د. زياد العوف - فنُّ السيرة الذاتيّة عند أحمد أمين *

كنتُ قد تناولتُ بالعرض والتحليل بعض الأعمال الأدبية والفكريّة للأديب والمفكّر والمؤرّخ الراحل أحمد أمين، الأمر الذي سمح لي، في حينه، بتلمّس أبرز الخصائص الأدبيّة والفكريّة لنِتاجِهِ كما تجلّت في بعض المقتطفات المختارة من الإرث الثقافيّ والفكريّ الغنيّ الذي خلّفه هذا الرائد التنويريّ الكبير؛ فكان بحقّ قدوة ومنارة للأجيال الطّامحة إلى التّقدّم والعلم والمعرفة .
وقد بدا لي أنّه من المفيد- استكمالاً لما سبق وتوضيحاً له- أن نُفْسِحَ المجال للكاتب ذاته ليحدّثنا عن مسيرته الحافلة بالجهد والعطاء وذلك من خلال سيرة حياته كما يرويها في كتابه" حياتي" ** .
يندرج الكتاب، ابتداءً، في فنِّ "السيرة الذاتيّة" وهي فرع، أوحالة خاصّة من "الترجمة الشخصيّة"؛ حيث يقوم صاحب السيرة باستعراض مايراه مناسباً، من سيرة حياته مع التركيز على أحداث وتجارب وخبرات بعينها، دون سواها ، لما تمثّله من أهمية خاصّة في نظره، بهدف تقصّي النتائج والعِبَر التي يعتقد الكاتب أنّها تحمل من الفائدة ما يجعلها جديرةً بالذيوع والانتشار لدى القرّاء.وينبغي التنبيه هنا إلى أنّ " الترجمة الشخصية" قد اكتسبتْ صفة الفنّ الأدبيّ باستقلالها، منذ أمد ليس بالبعيد، عن" علم التاريخ"وذلك بما يبثّه الأديب فيها من شُحنات عاطفيّة، فضلاً عن القِيم الفنّيّة التي ينطوي عليها التعبير الأدبيّ. والأمر نفسه ينطبق، بالتأكيد، على" السيرة الذاتية" مع توخّي العبارات الموحية ذات الألفاظ المشعّة والدلالة القوية.
لا يتردّد المؤلِّف في الإشارة، منذ الصفَحَات الأولى للكتاب، إلى الصعوبة الخاصّة التي يجدها في تدوين هذه السيرة، فيقول:
" ولمْ أتهيَّب شيئاً من تأليفٍ ما تهيّبتُ من إخراج هذا الكتاب؛ فإنّ كلّ ما أخرجته كان غيري المعروضُ وأنا العارضُ، أو غيري الموصوفُ وأنا الواصفُ، وأمّا هذا الكتاب فأنا العارضُ والمعروضُ والواصفُ والموصوفُ، والعينُ لا ترى نفسها إلا بمرآة.......والنفسُ لاترى نفسها إلا من قول عدوٍّ أو صديق....ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إنّ النفس إمّا أنْ تغلوَ في تقدير ذاتها......وإمّا أنْ تغمِطَها حقّها.
ثُمَّ إنّ للنفس أعماقاً كأعماق البحار، وغموضاً كغموض الليل. كلّ هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعبَ المنال، وفهمها أقربَ إلى المُحال."(ص.٧)
فكيف واجه أحمد أمين إذاً كلّ هذه العقبات، وكيف تسنّى له تذليلها؟
يقول في ذلك:
" ولكنْ على المرء أنْ يبذلَ جهده في تعرُّفِ الحقِّ وتحرّي الصدق.....على ذلك وضعتُ هذا الكتاب، ولمْ أذكرْ فيه كلَّ الحقِّ، ولكنّي لمْ أذكرْ فيه إلّا الحقَّ."(ص.٩).
لكنْ ماهي الغاية التي ابتغاها الكاتب من هذا الكتاب؟ وفيه ما فيه من المنزلقات والصعوبات، الجواب هو التالي:
"فلماذا-إذاً- لا أؤرّخ " حياتي" لعلّها تصوِّر جانباً من جوانب جيلنا، وتصفُ نمَطاً مِن أنماط حياتنا. ولعلّها تفيدُ اليوم قارئاً، وتعين غداً مؤرِّخاً."(ص.٩).
تحري الصدقّ والحقيقة، وتركُ وثيقةٍ نافعة للقارئ والمؤرِّخ تصف جانباً من حال الكاتب وعصره ومعاصريه، تلكم- إذاً- أهمّ ملامح السيرة الذاتية التي عَمِل عليها أحمد أمين في السنين القليلة الأخيرة من حياته؛ حيث صدرتْ طبعتها الأولى عامَ( ١٩٥٠م) في حين وافاه الأجل المحتوم عام(١٩٥٤م).
حقّاً لقد استعرض المؤلِّف بصدق وتجرّد وتواضع وموضوعية نادرة المثال، على مدى سبعة وثلاثين فصلاً، محطاتٍ كثيرةً في مسيرة حياته الحافلة، بدءاً من ولادته في القاهرة سنةَ(١٨٨٦م)،إذ يقول:
"وهكذا ألاعيب القدر، ظلمُ صرّاف البلدة أخرج أبي من( سمخراط) وأسكنه القاهرة حيث ولِدتُ وتعلّمتُ، ولولا ذلك لنشأتُ فلاحاً من الفلاحين أزرعُ وأقلعُ، ولكن تتوالد الأحداث توالداً عجيباً، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شرٍّ.....ولا تستبينُ الأمورُ حتى يتمّ هذا التّوالد على مسرح الكون." (ص.١٦) وانتهاءً بالمرض الذي ألمّ به في أخريات حياته(١٩٥٠م)، الأمر الذي ألزمه الفراش لبضعة أشهر، فقال في ذلك:
"...وعلى كلّ فقد استفدتُ من هذا المرض تجاربَ كثيرة، إذ علمتُ أنّ حركة اليد والرجل عبارة عن عملية ميكانيكية مركّبة لا يمكنُ أن تحسُنَ إلا بسلامة أعضاء كثيرة."(ص.٢٣٤)
لن أسترسلَ، بطبيعة الحال، في سردِ ما وردَ في الكتاب؛ فذلك محفوظ بين دفتيه ويستطيع القارئ الكريم العودة إليه لمتابعة حياة هذا الرائد الفذّ بالتفصيل، لكنّ ما يعنيني هنا إنما هو الوقوف على بعض الخصائص الفنية لهذه السيرة الأدبية كما بدتْ لي أثناء مطالعتها، مع ذكر بعض الأمثلة الدّالة في هذا المجال.
الملاحظة الأولى التي وردت في ذهني هنا تتمثّل في الاهتمام الكبير الذي يوليه الكاتب للتأمّل والاستبطان النفسي الداخلي بحثاً عن الأسباب والمسبّبات الكامنة خلف الوقائع والأحداث.
نقرأ في السيرة:
"ما أنا إلّا نتيجةٌ حتميّةٌ لكلّ ما مرَّ عليَّ وعلى آبائي من أحداث؛ فالمادةُ لا تنعدِم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنّها تتحلّل في تراب الأرض فتغذّي النبات والأشجار.....وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبداً وتعمل أبداً، فكلّ ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته.....يستقرّ في قرارة نفسه ويسكن في أعماق حسّه........وكلّ إنسان إلى حدٍّ كبير نتيجةٌ لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطتْ به."(ص.ص.١٣-١٤).
الوراثة والبيئة المحيطة بالفرد هي، إذاً،المسؤولة عن تكوين وسلوك الإنسان عبر مراحل حياته المختلفة.
الملاحظة الثانية التي لمستها في هذه السيرة تتجلّى في غلَبَة الأسلوب الإخباريّ التقريري عليها، وهذا ما يجعلها أقرب إلى المذكّرات منها إلى السيرة التي تمتاز عادة بتصوير الأحاسيس ،وشحن الأحداث بالعواطف بأسلوب قصصيّ مشوّق.
جاء في الفصل الأخير من الكتاب:
" هذه أهمّ الأحداث التي مرّتْ عليَّ من صباي إلى شيخوختي فأثّرتْ فيَّ تأثيراً دائباً متواصلاً حتّى صيّرتني كما أنا اليوم .(ص.٢٢٥)
بل إنّ أحمد أمين يعود إلى مقال كان قد كتبه في أحد الأصدقاء ليبيّن للقارئ أهم ما يتحلّى به،هو نفسُهُ، من شمائل وصفات، وهذا ما يؤكّد الطابع الإخباري التقريريّ لهذه السيرة. جاء في الكتاب:
" لقد كتبتُ مرّة مقالاً في وصف صديق، وكنتُ أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيتُ به شخصي، وقد جاء فيه: لي صديقٌ قد اصطلحتْ عليه الأضدادُ وائتلفتْ فيه المتناقضاتُ، سواء في ذلك خُلُقه وعلمه.حييٌّ خجول يغشى المجالس فيتعثّرُ في مشيته ويضطرب في حركته.........ثمّ هو مع هذا جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يَهاب، ويتكلّم في مسألة علميّة فلا ينضب ماؤه ولا يندى جبينه.........وهو طموح قنوع، نابهٌ خامل......وأغرب ما فيه أنّه متكبّرٌ يتجاوز قدره....، ومتواضع يخفض جناحه.......يحبُّ الناس جملةً ويكرههم جملةً، يدعوه الحبُ أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أنْ يفرَّ منهم...حار في أمره ...... فاستهان بهم في غير احتقار.......يتلاقى فيه مذهبُ السُّنة بمذهب النشوء والارتقاء، ومذهبُ الجبر بمذهب الاختيار."(ص.ص٢٢٥-٢٢٦)
ثمّ يستطردُ في وصف نفسه، فنلمسُ المصارحة وصدق الحديث والتواضع الجمَّ، الذي يمثّل ركناً أساسيّاً في المزاج النفسي والسلوك العمليّ لهذا الأديب المفكِّر، يقول:
" لستُ كثير الثّقة بنفسي، ولا بما يصدر عنّي........وهذا عيب لم أدرِ كيف نشأ، فخير للإنسان أنْ يثق بنفسه من غير غلوٍّ ويقدّرُ إنتاجه على حقيقته من غير إفراطٍ أو تفريط." (ص.٢٢٨)
على أنّ نزعة الكاتب الفلسفيّة يمكن أن توضّح، إلى حدّ ما، ميله إلى السرد الإخباري التقريري .يقول في ذلك:
"مزاجي فلسفيٌّ أكثر منه أدبيّاً، حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزُرَ معناهُ ودقَّ مرماه."(ص.٢٣٠)
يختتم أحمد أمين كتابه" حياتي" بعبارات هادئة بسيطة توحي بالقناعة والرضا والاطمئنان إلى ماحقّقه خلال مسيرة حياته الحافلة بالعطاء.
نقرأ في الكتاب:
"....ومع هذا فإنّي أحمد الله إذ منّ عليّ بالتوفيق في أكثر ما زاولتُ من أعمال.....فكم رأيتُ من أُناسٍ كانوا أذكى منّي وأمتن خلقاً وأقوى عزيمةً، وكانت كلّ الدلائل تدلّ على أنّهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثُمَّ باؤوا بالخيبة ومُنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلّا أنَّ" ذلك فضلُ الله يؤتيه مَنْ يشاء، واللهُ ذو الفضل العظيم." (ص.ص٢٣٢-٢٣٣)
بهذه السطور التي تنضحُ بالتواضع والسكينة وراحة الضمير والرضا المشبَع بالإيمان يغلقُ المؤلِّفُ كتابَه الصادقَ هذا .
أخيراً..أرجو أن يمثّل هذا المقال حافزاً للقرّاء الكرام،ليس فقط لمطالعة هذه السيرة الغنيّة،بل للاطّلاع على الأعمال الأدبية والفكريّة القيّمة الأخرى التي خطّها قلم هذا الكاتب الكبير.
*-دكتور زياد العوف، أعلام الأدب العربيّ الحديث-قراءة جديدة- مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٠م، ص.ص٨٧-٩٣ .
**-أحمد أمين، حياتي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة،القاهرة،٢٠١١م.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى