو حتى الثقافية تشبه تماما السيادة البيولوجية في قوانينها الأساسية الطبيعية وما قد يطرأ عليها من تعديلات بفعل تطور قدرات الإنسان. فعلينا ألا ننزعج من انقلاب القوي الدولية وسيادة دول متنحية فوق دول كانت سائدة، فهذا أمر طبيعي ويشبه السيادة البيولوجية التي خلقها الله فينا وأعطانا القدرة على تعديلها، ولكن في حدود المسموح به دون حدوث آثار جانبية. ولكن علينا أن ننزعج حقا من الذين ينقدون ويهاجمون من امتلك السيادة في الحاضر دون أن يسأل نفسه عن الأسباب التي جعلته متنحيا ولم يسع ليكون من أهل السيادة.

فمن حق أي قوة أن تسود، ولكن سيادة حميدة غير غاشمة. ومن حق القوي المتنحية أن تعيش جنبا إلى جنب بجوار القوي السائدة، ولكن في سلام. فكما يحدث في السيادة البيولوجية، تصبح القوي السائدة معرضة للزوال عندما تتحول إلى قوي غاشمة وظالمة.

فعلي القوي السائدة أن تكون عادلة وليست غاشمة.


مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة
كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى