عبد المتعال الصعيدي - الحب العذري في الإسلام - 1 -

بنو عذرة بطن من قضاعة، وقضاعة من القبائل اليمنية التي نزحت من اليمن بعد سيل العرم، فنزلت بشمال الجزيرة العربية إلى بلاد الشام

وقد اختص بنو عذرة من بين قبائل العرب بكثرة عشاقهم، وامتاز عشاقهم على غيرهم بأنهم كانوا يلحون في الحب إلى حد الاستهانة بالموت فيه، وأن الواحد منهم كان يخلص إلى من يعشقها، ويهبها نفسه وحبه وكل شيء يعزه في هذه الدنيا، وفي ذلك يقول جميل بثينة:

أُصلي فأبكي في الصلاة لذكرها ... ليَ الويْل مما يكتب الملكانِ

ضمنتُ لها ألاَّ أهيمَ بغيرها ... وقد وثقت مني بغير ضمانِ

ويقول المجنون، وقد كان من بني عامر:

وَلَماَّ أبى إلا جماحاً فؤادُهُ ... ولم يَسِلُ عن ليلى بمال ولا أهل

تَسلىَّ بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تُسلى

وكان بنو عذرة يفتخرون بعشاقهم افتخار غيرهم بفرسانهم أو أجوادهم، ويرون عشقهم مزية شرف ونبل، ودليلاً على رقة القلب وصفاء النفس. وقد أخرج التنوخي عن عروة بن الزبير أنه قال: قلت لعذرى: إنكم أرق الناس قلوباً - يريد أصباهم إلى الحب، فقال: نعم، لقد تركت ثلاثين شاباً خامرهم السُلُّ، ما بهم داء إلا الحب

ولقد كان لجمال نساء بني عذرة أعظم الأثر في امتيازها بكثرة الحب، لأن الحب في الغالب يجري وراء الجمال، كما أن الجمال يورث القلب رقة، والنفس صفاء، فتستهويهما النظرة وتسترقهما الابتسامة. ومما ورد في جمال نساء هذه القبيلة ما روي أن فزارياً قال يوماً لعذرى: أتعدون موتكم في الحب مزية وهو من ضعف البنِية، ووهن العُقدة، وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجر البُلُج، ترشق بالعيون الدُّعج، تحت الحواجب الزُّجّ، والشفاهَ السُّمر تبسم عن الثنايا الغر، كأنها شذر الدر لجعلتموها اللاَّت والعُزَّى وتركتم الإسلامية وراء ظهورك وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: استنطقت أعرابياً عند الكعبة واستنسبه فإذا هو فصيح عذري، فسألته: هل علقه الحب، فأنبأ عن شدة ولوع، فسألته ما قال في ذلك فقال:

تَتَبَّعنَ مَرَمى الوحش حتى رمْينَنا ... من النَّبْلِ لا بالطائشات المخاطفِ

ضعائفُ يقتلن الرجال بلا دَمٍ ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف

وللعين مَلهًى في البلاد ولم يُفِدْ ... هوى النفس شيء كاقتياد الظرائف

وبالجملة فليس حي أصدق في الحب من بني عذرة، ولا تضرب الأمثال فيه إلا بهم، كما قال في ذلك صاحب البردة:

يا لائمي في الهوى العُذريَّ معذرةً ... مني إليك ولو أنصفتَ لَم تَلُمِ

وكما اشتهروا بالحب إلى ذلك الحد اشتهروا بالعفة فيه أيضاً وقد روي عن سعيد بن عقبة الهمذاني أنه قال لأعرابي حضر مجلسه: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال: عذري ورب الكعبة. ثم سأله عن علة ذلك فقال: لأن في نسائنا صباحة، وفي فتياتنا عفة

ويحكى من عفة عشاقهم أن جارية وشت بجميل وبثينة إلى أبيها وأنه الليلة عندها، فأتى وأخوها مشتملين معتمدين سيفهما لقتله، فسمعاه يقول لها بعد شكوى شغفه بها: هل لك في طَفءِ ما بي بما يفعل المتحابَّان؟ فقالت: قد كنت عندي بعيداً من هذا، ولو عدت إليه لن ترى وجهي أبداً! فضحك ثم قال: والله ما قلته إلا اختباراً، ولو أجبت إليه لضربتك بسيفي هذا إن استطعت وإلا هجرتك، أما سمعت قولي:

وإني لأرضى من بثينةَ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلابله

بلا وبألاَّ أستطيع وبالمُنى ... وبالأمل المرجوَّ قد خاب آمله

وبالنظرة العَجلى وبالحول ينقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله

فقالا: لا ينبغي إيذاء من هذا حالته، ولا منع زيارته لها، وانصرفا

وقد فتن كثير من الناس بهذا الحب العذري، ونظروا إلى أصحابه نظرة العطف والحنان، وأشاروا بذكرهم في الكتب، وأعجبوا بصدقهم وعفتهم في ذلك الحب، وحاولوا أن يجعلوا من الشهداء من يموت بسببه، ورووا في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عشق فعف فمات دخل الجنة. وفي رواية من عشق فعف فظفر مات شهيداً. وفي أخرى وكتم، وقد صحح هذا الحديث بسائر طرقه مغلطاي، واعله البهيقي والجرجاني والحاكم في التاريخ

ولم يكد الشعراء يعرفون ذلك الحديث حتى أولعوا به وعملوا على إذاعته في أشعارهم، وتضمينها إسناده ومعناه. ومن ألطف ما جاء في ذلك ما حكاه التاج السبكي عن أبي نواس أنه قال: مضيت إلى باب أزهر والمحدثون ينتظرون خروجه، فما كان إلا أن خرج وجعل يعظم واحداً بعد واحد، حتى التفت إليّ فقال: ما حاجتك؟ فقلت:

ولقد كنتم رويتم ... عن سعيد عن قَتَاده

عن سعيد بن المسيب ... أن سعد بن عُباده

قال من مات مُحباً ... فله أجر شهادة

فقال أزهر: نعم، وذكر الحديث

ولأبي نواس في تضمينه أيضاً:

حدثنا الخفاف عن وائلِ ... وخالد الحذّاء عن جابر

ومسعرٌ عن بعض أصحابه ... يرفعه الشيخ إلى عامر

وابن جريح عن سعيد وعن ... قتادة الماضي وعن غابر

قالوا جميعاً أَيما طَفلَةٍ ... عُلّقَها ذو خُلُقٍ طاهرٍ

فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظِ الذاكر

كانت لها الجنة مبذولةً ... تمرح في مَرتَعها الزَّاهَر

وأَيُّ معشوقٍ جَفاَ عاشقاً ... بعد وصال ناعمٍ ناضر

ففي عذاب الله مثوىً له ... بعداً له من ظالمٍ غادر

ولابن المبارك الإمام في تضمينه:

حدثنا سفيان عن جابرٍ ... عن خالد عن سهل السَّاعدِي

يرفَعُهُ من مات عشقاً فقد=استوجب الأجر من الماجد

وكان كثير من العظماء والعلماء يعطف على أولئك العشاق، ولهم في ذلك آثار ونوادر لا تحصى، ومنها ما روى عن المهدي أنه قال: أشتهي أن أصلي على جنازة عاشق مات في الحب

ومنها ما روي أن ابن الليث قاضي مصر كان يكتب في فتيا، فسمع جارية تقول: تَرى (؟) الحكومة يا سيدي ... على مَنْ تَعشَّقَ أن يُقتَلا

فرمى القلم من يده وهو يقول: لا

وقد أخرج الخطيب البغدادي عن الغزي أنه قال: رأيت عاشقين اجتمعا فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة، وقد قال في ذلك بعض الشعراء:

لله وقفةُ عاشقين تلاقيا ... من بعدِ طول نوىً وبُعدِ مزارِ

يتعاطيان من الغرام مُدامة ... زادتهما بعداً من الأوزار

صدق الغرام فلم يمل طرفٌ إلى ... فُحشٍ ولا كفٌ لحِلَّ إزار

فتلاقيا وتَفَرقَّا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائب أوزار

وهذا كل شان الحب العذري على ما يقرأه الناس في كتب الأدب، وهي تأخذ الأشياء باللطف، ولا تدقق في أمرها كما يدقق غيرها. وقد كنت أقرأها كما يقرؤها سائر الناس، فلا ألتفت فيها إلا إلى ما يلتفتون إليه، ويصرفني التأثر بأحاديث ذلك الحب عن التدقيق في أمره، إلى أن قرأت مرة قصة وفود جرير وابن أبي ربيعة وجميل وكُثَيَر والأحوص والفرزدق والأخطل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد طلبوا الإذن بالدخول عليه؛ فكان يذكر لمن يطلب الإذن لهم بعضاً مما قاله كل واحد منهم في الغزل، ثم يأبى أن يأذن له بسببه، ولم يأذن إلا لجرير من بينهم. وقد سوى في ذلك المنع بين ابن أبي ربيعة والأحوص والفرزدق والأخطل وهم من فساق الشعراء، وبين جميل وكثير وهما من أصحاب ذلك الحب العذري؛ فكانت هذه المفارقة سبباً في لفت نظري إلى التدقيق في ذلك الشأن، وبحثه من جهة الدين بحثاً صحيحاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا تشديد ولا تساهل، لأن دين الله وسط بين ذلك.

ولا بد لي قبل هذا من ذكر قصة وفود أولئك الشعراء على عمر بن عبد العزيز ليرى القارئ تشديده في أمر أصحاب ذلك الحب العذري، بعد أن رأى تساهل غيره فيه.

عبد المتعال الصعيدي


مجلة الرسالة - العدد 311
بتاريخ: 19 - 06 - 1939

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى