مقدمة مجيدة السّباعي لمجموعة (فشّة خلق) للقاص مصطفى الحاج حسين

على ناصية حروف عبقة من مخمل بهي سرّج القاص الفذ (مصطفى الحاج حسين) قصصه القصيرة بعذوبة منقطعة النظير، سطر بها عصارة آلام مستضعفين كثر، سقوا كؤوس قدر مريرة أسقاما وخيبات وانكسارا. اختار القصة القصيرة فناً رائقا ممتعاً مسلّياً يتوجّه مباشرة للإنسان، يجوب مكامن الأسى يخاطب النبض والعقل والوجدان، مرآة تعكس حياة الناس فيراها المتلقي مصقولة تبين ما يجرّون من صخورٍ موجعة ثقال، سئموها حد القرف ، بها ترجم دفين طيات نفوسهم ،ولخص أعمق أفكارهم ، وطرح أبعد طموحهم، وجسّد أجمل أحلامهم. وظّف قصصه هذه سرداً نثرياً يجمع بين الحقيقة والخيال، فناً راسخاً واعياً عميقاً مركزاً مذهلاً ، يحتفي باليومي وبكل تفاصيله، تنصهر خلاله الذّات بالمجتمع، وبكلّ إشكالياته وكأنّه نقد فني للواقع الإجتماعي، مرّر به رسائل دالة وبثّ أقصى قناعاته داعياً للمساواة والحقّ ودفع الظلم والطغيان، يهدي به قصصاً مثقلة بالأوجاع، كلّ شخصية تحمل بين طيّاتها خبايا حياة شائكة وانفعالات خاصة، كيف لا؟ فالإبداع لا يتشكل إلا من رحم المعاناة، حقق ذاك بأسلوب منمق وسرد آسر ولغة أنيقة
وفصاحة مميزة، تندس إلى العقل بيسر ومرونة وذكاء. هو كاتب من العيار الثقيل، متضلّع في الحرف العربي الجميل قدير الحرف جميله
يركب سفين القص و الخيال فيستشفّ أغوار المواقف العميقة، ويقتنّص المفارقات الدّقيقة التي تحمل شحنات انفعالية، تحرّك النّاس و الحياة، فيمنح السّرد قوّة وحيويّة مذهلة، فلا يسع الشّخصية إلّا أن تحكي عن نفسها بنفسها، وتطرز الأحداث وتلونها بألوان قزحية وأيضاً تسدل عليها تأويلات لا تنتهي، بغية أن ينحت انطباع حقيقي في نفس المتلقي المتذوق، وبه يجني عبير الموعظة وشهد المتعة ووحدة الإنطباع. يزن مبدعنا جمله بميزان الذّهب يقتصدها فلا يرهلها، وبها يجسد صوراً بصرية دقيقة موازية للواقع المعاش ولدروب المكان، فيأتي سحر الحدث والمكان متناغماً ملتحماً وكأنهما واحد، هنا يؤجّج الدّهشة والتّشويق بحرفية واقتدار و خاصة عند القفلة التي تذهل بإيجازها وإضمارها تصدم بما حبلت به من مفاجآت غير منتظرة, إذا فتحت مزلاج قصصه منحت بسخاء آثاراً معرفية ووعياً اجتماعياً ينسيك مكانك ويمنحك لذّة قراءة لا متناهية، فتحسبه عاش وسط أبطاله، وانصهر في تفاصيل حياتهم، وقاسمهم الأسى دفعات، فتقرأها وتعود ثانية كمن يتفقد عبق الحبق بعد يباسه. أما لغته وعاء إبداعه جعلها ترتبط بالفكرة وبالإيحاء والإشارة لا بالوصف، ضمنها كل آليات القص المتين والحرف العتيد، رؤى وجماليات متعددة الأبعاد ودلالات مذهلة آسرة..
و في غمرة سكرات الألم رسم أبواب عدة تفضي للأمل العريض. هنا نستحضر قولة زكي مبارك المأثورة:
(إن الحياة هي كتاب الأديب، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة، وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود.).

مجيدة السباعي
المغرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى