سلوى ادريسي والي - أعطني حريتي..

لأول مرة اركب الحافلة بمفردي ، في السنين الماضية كنت اركبها مع طفلَي وزوجي، أجلس الصغير على ركبتي ، وأمسك بيدي طرف ملابس الآخر ، كي لا يختفي في ذلك الزحام ، وزوجي كعادته في آخر الحافلة يراقبنا بحذر ، فغالبا تقوم شجارات بين الركاب على المقاعد ، او التدافع..
لكنني اليوم واقفة بجانب السائق ،كأنني خائفة من أن أتوه،أسأله كل لحظة : هل اقتربنا من المحكمة؟
يجيب : ليس بعد ؟ قلت لك سأعلمك عندما نقترب..
قالها بتأفف..
الركاب خلفي يهمسون بوشوشات مزعجة، الكلمات غير واضحة ، لكنني فككت طلاسمها من خلال ما أعتقده ، كلهم وبدون استثناء حتى السائق يتساءل ، لماذا هي ذاهبة الى المحكمة ،وأين اولادها وزوجها..؟!
تنهدت تنهيدة عميقة ،أترت على دقات قلبي،فأحسست بوخز مؤلم،
آااااه أيتها الأيام ..
كم كنت ضبابية
أجبتهم جميعهم على تساؤلاتهم ،كل واحد منهم أعطيته تفسيرا معينا لما حدث،بدأت بالشاب الواقف في آخر الحافلة ،أخبرته أن الحب لا يكفي لنستمر،ثم لمست كتف العجوز الجالسة في الكرسي الأخير :" لم استطع ! كنت أختنق يوما بعد يوم ، الأكسجين نفد من أعماقي"
كل شخص أعطيته فرصته في لومي ،وأنا التي لم أغادر مكاني أمام السائق ، التفكير سيقتلني لا محالة..
كيف أهتم لتلك الوشوشات ، وقلبي سينفجر من الضجيج..
توقفت الحافلة أمام المحكمة ،وأنا انزل من الدرج ،مررت نظري على أولئك الذي حدثتهم في خيالي، كانت ملامحهم بائسة ، كأنهم يغسلون وجوههم بالأتربة، حتى السيدات اللواتي يضعن مساحيق التجميل ، لم يقدرن على تغطية ذلك اللون الباهت لوجوههن..
نزلت وكلي حسرة على ذلك الوقت الذي ضيعته في تبرير ذهابي للمحكمة ..
كان ينتظرني هناك ! نعم كعادته يراقب بحذر ،لكن هذه المرة بحذر واستنكار..
هذه هي جلستنا الأولى من أجل الطلاق، كنت أتظاهر باللامبالاة ،لكن يدي المتجمدتان ستفضحانني، فقررت عدم مد يدي للسلام ، فهو يعرفني جيدا ، وليفهم تصرفي كما يحلو له ،الأهم عندي هو الا يلحظ توتري..
سألني عن الأولاد ..
أجبت : بخير ،يسألون عنك
قال: سأزورهم بعد الجلسة ..
أجبت : مرحبا بك
لماذا لم تكن أحاديثنا مثل الآن مختصرة، مقتضبة، مفهومة..
لماذا كانت أحاديثنا طويلة جدا حد الملل ؟
هل كثرة الجدالات كانت سببا في النفور الذي حصل بيننا..
الأسئلة الآن لن تجدي نفعا، فالذي انكسر لن يعود كما كان..
سألني القاضي : هل هناك أمل في الرجوع عن هذا القرار،
أجبت بلا تردد: لا
سأله نفس السؤال: أجاب أيضا بتلك" لا"
لكنني أظن أن" اللا " التي قلتها كانت مليئة بالمشاعر ، لكنه كعادته لفظ تلك" اللا" بقلب بارد
سهلة هي الحروف بين شفتيه ،يلقيها كما يلقي العلكة من فمه عندما ينتهي مذاقها الحلو..
هي نفس الكلمة ،بنفس مخارج الحروف ،بنفس الهواء المستعمل للفظها..
لكن شتان ما بين لفظ يحترق قائله، وبين لفظ جامد
بدأ القاضي يدون ما نقوله في دفتر كبير ، كنت أسمع فقط ما يقوله هو ، كأنه يتحدث عن شخص لا أعرفه ، لم أجد الكلمات المناسبة للرد عليه ،اكتفيت بقول "أنا " بين كل اتهام يوجهه لي ،" أنا"، أنا"
في لحظة ما لم أعد أعرفني ، تبددت شخصيتي وتحللت ،كأي جثة عفنة..
كانت معظم اتهاماته تصب في كوني متمردة و لا أطيعه ..
لو يعلم تلك المشاعر التي كان يجعلني أشعر بها ،كلما رفض أمرا يخصني لأنه لا يحبه..
كان علي أن أحمل حزاما ناسفا وأطوق به جسدي ،بدل الخضوع لرغباته التافهة..
يالك من رجل شرقي متعجرف!
أسكته القاضي ليعطيني الكلمة ،وإلا لما سكت ..
كأن التي أمامه مسخ ،أو شيطان مهما لعنه لن يكون كافيا ..
قلت للقاضي : أريد حريتي ! وسكت..
ظن القاضي أنني سأسترسل في حديثي ،وأنعته بأبشع الصفات ،كان ينتظر ردة فعل أكبر وأشرس..
فهمتها عندما قال لي : ألن تقولي شيئا آخر..؟!
قلت كل ما أريده عندما كان يجمعنا سقف بيت واحد، أما الآن فلا أعرف شيئا عن هذا الماثل أمامي، سوى انه يملك مفتاح باب حريتي..
أرجو أن تعطيني إياه اليوم قبل الغد ...
لأن الحرية شيء ثمين ،لا أريد العيش دونها ولو ليوم آخر..
أعرف ردة فعله جيدا لمثل هذا الكلام ، لكن وجود القاضي جعله يضبط أعصابه ، لهذه اللحظة مازال يثبث أنه لا يملك شيئا سوى الغضب..
وقعت تلك الورقة ، كانت يداي ترتجفان، شعرت بقشعريرة خفيفة تجتاح جسدي، قاومتها بصعوبة ، ثم استسلمت لعبراتي..
لم أكن أبكي لندم أو لحسرة ..
كنت أبكي بكاء الوليد عندما يخرج أول مرة للحياة، تداعبه ذرات الهواء الباردة والمختلفة.
أنا الآن لا أعلم شيئا عن هذه الحياة التي تنتظرني، لكنني أشعر أنني حرة، وهذا كفيل لجعلي أتعلم الإبتسام، الخطى، والسعي..




سلوى ادريسي والي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى