محمد محمود غدية - ثقوب فى الذاكرة

أيامه المشحونة معها بردت وتقلصت واستكانت فى ذاوية من نفسه، بعد رحيلها المفاجيء، دون مقدمات لمرض، ربما لتعود فى صورة أخرى، أفضل من التى تحياها، تعرفها الأزهار والأشجار، أضنتها الحياة المرهقة، دونها الحياة موحشة، كان الصباح باردا، أشبه بلوحة رمادية ضبابية، ضاربة إلى صفرة تحجب المنازل، فى التلفاز وجه رجل مايزال محافظا على نضارته، يبدوا أصغر كثيرا من سنه، ربما كان صنيعة الذكاء الصناعي،
يشرد فى ليل العالم الواسع، يشرب وحدته مع قهوة الصباح، مثل الآخرين يحب الأشياء البعيدة، كى يعيش نشوة الركض والتعب،
بهيرة هانم أرملة تعيش الوحدة مثله، يحمل وجهها بقايا جمال، ووجه بيضاوي كوجوه القديسات، وفيض من الآسى ورقة الشعور،
صديق عمره أشار عليه بها، كثيرا مايلتقيان فى المول القريب، ولأنهما جيران، تبادره باابتسامة وايماءة برأسها ويرد بمثلها، لقد ضبط الوقت الذى يراها فيه، إنه يستحق الفرح طالما مازال يحيا، هكذا ردد لنفسه، واختمرت لديه فكرة صديقه للزواج منها، لديها مثله أبناء تفرقوا سعيا للرزق فى بلاد بعيدة، تنهشها الوحدة تعيش على موارد روحها النضرة الطيبة، فقط كيف تواتيه الجرأة على مفاتحتها ولم يسبق له الكلام معها، فقط يشجعه مايلمسه من قبول فى إبتسامتها كلما التقيا، الشيب زحف برأسه وهو يتأمل نفسه أمام المرآة، مرددا من بين إبتسامته الواسعة : لقد أقمر ليلي،
فى الغد يستوفي سن المعاش، ليكتمل لديه مربع الفقد والوحدة والعتمة والمعاش،
فى رسالة كتبها بدأها من أنه قادم من ليل طويل معتم، دون صباح، وهو يدعوها لمشاركته فنجان قهوة فى الثامنة من مساء الغد فى الكافيه القريب منهم، يتباحثا فى أمر زواجهما، مؤكدا أن أجمل الكلام هو الكلام الذى لا نحتاج إلى أن نفهمه، بل أن نشعر به، لقد راقت له وأحبها والحب وحده يعيد فلترة الروح، سيعطيها الرسالة اليوم، ليلتقيها فى مساء الثامنة غدا، إختار ربطة عنق حمراء تليق بروعة اللقاء، كم بدا أنيقا وجميلا وهو غارق فى العطر الذى يضوع منه، لابد أنها الأخرى تنتقي أزهى وأجمل فسانتيها لهذه المناسبة الفريدة، الساعات تمضي وتتثائب وتبتلع بعضها البعض ولا تأتي، يجرجر ساقيه هربا متخاذلا، ويتعثر فى الطاولة ويسقط، كأن أحدهم يلكمه ويوسعه ضربا، ليرتمي بعدها على الفراش، ويفاجيء برسالته لها لم تغادر مكتبه .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى