محمود تيمور - الباب المقفل

ذهبت إليه، وسألته أن يعطيها الكتاب الذي وعدها به فوقف هنيهة يفكر: أين وضعه؟. . . ثم تمتم:

لعله في حجرة البيان!

وتقدمها إلى الحجرة، فدخلاها. إلا أنها تنبهت إلى شأن غير عاديّ بدر منه. لقد أقفل الباب بالمفتاح!. . . فتسارعت دقات قلبها، واختلست إليه النظر، فوجدته قد اتجه إلى الخزانة، واندفع يقلب محتوياتها. . .

كيف اجترأ أن يقفل الباب بالمفتاح وهي معه؟!. من يظنها؟! ورمته بنظرة حادة. . .

وأبصرت خصلة من شعره الذهبي قد تهدلت على جبهته. . . يا لله! لم تره على هذه الفتنة قبل الآن. . . قامة مبسوطة، ومنكبان عريضان، ووجه صبيح عليه طابع الرجولة الحق!

لم تره قبلُ في هذه الفتنة، على أنها نشأت وإياه في منزل واحد، وكان يكبرها بعشر سنين، فهو ينظر دائماً إليها نظرات الأخ الكبير إلى أخته الصغرى. . .

ووقع بصرها على خيالها في المرآة، فتذكرت معابثته إياها إذ كان يلقبها أحياناً بالضفدع، لقصر قامتها!

ورفعت عينيها إليه ثانية

ها قد حبسها معه في حجرة واحدة، هذا الفتى المبسوط القامة، العريض المنكبين. . .!

إنه يتظاهر بالبحث عن كتاب، ويطيل التقليب فيما بين يديه، وقد يكون الكتاب المقصود على قيد أنملة منه!

ما أجهله بعقول الفتيات!. . . إنه ما برح يتوهمها طفلة، على حين أنها استقبلت منذ أيام عامها السادس عشر!

ولكن أية مفاجأة تلك التي يفكر فيها؟

أهجوم مصحوب بقبلة حرّى؟

إن يدها على استعداد لدفع هذا الهجوم! صفعة قوية تثيب إليه رشده. . .

وجعلت ترنو إليه، وهو منهمك يبحث عن الكتاب، وكان مرتدياً منامةً حريرية تتموج على جوانب جسمه الرياضي البديع، الذي يحسده عليه أجمل كواكب (السينما). . .

وأطالت النظر إلى ساعديه القويين، فاختلج جسمها بهزة كهربية. . .

لقد أنبها أخيراً لأمور تتعلق بسلوكها. . . أتكون الغيرة قد بدأت تتسلل إلى قلبه؟!

هو قليل التحدث معها، ولكنه كثير التفكير والسهوم. وهل تنسى يوم سارقها النظر، فتضرج وجهها؛ فغضب لافتضاح أمره، ونهرها بشدة؟!

ما أشد كبرياءه! ولكنها ستهزم اليوم هذه الكبرياء هزيمة ساحقة. . .

سيجثو تحت قدميها، ويقول لها: (كم أحبك. . . كم أحبك يا عصفورتي الصغيرة!. . . فتجيبه، وهي مهتاجة: (دعني أخرج!. . افتح لي الباب. . .) ثم يمسك بيديها، ويغمرها بقبلاته وهو يكرر: (ارحميني!. . . ارحميني!. . .)

وأخيراً رفع رأسه عن كومة الكتب، ثم التفت إليها، فرآها تبتسم له، فأجابها بابتسامة سانحة!

تلك هي العاصفة توشك أن تهب، فلتستعد لها. . .

إنها لم تره على هذه الوسامة قط. . .

أتراه يفكر في حملها بين ذراعيه، ثم يقفز بها من النافذة إلى الحديقة، ثم يظل يعدو بها. قد يعقد الذعر لسانها، فلا تستغيث ولا تتحرك. . . فلا يفتأ يجري ويجري. . . فإذا ما امتلكت نفسها، واستعادت شجاعتها، وأرادت أن تصيح، أسكتها بقبلة طويلة!

لم يعد يبحث عن الكتاب، إنه في تفكير شارد مضطرب. يُعد برنامج الهجوم. . . أفلا تتقدم إليه من فورها، وتباغته بقولها:

لقد كشفت عن خططك. . . سأفسدها عليك. . . افتح الباب، ودعني أخرج. . .)؟!

والتفت إليها في هذه اللحظة، ثم رأته يدنو منها. . .

يا لله! ما أشد خفقان قلبها!. . . إنها تسبل جفنيها. . .!

وسمعته يقول:

هذا هو الكتاب.

فرفعت إليه بصرها، فإذا به يمد إليها يده بالكتاب الذي كان وعدها به. وقد زوى ما بين حاجبيه. . . فأخذته منه في صمت!

وأبصرته يفتح الباب بالمفتاح، وينفذ منه، وهو يصيح بالخادم قائلاً:

ألم آمرك غير مرة بإصلاح هذا الباب؟ إن المرء ليضطر لاستعمال المفتاح كلما دخل أو خرج تفاديا من هذا التيار الشديد!. . . ثم اختفى عجلاً.

ولبثت الفتاة طويلاً تحدق في الجهة التي اختفى منها. . . ثم وقع بصرها عفواً على الكتاب في يدها فاندفعت إلى النافذة، وقذفت به!

ثم ارتمت على المتكإ، وانكبت على منديلها تمزقه بأسنانها. . .

محمود تيمور



مجلة الرسالة - العدد 312
بتاريخ: 26 - 06 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى