في الخامس و العشرين من شهر رمضان المعظّم و قبل غروب الشّمس بزهاء نصف ساعة تقريبا ، حمل جمال إلى جاره مهنّي كالعادة عشاءه و سحوره في سلّة رصّفتها زوجته خديجة بأشهى طعام و ألذّ غلال . و ما إن طرق باب منزله طرقا متواترا حتّى اكتشف أنّه لا حياة لمن تنادي فلأوّل مرّة لا يكون لطرقه صدى عند أهل البيت .
آنذاك توجّس خيفــــــــة و ساورتــــه الهواجــس و الوساوس و ذهبت به كلّ مذهـــــب : « أيكون مهنّي يعاني من مرض شديد أخرس لسانـــــــه و أعجزه عن الحركة ؟ هل استضافه أحد الجيران أو أحد الأقارب في هذا الشّهر الفضيل ؟ لو كان الأمر كذلك لأخبره بهذه الضّيافة حتّى يطمئنّ عليه و يطمئنّ هو على ممتلكاته الضّئيلة من النهب و الاختلاس . هل فرّ من منزله هروبا من العزلة الّتي أرّقته و أرهقته و أجّجت لهيب كآبته و خموله و تعاسته ؟ ».
عجّل جمال بخلع الباب و اقتحام المنزل و هو متعطّش لمعرفة الحقيقة ففوجئ بغياب مهنّي فالبيت مقفر لا أحد فيه سوى حيّة رقطاء لها فحيح مزعج تلاحق في سرعة مذهلة فئرانا سمينة تطفر هنا و هنالك محاولة النّجاة . انتهى هذا المشهد المرعب بانقضاض هذه الحيّة الجائعة على أحد الفئران و ابتلاعه كاملا ثمّ زحفها نحو جحر دامس داخل الجدار . أمّا جمال فلا تسل عن حاله و عمّا أصابه حينئذ من الوجــــــل و الحيرة . لقد تسمّر في مكانه مرتجف الأوصال ، معقول اللسان ، مصتكّ الأسنان ، زائغ البصر ، قلبه يكاد يطير و ذهنه هائم ، شارد ، تحوم فيه هواجس مملّـــة من ورائها شيطان رجيم .
لم تستغرق حيرة جمال وقتا طويلا فها هو يهتدى إلى رسالة فوق منضدة مستديرة قرب سرير مهنّي فيفضّها بفروغ صبر في طرفة عين و يقرؤها في لهفة و هو يلتفت يمنة و يسرة .
بسم الله الرّحمان الرحيم
إلى جاري الفاضل جمال
تحيّة عطرة تستمدّ أريجها من طيّبات شهر الصّيام .
أمّا بعد أحيطك علما أنّني قد سافرت فجر هذا اليوم على متن سيّارة أجرة إلى تونس العاصمة كي أعالج نفسي في مستشفى الرّازي للأمراض العقليّة .
أيّها الصّديق العزيز أأتمنك طيلة غيابي على أملاكــــــي و ألتمس منــــك الاعتناء بدجاجاتـــي و معزاتي فأنا واثق من صدقك و رفقك بالحيوان . لا تنس أن تحفظ من التّلف دفترا قيّما تعثر عليه فوق صندوق والدتي قرب مجموعة من الجرائد و المجلّات . بإمكانك أن تطلّع على ما حبّرته من ذكريات كانت في البداية سرّا أمّا الآن و دون أيّ حرج أريد أن يعرفها القاصــــي و الدّاني في مختلـــف أصقاع الأرض عساه يستلهم منها عبرا ومواعظ تنير دربه .
في أحدى المساكن التقليديّة المطليّة بالكلس ، قطن مهنّي « أَشْكَوْ » رفقة والدته زبيدة . كان مهنّي كهلا في حوالي الأربعين ، نحيفا ، قصيرا ، ذا وجه ذميم و لحية قصيـــرة و شعر شائب مجعّد كشعر
زنجيّ ، منفوش في غير نظام غطّت أعلاه شاشيّة قرمزيّة قد نصل لونــــــــــها و داهمتها الفتوق من كلّ جانب . هو رجل متهاون ، أحمق ، أبله لا يعرف ما يخرج من أمّ رأسه و لا يبذل أيّ مجهود لكسب المال من كدّ يمينه و عرق جبينه بل تستهويه اللّقمة السّائغة الّتي لا تتطلّب أيّ مجهود و أيّ سعي.
أمّا زبيدة فعجوز في السّتين ، مديدة القامة ، مكتنزة الجسم ، خرقاء الهيئة ، صافية العقل ، تلوح على محيّاها في بعض الأحيان رسوم كآبة هوجاء . أثناء السّمر كانت دوما تسرد على وحيدها حكايات طريفة فيتملّكه سرور لم تعهد القلوب ألذّ منـــــــه و يطفح وجهها القمحيّ بشرا و يمتلئ بأخاديد عميقة كأنّها أتلام خلّفتها سكّة المحراث في أرض جرداء .
إنّها تجدّ و تكدّ من الصّبح المسفر إلى غروب الشمس فهي تنفق ما تملك من نشـــــــــــــــــاط و حيويّة في القيام بشؤون منزلها و العناية بحديقتها و إطعام دجاجاتها و رعي معزاتها الحلوب إن وجدت متّسعا من الوقت للقيام بذلك و لم تنشغل عصرا بالحديث داخل السّقيفة مع جارات مهذارات لا يمللن من السّخرية و القهقهة و هتك أعراض النّاس .
كانت راضية بهذه الحياة باسمة لها بالرّغم من شيء من الأسى كان يستقرّ في مهجتها و لا يفصح عنه لسانها و لا تترجمه ملامحها أثناء الاغبرار و الاكفهرار. كانت تفكّر دون مجال للظّنّ في بؤسها و ابنها المدلّل الّذي كان عالة عليها فهو لم يشتغل و لو يوما واحدا طيلة حياته فمتى ستراه عائدا إليها بقفّة ملآى بالخيرات السّبعة ؟ متى ستراه عريسا يتبختر في جبّة فضفاضة ، ناصعة البياض و حذوه عروس آية في الحسن و الجمال كأنّ البدر صورتها ؟
على السّاعة الواحدة بعد الزّوال في منتصف شهر جوان ، جلس مهنّي القرفصاء على حصير بـــال ، رثّ بسطه بعناية فائقة فوق دكّة وطيئة ، ظليلة ، قائمة وسط الحوش . عبّأ نفسا أخيرا من سيجارته و سحق عاقبها في المنفضة بعد أن نفث بواسطة أنفه الأفطس دخانا رماديّا ، كثيفا تصاعد في الفضاء متّخذا شكلا لولبيا له دوائر تكبر حينا و تصغر حينا آخر .
انبرى يفكّر في أمر صندوق عتيق من خشب الأبنوس ، طلاؤه أخضر داكن ، به صفائح ذهبّية اللون على شكل أهلّـة و نجوم و قباب ثُبّتت تثبيتا محكما بمسامير برّاقة مسطّحة لها نفس اللون . ممّا يدعو للشّكّ أنّ هذا الصندوق الجميل دوما مقفل و أنّ أمّه تحتفظ بمفتاحه في خيط أحمر لا يفارق جيدها آناء اللّيل و أطراف النّهار. إنّه يذكّرها بأيّام زفافها حينما تزوّجت من ابن خالها و هي فتاة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها . هي في هذا السّنّ مؤهّلة للمرح مع أترابها و التّزوّد بالعلوم الصحيحة و المعارف في المدارس الّتي تعدّ على الأصابع في جزيرة الأحلام جربة إبّان الاحتلال الفرنسيّ الغاشم لبلادنا . الحياة الزّوجية في هذا العمر تافهة لا تعني لها شيئا حتّـــــى و إن كانت تقضّي اللّيالي الملاح على فراش وثير مع زوج لطيف ، متفنّــــــن في المداعبـــــــة و الملاعبة ، بارع في ممارسة الجنس .
تراكم في ذهن مهنّي سيل جارف من الأسئلة فاختلج جفناه و انفرجت شفتاه في عصبيّة :
« لماذا لا تترك أمّي الصندوق مفتوحا ؟ لم لا تفتحه إلاّ عند التّأكّد من غيابي ؟ ما الدّاعي لتعليق مفتاحه برقبتها و دسّه عند النوم في خبنتها ؟ يا ترى ماذا تخفي داخله ؟ هل فيه مصوغ ذهبـــيّ و جواهر نفيســـــة و رســـــــــوم عقـــــــــارات لا تخطر على بال ؟ » . مازال يرنّ في أذنيه قول جارة ثرثارة تعرف كلّ أسرارها : « أمّك تلك البخيلة تخبّئ في صندوقها ما يكسو عروســـــــا من الحليّ و الديباج : ضفائر محبوب ، قلائد مرصّعة بالياقوت و المرجان ، خواتم براقة ، أساور ، خلخال ذو رطلين ، فساتين منسوجة من الحرير الأصيل...»
حادث مهنّي نفسه حديثا متّسما بالجرأة والتحدّي « إنّ في الأمر سرّا و خفايا لا يعلمها إلاّ الله. كيف تبقى على هذه الحال تتململ في قلق كأنّك جالس على الجمر ؟ أيرضيك يا مهنّــــــــــــي لوك البؤس و اجتراره و صندوق العجائب و الغرائب يعجّ بالكنوز ففيه ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب
بشـر ؟ اسع لفكّ هذه الطّلاسم الّتي تشغل فكرك و تنغّص راحة بالــــك و تؤجّج سعير كآبتك».
انتفض مهنّي كالمجنون و طاف في أرجاء الحقول غير عابئ بالحرّ الّذي يلفح وجهـــــــــــه و بالرمال الملتهبة الّتي تصهد قدميه الحافيتين . كان يزحزح الصّخور الكلسيّة المنتصبة هنـا و هناك بأشقّ الأنفـــس و ينفث ريقه في العقارب الّتي توجد تحتها ثمّ يلتقطها بأنامله في خفّـــة و رشاقة دون أن تؤذيه بلسعاتــــها لأنّه من أبناء سيدي محمّد بن عيسى قدّس الله سرّه و برّد ثراه . ها هو يودعها في علبة تنّ فارغة عثر عليها في المزابل و يعدّها في ابتهاج و حبور عدّا متأنّيا ، متمهّلا دون أن تفلت من قبضته : « واحدة ، اثنتان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستّــــة » ثمّ يقفل عائدا إلى بيته في خطوات عجلى و هو مصرّ على إخفائها تحت جفنة من الفخّار في مكان أمين يتعذّر على أمّه الاهتداء إليه .
و في الهزيع الأخير من الليل و بعد التّأكّد من غطّ أمّه في سبات عميق كشف الغطاء عن العلبة المكتنزة بالعقارب و دسّها تحت وسادتها في حذر ثمّ اندسّ كالحيّة الرّقطاء داخل لحاف رهيف أبيض ينابع نهاية أمّه لحظة بلحظــة دون إشفاق و مودّة . كان في ذروة الارتبــــــــــاك ممتقع الوجه، جافّ الرّيق ، منحبس الأنفاس ، تسارعت نبضات قلبه و سرت في كامل جسده قشعريرة متموّجة شبيهة بتلك القشعريرة الّتي تصيب المحموم .
أدّت العقارب المهمّة المناطة بعهدتها أحسن أداء فعاثت في بدن المسكينة لسعا موجعا طال كلّ أنحاء جسدها من قمّة الرّأس إلى أخمص القدمين . و ما هي إلاّ برهة قصيرة حتّى نهضت الأمّ من فراشها و هي لا تقدر على النّهوض مفجوعة ، مقطّبة الجبين ، متجهّمة السّحنة ، شعرها عــــــــار و منتصب كمسلاّت قنفــــــــــد و عيناها تذرفان دمعا سخينا ساخنا كأنّه الجمر .
و في إقدام منعدم النّظير ، أقدمت على سحق العقارب ببلغتها المتهرّئة ثمّ ارتمت على فراشها الحقير و هي تئنّ و تتلوّى و ترتعد . حدجت ابنها مــن طرف خفيّ بنظرات منكسـرة ، ناضحة بالتّأنيب و كلّمته بصوت ناعس خافت و هي تسبح في شلّال من العرق :
- « عليك اللّعنة أيّها الشّيطان الرّجيم ... أنت منبوذ إلى اليوم الّذي يرث فيه الله الأرض و من عليها ... شكرا جزيلا على هذه المكافأة المسمومة »
- « أنا ابنك و قرّة عينك فكما تعلمين أنّ في هذا البيت شقوقا عديدة تتسرّب منها العقارب . دعك من هذا الهراء و هيّا نتوجّه إلى المستشفى لتتلقّي الإسعافات الضّرورية الّتي تخلّصك من آفات هذه السّموم »
- « أيّها المعتوه اغرب عن وجهي لا أريد أن أراك ... اتركني أصارع سكرات الموت بمفردي ... لا إلاه إلاّ الله محمّد رسول الله ...لا إلاه إلاّ الله محمّد رسول الله » .
تعالى تشهّدها و استغفارها و دعاؤها ثمّ سرعان ما أرسلت أنّات طويلة ، ضئيلة ، نحيلة انتهت بلفظ نفسها الأخير . واجهت المسكينة الموت بقلب مكلوم ينزف دما دون أن يختلّ إيمانها بالله أو تستنجد بقطرات ماء لتبليل حلقها إبّان الحشرجة . إنّها لم تتصوّر أنّ ابنها سيكيد لها هذه المكيدة الشيطانيّـة و هي في أرذل العمر تبذل قصار جهدها و تحني ظهرها في سبيل إسعــــاده و تحمّل كسله و غبائه .
التهم القطّ « ميمي » ذو العينين الخضراوين و الأنف القرنفليّ كلّ العقارب و دنا من جسم سيّدته الهامد و طفق يموء مواء موحشا مزّق أوتار الصّمت الرّهيب المخيّم على الغرفة فكأنّ هذا الحيوان الأليف ملتاع عرف أنّها فارقته إلى الأبد بدون رجعة فمن سيطعمه بسخاء بعدها و من سيدثّره بغطاء صوفيّ إذا اشتدّ البرد و من سيلاعبه إذا أحسّ بالضّجر فمهنّي فظّ غليظ القلب لا يحفل به و لا يوليه أيّ اهتمام ؟
في لمح البصر ألقى مهنّي العلبة الفارغة في غيابات جبّ مهجور و سحب المفتاح من رقبة والدته ثمّ فتح الصندوق و هو يمنّي النفس بكنز عظيم .
على حين غرّة ، اعتراه ذهول شديد لم يعرف مثيلا له فجمد في مكانه كجلمود صخر و هو فاغر الفم ، شاخص العينين ، ضبابيّ الرّؤية . فرك عينيه فركا خفيفا غير مصدّق ما كانت تقع عليه عينـــــــاه و تقلّبه يداه رأسا على عقب : جبّة بيضاء أكل عليها الدّهر و شرب ، عمامة صفراء ، سراويل فضاضة ، حرام أحمر ، فوطة بسكريّ، لبان ، قنينة عطر ، خواتم و أساور من لجين ، مصحف قرآن كريم مخطوط باليد ، صور لأبيه بالأسود و الأبيض ... ما أشدّ وقع النّدم على نفسه ! ما أحمق جريه وراء السّراب !
عضّ مهنّي على يديه و لطم خدّيه بكفّيه و نتف شعره و شقّ أطماره ندما على جريمته النّكــــراء و ندب حظّه العاثر ثمّ انحنى على أمّه فلثم جبينها المتفصّد عرقا و أغمض عينيها الجاحظتيــــــن و سجاها بغطاء أبيض .
انكفأ مهنّي على وجهه في زاوية شبه مظلمة ذاهلا ، مطرق الرّأس ، كئيبًا ، كاسف َ البال ، مظلم َ النفس ، معقود اللسان لا يصدّق ما اقترفت يداه في حقّ والدته . كان يريد أن يبكي فلا يجد الدّمــــوع و يريد أن يتكلّم فلا يجد الألفاظ و إنّما يتردّد في حلقه صوت خفيّ مجلجل هو صوت الحقّ « يا لخيبة مسعاك ! طوّعت لك نفسك قتل أمّك فقتلتها فستصبح من الخاسرين . نفذ الطّمع إلى نفسك فأصبح ضميرك فحمة قاتمة ليس لها حظّ من صفـــاء و نفذت عسعسة الليل إلى قلبك فغدا قاسيا ، خاليا من المشاعر النّبيلة الّتي تضبط إيقاعه و تغرس فيه برّ الوالدين . أنت وحش كاسر تنكّرت لأدميتــــــــــــك و تجرّدت من كلّ القيم الإنسانيّة فبطشت بأمّ حملتك في بطنها تسعة أشهــــــــــــــر و غذّتك بلبنــها و حرستك بحنوّها و أدفأتها بحرارة قلبها و تجشّمت مشاقّ الحياة في سبيل توفير لقمة العيش لك و هي تتطلّع إلى يوم مشرق تراك فيه رجلا شامخا كالطّود الأشمّ . وا أسفاه على أمّك الّتي دفنت أحلامها في أعماق قلبـــــــــــــها و صنعت من عوزها غنى و قناعة و حاكت من أحزانها برد فرح كستك به فقدّمت بذلك قصّة كفاح فريدة من نوعها اختلطت فيها الدّموع بالعرق ».
ما ضرّ لو استفسرتها عن محتويات هذا الصّندوق المقفل في أدب فهي قد تبوح لك بكلّ الحقائــــــق و الأسرار فتنبسط نفسك و ينقشع ضبابها و ينجلي اكفهرارها . »
و في ضحى اليوم الموالي ، هيّئت زبيدة للدّفن و تهادى نعشها على أعناق الرّجال في اتّجاه مقبرة القرية تتبادله الأيادي و المناكب دون نفور أو فتور .
سبحان الله ما أوفى المشيّعين و المشيّعات لزبيدة ! الجارات سكبن دمعا غزيرا إلى أن احمرّت مقلاتهـــنّ و كادت تطمس . كم كنّ ملتاعات لرحيلها المباغت ! أمّا الجيران و الأقارب ساروا وراء النّعش في كمد صامتين ، مذعنين إلى قضاء الله . إنّ أعينهم لتدمع و إنّ قلوبهم لتحــــــــــزن و لكنّهم لا يقولون إلاّ ما يرضي ربّهم .
بلغ التّأثّر المشوب بالحسرة بمهنّي منتهاه حين وضعت أمّه ملفوفة في الكفن في رمس موحش . فغر فاه كأنّه يتثاءب ضجرا من هول المصيبة .و في دقائق معدودات حثا عليه الشّباب أكواما من التّراب و سوّوه بالأرض بواسطة جريدة خضراء ثمّ رشّوه بالماء رشّا خفيفا.
ما إن رحلت زبيدة إلى مثواها الأخير حتّى استقرّ حزن عميق في فؤاد ابنها فهجر الرّفــــــــاق و انطوى على نفسه فأمست حياته خواء لا بهجة فيها و لا رواء يرين عليها وحشة و ملال .
منذ ذلك اليوم الأليم ، عرف مهنّي أرقا حرمه من متعة النّوم فكان ينفق السّواد من اللّيل مذعورا ، مضطربا ، مفكّرا في أمّه و تعاسته ، لا ينام إلاّ نوما ضئيلا ، متقطّعا تهيمن عليه أحلام مزعجة لا تبعث على الاطمئنان . كان آنا يذرف دمعًا سخينًا يمسحه بكفّه وآنا يتلو المعوّذات بصوت متهدّج تخنقه العبرات لطرد عفاريت كثيرة ملأت أرجاء البيت و نواحيـــــــه و آونة يمعن النّظر في طيف أمّه البهيّ ثمّ يصغي إليه في انتباه بالغ :
- « يا بنيّ إيّاك و الطّمع فإنّه فقر الحاضر ... تقرّب إلى الله بكلّ ألوان التقرّب لعلّه يتجاوز عـــــن سيّئاتك و يغفر لك ذنوبك » .
كم من مرّة حاول التّمسّح بثوبها القشيب والتطيّب بعبيرها المنعش و مخاطبتها بصوت خافت و هو في وقدة الألم يرتعد من هول النّدم : « أيّتها الأمّ الحنون هل ستصفحين عنّي عمّا ارتكبته من ذنب حتّى يشملني الله بعفوه و رضاه و رحمته الواسعة ؟ اسمحي لي أن أطبع على جبينك الأغرّ قبلات حارّة يفوق عددها عدد النّجوم المتلألئة في السّماء و أن أهديك أفوح الورود . كم أنا الآن متعطّش إلى محيّاك المشرق و حضنك الدّافئ تعطّش المسلمين للصّلاة في بيت المقدس
سأبرّك أمّي فاقتربــي
فالدمعة تحرق أجفاني
أمّـــــاه تعالي مسرعة
كي أشعر يوماً بحنان »
لكن هيهات ، هيهات فهذا الطيف الأنيق سرعان ما يجنّح في الفضاء الأخــرس و يختفي في لجج الظّلام مخلّفا بين أضلع مهنّي المزيد من الأســـــــــى و اللّوعـــــــــــة و تأنيب الضّمير .
و مع مرور الأيّام ضَاقَتْ عَلَيْه الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ و ضاق صدره بالهموم فأحسّ بالعجـــــــــــــــــز و الإحباط . أثاث البيت مبعثر في غير نظام و مقلوب رأسا على عقب ... الملابس و الأغطية الصّوفيّة ككوم من القمامة تنتظر من يغسلها بالماء و الصّابون الأخضر ... إنّه لا يملك فلسا واحدا ينفقه على نفسه و لا يملك فتات خبز يسدّ به رمقه ... جسمه قذر قد تلبّدت عليه الأوساخ حتّى استحالت قشورا سوداء يرتع عليها الذّباب ... لا أنيس يفرّج كربته و يكسر شوكة وحدته فحتّى القطّ ميمي ذو الفرو البنيّ الناعم غادر الدّار و غاب عن الأنظار بحثا عن صاحبته زبيدة الّتي كانت تجود عليه ببقايا الطعام و المـــــــــاء الزّلال و تدثّره في فراشها اللّيّن قرب ساقيها عند اشتداد العاصفة و هدير الإعصار.
خلال النّهار كان مهنّي بروّض حزنه الأليم بالتسكّع في رحاب القربة فقد قدّر الله عليه أن يطوف بقيّة حياته بين المنازل بحجّة التسوّل و التّشكّي من مظالم الحياة .لست أدري أأنّ كنية « أَشْكَوْ» أطلقت عليه من لدن أطفال القرية لأنّه يبالغ في شكواه و نحيبه أم لأنّ عقله جامد كالشّكوة الّتي هي عبارة عن وعاء من الجلد يستعمله البدو لتبريد الماء أو اللبن .
لاحظ رجال القرية و نساؤها شدّة فقره و سهومه و كآبته فجادوا عليه بالملابس القشيبــــــــــــــــة و الأطعمة الفاخرة و أكثروا من مزاحه و جذبه إلى أحاديثهم المسليّة .
و إذا سعت الشّمس إلى مغربها و أطبق الظّلام ناشرا جلبابه الأسود على الكون سعى مهنّي إلى بيته المتواضع الحقير مطرق الرّأس ، ثقيل الخطو قد امتلأت سلّته بالأطعمة و الملابـــــــس و لاح على وجهه الشّاحب ابتهاج كئيب يترجم شيئا من الرضا.
لو رفع مهنّي رأسه إلى السّماء لأبصر فيها نجوما متلألئة تشعّ في النفس غبطة عارمــــــــــــة و قبسا وهّاجا من الأمل يدفعه إلى كسر طوق العزلة و التّشمير على ساعد الكدّ و الجدّ إذ لا بدّ أن يصون نفسه من التّيه و الضّياع و يحفظ كرامته من الذّلّ و الإهانة .
و في شهر أوت قبل حلول شهر رمضان بيوم واحد ، هيّأ له جاره جمال ماء دافئا في طنجرة من نحاس و التمس منه أن يغتسل و قد افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة :
- « يا جاري العزيز عليك أن تستحمّ الآن حتّى يصبح جسمك نظيفا و طاهرا »
- « الماء يؤذيني إذا أرقته على جسدي فهو يتسبّب لي في رعشة عنيفة و زكام حادّ »
- « دعك من هذه الأوهام و اعلم أنّ النظافة من الإيمان و الوسخ من الشيطان . ألا تشمئــــزّ من هذه الأدران و هذه الرّوائح الكريهة ؟ »
- « لن أتقزّز منها أبدا فأنا مرتاح تمام الارتياح ».
- « راحة المجنون من عقله . هيا استعذ بالله من كلّ شيطان رجيم و عجّل بالاستحمام فأنا قد أحضرت لك أيّها الأبله ملابس فاخرة لم يلبسها حتّى الأمراء ».
- « أمري لله ما دمت مصرّا على ذلك ».
ها قد استعدّ مهنّي لشهر رمضان الفضيل أجمل استعداد : تطهّر و تعطّر و ارتدى ملابس جديـــــــدة و حلق شعره و لحيته و قلّم أظافره و أدّى صلواته لأوّل مرّة في حياته .
أثناء هذا الشّهر الأغرّ ، على الرّغم من إطعام الجيران له و عطفهم عليه تضاعف حزنـــــــــــــه و تعاظم اشتياقه لأمّه فاعترته اضطرابات نفسيّة حادّة تنذر بانهيار عصبيّ وشيـك . إنّ والدته كانت خير أنيس له تبذل ما في وسعها لإبهاجه و إسعاده و كانت أيضا حريصة على إعداد أصناف من الأطعمة اللّذيذة يقبل كلاهما على التهامها في نهم مثل العجّة بالمرقاز و الملوخيّة بلحم الجمل و الملثوث بالمنّاني و العصيدة بحساء اليازول .
في سكون اللّيل ، ها هو مهنّي جالس في غرفته الصامتة يستعرض رسوم الحياة فهو تارة يفكّر في السّنين الجميلة ، الضّائعة و طورا في أيّامــه البشعــــــــــــة الّتي كفّنتها الدّمـــــــوع و الأحزان .ها هو ينظر فيرى صورا تتعاقب على نفسه كغيوم الربيع و تتعانق حول قلبه كورود الجبال . هي أطياف جميلة كسيّد الفصول
و ملوّنة كقوس قزح ترقص حوله ثمّ تتوارى في لجج الظّلام . و على نقيض تلك الصّور الشّفافة ، الجميلة يبصر صورا ضبابيّة ، ذميمة ، متقلّبة كأمواج البحر الهادرة هي أسوء ما في ذاكرته الّتي عبثت بها صروف الزّمــــان
ها هو أبوه ينظر إليه بوجهه الضّحوك و من عينيه تفيض عواطف الأبوّة الرّاحمة الحنون، ثمّ يداعبـــــــــــه و يمازحه و يهدهده و يطبع على ثغره قبلة ساحرة .
ها هي الظّلمة ترتعش كأنّها ملاءة سوداء تهزّها يد خفيّة و إذا بأمّه تنسلخ عن الظّلمة طيفا نيّرا أبيـــــــــض و تقترب من سريره بخفّة و رشاقة و قد تلحّفت بكفن من القطن أبيض شفاف . بسطت نحوه ذراعيها الزّرقاوين من آثر اللّسع لتحتضنه و الحزن في عينيها ما يزال بليغا ، رهيبا قد مازجه عتاب شديد .
اضطرب مهنّي و لكن من غير أن ترتعد مفاصله و يعقل لسانه و تصطكّ أسنانه و يجمد الدّم في عروقه . كان قادرا على التّمعّن في ذلك الوجه العابس من غير أن يطأطئ رأسه أو ينحدر بصره إلى الأرض .يا الله ما أجمله وجه ! كأنّه صيغ من أنقى معادن الحبّ و الألم بل كأنّه الحبّ و الألم في تزاوج سماويّ . كم ودّ أن يجفّف دموعــــــــــه براحتيه و أن يرسم عليه قبلات في طعم خمر الجنّة !
( الإمضاء مهنّــــــــــــي)
أثناء السّمر في قاعة الجلوس ، ركّز جمال نظّارتيه على عينيـــــه الدّعجاوين و تناول دفترا باليا خطّ مهنّي على غلافه بأحرف كبيرة عبارة « ذكريات مذهلة » ثمّ اعتدل في جلسته على أريكة مريحة ، ليّنة لقراءة هذه الذّكريـــــــات و هو متشوّق للتطلّـــــع على خباياهــــــــــا و متحسّر على فراق صديقه مهنّي .
انغمس في قراءة متأنّية فهو لم يعر أيّ اهتمام للمسلسل الكوميديّ على شاشة التّلفزة و لم يترشّــف و لو رشفة واحدة من قهوته السّوداء المرشوشة بماء الزّهر و لم يبال بما يدور حوله مـــــن مزاح و ضحك . بعد قراءة هذه الحكاية المؤلمة الغريبة الأطوار عدّة مرّات لجأ إلى فراشه باكرا على غير عادته و هو في قمّة تأثّره يهذي كالأبله قد تردّد البكاء في صدره و جمدت الدّموع في عينيه الجاحظتين :« لا مصيبة أعظم من الجهل » .
« ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم »
«لكلّ داء دواء يستطبّ بــــــــه *** إلاّ الحماقة أعيت من يداويـــها»
ما هكذا تعامل الأمّ أيّها الغبيّ و ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان . هل نسيت قول الله تعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»؟
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: « أبوك»
على أيّة حال حتّى و إن تغيّرت نظرتي إليك يا مهنّي فأنا مقرّ العزم على التّسامح معك و نشر ذكرياتك المذهلة في أعرق الصّحف و المجلاّت العربيّة لعلّ بعض القرّاء يجدون فيها مثلما وجدتــــــه من المتعــــــة و التّسلية و الاتّعاظ ».
آنذاك توجّس خيفــــــــة و ساورتــــه الهواجــس و الوساوس و ذهبت به كلّ مذهـــــب : « أيكون مهنّي يعاني من مرض شديد أخرس لسانـــــــه و أعجزه عن الحركة ؟ هل استضافه أحد الجيران أو أحد الأقارب في هذا الشّهر الفضيل ؟ لو كان الأمر كذلك لأخبره بهذه الضّيافة حتّى يطمئنّ عليه و يطمئنّ هو على ممتلكاته الضّئيلة من النهب و الاختلاس . هل فرّ من منزله هروبا من العزلة الّتي أرّقته و أرهقته و أجّجت لهيب كآبته و خموله و تعاسته ؟ ».
عجّل جمال بخلع الباب و اقتحام المنزل و هو متعطّش لمعرفة الحقيقة ففوجئ بغياب مهنّي فالبيت مقفر لا أحد فيه سوى حيّة رقطاء لها فحيح مزعج تلاحق في سرعة مذهلة فئرانا سمينة تطفر هنا و هنالك محاولة النّجاة . انتهى هذا المشهد المرعب بانقضاض هذه الحيّة الجائعة على أحد الفئران و ابتلاعه كاملا ثمّ زحفها نحو جحر دامس داخل الجدار . أمّا جمال فلا تسل عن حاله و عمّا أصابه حينئذ من الوجــــــل و الحيرة . لقد تسمّر في مكانه مرتجف الأوصال ، معقول اللسان ، مصتكّ الأسنان ، زائغ البصر ، قلبه يكاد يطير و ذهنه هائم ، شارد ، تحوم فيه هواجس مملّـــة من ورائها شيطان رجيم .
لم تستغرق حيرة جمال وقتا طويلا فها هو يهتدى إلى رسالة فوق منضدة مستديرة قرب سرير مهنّي فيفضّها بفروغ صبر في طرفة عين و يقرؤها في لهفة و هو يلتفت يمنة و يسرة .
بسم الله الرّحمان الرحيم
إلى جاري الفاضل جمال
تحيّة عطرة تستمدّ أريجها من طيّبات شهر الصّيام .
أمّا بعد أحيطك علما أنّني قد سافرت فجر هذا اليوم على متن سيّارة أجرة إلى تونس العاصمة كي أعالج نفسي في مستشفى الرّازي للأمراض العقليّة .
أيّها الصّديق العزيز أأتمنك طيلة غيابي على أملاكــــــي و ألتمس منــــك الاعتناء بدجاجاتـــي و معزاتي فأنا واثق من صدقك و رفقك بالحيوان . لا تنس أن تحفظ من التّلف دفترا قيّما تعثر عليه فوق صندوق والدتي قرب مجموعة من الجرائد و المجلّات . بإمكانك أن تطلّع على ما حبّرته من ذكريات كانت في البداية سرّا أمّا الآن و دون أيّ حرج أريد أن يعرفها القاصــــي و الدّاني في مختلـــف أصقاع الأرض عساه يستلهم منها عبرا ومواعظ تنير دربه .
في أحدى المساكن التقليديّة المطليّة بالكلس ، قطن مهنّي « أَشْكَوْ » رفقة والدته زبيدة . كان مهنّي كهلا في حوالي الأربعين ، نحيفا ، قصيرا ، ذا وجه ذميم و لحية قصيـــرة و شعر شائب مجعّد كشعر
زنجيّ ، منفوش في غير نظام غطّت أعلاه شاشيّة قرمزيّة قد نصل لونــــــــــها و داهمتها الفتوق من كلّ جانب . هو رجل متهاون ، أحمق ، أبله لا يعرف ما يخرج من أمّ رأسه و لا يبذل أيّ مجهود لكسب المال من كدّ يمينه و عرق جبينه بل تستهويه اللّقمة السّائغة الّتي لا تتطلّب أيّ مجهود و أيّ سعي.
أمّا زبيدة فعجوز في السّتين ، مديدة القامة ، مكتنزة الجسم ، خرقاء الهيئة ، صافية العقل ، تلوح على محيّاها في بعض الأحيان رسوم كآبة هوجاء . أثناء السّمر كانت دوما تسرد على وحيدها حكايات طريفة فيتملّكه سرور لم تعهد القلوب ألذّ منـــــــه و يطفح وجهها القمحيّ بشرا و يمتلئ بأخاديد عميقة كأنّها أتلام خلّفتها سكّة المحراث في أرض جرداء .
إنّها تجدّ و تكدّ من الصّبح المسفر إلى غروب الشمس فهي تنفق ما تملك من نشـــــــــــــــــاط و حيويّة في القيام بشؤون منزلها و العناية بحديقتها و إطعام دجاجاتها و رعي معزاتها الحلوب إن وجدت متّسعا من الوقت للقيام بذلك و لم تنشغل عصرا بالحديث داخل السّقيفة مع جارات مهذارات لا يمللن من السّخرية و القهقهة و هتك أعراض النّاس .
كانت راضية بهذه الحياة باسمة لها بالرّغم من شيء من الأسى كان يستقرّ في مهجتها و لا يفصح عنه لسانها و لا تترجمه ملامحها أثناء الاغبرار و الاكفهرار. كانت تفكّر دون مجال للظّنّ في بؤسها و ابنها المدلّل الّذي كان عالة عليها فهو لم يشتغل و لو يوما واحدا طيلة حياته فمتى ستراه عائدا إليها بقفّة ملآى بالخيرات السّبعة ؟ متى ستراه عريسا يتبختر في جبّة فضفاضة ، ناصعة البياض و حذوه عروس آية في الحسن و الجمال كأنّ البدر صورتها ؟
على السّاعة الواحدة بعد الزّوال في منتصف شهر جوان ، جلس مهنّي القرفصاء على حصير بـــال ، رثّ بسطه بعناية فائقة فوق دكّة وطيئة ، ظليلة ، قائمة وسط الحوش . عبّأ نفسا أخيرا من سيجارته و سحق عاقبها في المنفضة بعد أن نفث بواسطة أنفه الأفطس دخانا رماديّا ، كثيفا تصاعد في الفضاء متّخذا شكلا لولبيا له دوائر تكبر حينا و تصغر حينا آخر .
انبرى يفكّر في أمر صندوق عتيق من خشب الأبنوس ، طلاؤه أخضر داكن ، به صفائح ذهبّية اللون على شكل أهلّـة و نجوم و قباب ثُبّتت تثبيتا محكما بمسامير برّاقة مسطّحة لها نفس اللون . ممّا يدعو للشّكّ أنّ هذا الصندوق الجميل دوما مقفل و أنّ أمّه تحتفظ بمفتاحه في خيط أحمر لا يفارق جيدها آناء اللّيل و أطراف النّهار. إنّه يذكّرها بأيّام زفافها حينما تزوّجت من ابن خالها و هي فتاة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها . هي في هذا السّنّ مؤهّلة للمرح مع أترابها و التّزوّد بالعلوم الصحيحة و المعارف في المدارس الّتي تعدّ على الأصابع في جزيرة الأحلام جربة إبّان الاحتلال الفرنسيّ الغاشم لبلادنا . الحياة الزّوجية في هذا العمر تافهة لا تعني لها شيئا حتّـــــى و إن كانت تقضّي اللّيالي الملاح على فراش وثير مع زوج لطيف ، متفنّــــــن في المداعبـــــــة و الملاعبة ، بارع في ممارسة الجنس .
تراكم في ذهن مهنّي سيل جارف من الأسئلة فاختلج جفناه و انفرجت شفتاه في عصبيّة :
« لماذا لا تترك أمّي الصندوق مفتوحا ؟ لم لا تفتحه إلاّ عند التّأكّد من غيابي ؟ ما الدّاعي لتعليق مفتاحه برقبتها و دسّه عند النوم في خبنتها ؟ يا ترى ماذا تخفي داخله ؟ هل فيه مصوغ ذهبـــيّ و جواهر نفيســـــة و رســـــــــوم عقـــــــــارات لا تخطر على بال ؟ » . مازال يرنّ في أذنيه قول جارة ثرثارة تعرف كلّ أسرارها : « أمّك تلك البخيلة تخبّئ في صندوقها ما يكسو عروســـــــا من الحليّ و الديباج : ضفائر محبوب ، قلائد مرصّعة بالياقوت و المرجان ، خواتم براقة ، أساور ، خلخال ذو رطلين ، فساتين منسوجة من الحرير الأصيل...»
حادث مهنّي نفسه حديثا متّسما بالجرأة والتحدّي « إنّ في الأمر سرّا و خفايا لا يعلمها إلاّ الله. كيف تبقى على هذه الحال تتململ في قلق كأنّك جالس على الجمر ؟ أيرضيك يا مهنّــــــــــــي لوك البؤس و اجتراره و صندوق العجائب و الغرائب يعجّ بالكنوز ففيه ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب
بشـر ؟ اسع لفكّ هذه الطّلاسم الّتي تشغل فكرك و تنغّص راحة بالــــك و تؤجّج سعير كآبتك».
انتفض مهنّي كالمجنون و طاف في أرجاء الحقول غير عابئ بالحرّ الّذي يلفح وجهـــــــــــه و بالرمال الملتهبة الّتي تصهد قدميه الحافيتين . كان يزحزح الصّخور الكلسيّة المنتصبة هنـا و هناك بأشقّ الأنفـــس و ينفث ريقه في العقارب الّتي توجد تحتها ثمّ يلتقطها بأنامله في خفّـــة و رشاقة دون أن تؤذيه بلسعاتــــها لأنّه من أبناء سيدي محمّد بن عيسى قدّس الله سرّه و برّد ثراه . ها هو يودعها في علبة تنّ فارغة عثر عليها في المزابل و يعدّها في ابتهاج و حبور عدّا متأنّيا ، متمهّلا دون أن تفلت من قبضته : « واحدة ، اثنتان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستّــــة » ثمّ يقفل عائدا إلى بيته في خطوات عجلى و هو مصرّ على إخفائها تحت جفنة من الفخّار في مكان أمين يتعذّر على أمّه الاهتداء إليه .
و في الهزيع الأخير من الليل و بعد التّأكّد من غطّ أمّه في سبات عميق كشف الغطاء عن العلبة المكتنزة بالعقارب و دسّها تحت وسادتها في حذر ثمّ اندسّ كالحيّة الرّقطاء داخل لحاف رهيف أبيض ينابع نهاية أمّه لحظة بلحظــة دون إشفاق و مودّة . كان في ذروة الارتبــــــــــاك ممتقع الوجه، جافّ الرّيق ، منحبس الأنفاس ، تسارعت نبضات قلبه و سرت في كامل جسده قشعريرة متموّجة شبيهة بتلك القشعريرة الّتي تصيب المحموم .
أدّت العقارب المهمّة المناطة بعهدتها أحسن أداء فعاثت في بدن المسكينة لسعا موجعا طال كلّ أنحاء جسدها من قمّة الرّأس إلى أخمص القدمين . و ما هي إلاّ برهة قصيرة حتّى نهضت الأمّ من فراشها و هي لا تقدر على النّهوض مفجوعة ، مقطّبة الجبين ، متجهّمة السّحنة ، شعرها عــــــــار و منتصب كمسلاّت قنفــــــــــد و عيناها تذرفان دمعا سخينا ساخنا كأنّه الجمر .
و في إقدام منعدم النّظير ، أقدمت على سحق العقارب ببلغتها المتهرّئة ثمّ ارتمت على فراشها الحقير و هي تئنّ و تتلوّى و ترتعد . حدجت ابنها مــن طرف خفيّ بنظرات منكسـرة ، ناضحة بالتّأنيب و كلّمته بصوت ناعس خافت و هي تسبح في شلّال من العرق :
- « عليك اللّعنة أيّها الشّيطان الرّجيم ... أنت منبوذ إلى اليوم الّذي يرث فيه الله الأرض و من عليها ... شكرا جزيلا على هذه المكافأة المسمومة »
- « أنا ابنك و قرّة عينك فكما تعلمين أنّ في هذا البيت شقوقا عديدة تتسرّب منها العقارب . دعك من هذا الهراء و هيّا نتوجّه إلى المستشفى لتتلقّي الإسعافات الضّرورية الّتي تخلّصك من آفات هذه السّموم »
- « أيّها المعتوه اغرب عن وجهي لا أريد أن أراك ... اتركني أصارع سكرات الموت بمفردي ... لا إلاه إلاّ الله محمّد رسول الله ...لا إلاه إلاّ الله محمّد رسول الله » .
تعالى تشهّدها و استغفارها و دعاؤها ثمّ سرعان ما أرسلت أنّات طويلة ، ضئيلة ، نحيلة انتهت بلفظ نفسها الأخير . واجهت المسكينة الموت بقلب مكلوم ينزف دما دون أن يختلّ إيمانها بالله أو تستنجد بقطرات ماء لتبليل حلقها إبّان الحشرجة . إنّها لم تتصوّر أنّ ابنها سيكيد لها هذه المكيدة الشيطانيّـة و هي في أرذل العمر تبذل قصار جهدها و تحني ظهرها في سبيل إسعــــاده و تحمّل كسله و غبائه .
التهم القطّ « ميمي » ذو العينين الخضراوين و الأنف القرنفليّ كلّ العقارب و دنا من جسم سيّدته الهامد و طفق يموء مواء موحشا مزّق أوتار الصّمت الرّهيب المخيّم على الغرفة فكأنّ هذا الحيوان الأليف ملتاع عرف أنّها فارقته إلى الأبد بدون رجعة فمن سيطعمه بسخاء بعدها و من سيدثّره بغطاء صوفيّ إذا اشتدّ البرد و من سيلاعبه إذا أحسّ بالضّجر فمهنّي فظّ غليظ القلب لا يحفل به و لا يوليه أيّ اهتمام ؟
في لمح البصر ألقى مهنّي العلبة الفارغة في غيابات جبّ مهجور و سحب المفتاح من رقبة والدته ثمّ فتح الصندوق و هو يمنّي النفس بكنز عظيم .
على حين غرّة ، اعتراه ذهول شديد لم يعرف مثيلا له فجمد في مكانه كجلمود صخر و هو فاغر الفم ، شاخص العينين ، ضبابيّ الرّؤية . فرك عينيه فركا خفيفا غير مصدّق ما كانت تقع عليه عينـــــــاه و تقلّبه يداه رأسا على عقب : جبّة بيضاء أكل عليها الدّهر و شرب ، عمامة صفراء ، سراويل فضاضة ، حرام أحمر ، فوطة بسكريّ، لبان ، قنينة عطر ، خواتم و أساور من لجين ، مصحف قرآن كريم مخطوط باليد ، صور لأبيه بالأسود و الأبيض ... ما أشدّ وقع النّدم على نفسه ! ما أحمق جريه وراء السّراب !
عضّ مهنّي على يديه و لطم خدّيه بكفّيه و نتف شعره و شقّ أطماره ندما على جريمته النّكــــراء و ندب حظّه العاثر ثمّ انحنى على أمّه فلثم جبينها المتفصّد عرقا و أغمض عينيها الجاحظتيــــــن و سجاها بغطاء أبيض .
انكفأ مهنّي على وجهه في زاوية شبه مظلمة ذاهلا ، مطرق الرّأس ، كئيبًا ، كاسف َ البال ، مظلم َ النفس ، معقود اللسان لا يصدّق ما اقترفت يداه في حقّ والدته . كان يريد أن يبكي فلا يجد الدّمــــوع و يريد أن يتكلّم فلا يجد الألفاظ و إنّما يتردّد في حلقه صوت خفيّ مجلجل هو صوت الحقّ « يا لخيبة مسعاك ! طوّعت لك نفسك قتل أمّك فقتلتها فستصبح من الخاسرين . نفذ الطّمع إلى نفسك فأصبح ضميرك فحمة قاتمة ليس لها حظّ من صفـــاء و نفذت عسعسة الليل إلى قلبك فغدا قاسيا ، خاليا من المشاعر النّبيلة الّتي تضبط إيقاعه و تغرس فيه برّ الوالدين . أنت وحش كاسر تنكّرت لأدميتــــــــــــك و تجرّدت من كلّ القيم الإنسانيّة فبطشت بأمّ حملتك في بطنها تسعة أشهــــــــــــــر و غذّتك بلبنــها و حرستك بحنوّها و أدفأتها بحرارة قلبها و تجشّمت مشاقّ الحياة في سبيل توفير لقمة العيش لك و هي تتطلّع إلى يوم مشرق تراك فيه رجلا شامخا كالطّود الأشمّ . وا أسفاه على أمّك الّتي دفنت أحلامها في أعماق قلبـــــــــــــها و صنعت من عوزها غنى و قناعة و حاكت من أحزانها برد فرح كستك به فقدّمت بذلك قصّة كفاح فريدة من نوعها اختلطت فيها الدّموع بالعرق ».
ما ضرّ لو استفسرتها عن محتويات هذا الصّندوق المقفل في أدب فهي قد تبوح لك بكلّ الحقائــــــق و الأسرار فتنبسط نفسك و ينقشع ضبابها و ينجلي اكفهرارها . »
و في ضحى اليوم الموالي ، هيّئت زبيدة للدّفن و تهادى نعشها على أعناق الرّجال في اتّجاه مقبرة القرية تتبادله الأيادي و المناكب دون نفور أو فتور .
سبحان الله ما أوفى المشيّعين و المشيّعات لزبيدة ! الجارات سكبن دمعا غزيرا إلى أن احمرّت مقلاتهـــنّ و كادت تطمس . كم كنّ ملتاعات لرحيلها المباغت ! أمّا الجيران و الأقارب ساروا وراء النّعش في كمد صامتين ، مذعنين إلى قضاء الله . إنّ أعينهم لتدمع و إنّ قلوبهم لتحــــــــــزن و لكنّهم لا يقولون إلاّ ما يرضي ربّهم .
بلغ التّأثّر المشوب بالحسرة بمهنّي منتهاه حين وضعت أمّه ملفوفة في الكفن في رمس موحش . فغر فاه كأنّه يتثاءب ضجرا من هول المصيبة .و في دقائق معدودات حثا عليه الشّباب أكواما من التّراب و سوّوه بالأرض بواسطة جريدة خضراء ثمّ رشّوه بالماء رشّا خفيفا.
ما إن رحلت زبيدة إلى مثواها الأخير حتّى استقرّ حزن عميق في فؤاد ابنها فهجر الرّفــــــــاق و انطوى على نفسه فأمست حياته خواء لا بهجة فيها و لا رواء يرين عليها وحشة و ملال .
منذ ذلك اليوم الأليم ، عرف مهنّي أرقا حرمه من متعة النّوم فكان ينفق السّواد من اللّيل مذعورا ، مضطربا ، مفكّرا في أمّه و تعاسته ، لا ينام إلاّ نوما ضئيلا ، متقطّعا تهيمن عليه أحلام مزعجة لا تبعث على الاطمئنان . كان آنا يذرف دمعًا سخينًا يمسحه بكفّه وآنا يتلو المعوّذات بصوت متهدّج تخنقه العبرات لطرد عفاريت كثيرة ملأت أرجاء البيت و نواحيـــــــه و آونة يمعن النّظر في طيف أمّه البهيّ ثمّ يصغي إليه في انتباه بالغ :
- « يا بنيّ إيّاك و الطّمع فإنّه فقر الحاضر ... تقرّب إلى الله بكلّ ألوان التقرّب لعلّه يتجاوز عـــــن سيّئاتك و يغفر لك ذنوبك » .
كم من مرّة حاول التّمسّح بثوبها القشيب والتطيّب بعبيرها المنعش و مخاطبتها بصوت خافت و هو في وقدة الألم يرتعد من هول النّدم : « أيّتها الأمّ الحنون هل ستصفحين عنّي عمّا ارتكبته من ذنب حتّى يشملني الله بعفوه و رضاه و رحمته الواسعة ؟ اسمحي لي أن أطبع على جبينك الأغرّ قبلات حارّة يفوق عددها عدد النّجوم المتلألئة في السّماء و أن أهديك أفوح الورود . كم أنا الآن متعطّش إلى محيّاك المشرق و حضنك الدّافئ تعطّش المسلمين للصّلاة في بيت المقدس
سأبرّك أمّي فاقتربــي
فالدمعة تحرق أجفاني
أمّـــــاه تعالي مسرعة
كي أشعر يوماً بحنان »
لكن هيهات ، هيهات فهذا الطيف الأنيق سرعان ما يجنّح في الفضاء الأخــرس و يختفي في لجج الظّلام مخلّفا بين أضلع مهنّي المزيد من الأســـــــــى و اللّوعـــــــــــة و تأنيب الضّمير .
و مع مرور الأيّام ضَاقَتْ عَلَيْه الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ و ضاق صدره بالهموم فأحسّ بالعجـــــــــــــــــز و الإحباط . أثاث البيت مبعثر في غير نظام و مقلوب رأسا على عقب ... الملابس و الأغطية الصّوفيّة ككوم من القمامة تنتظر من يغسلها بالماء و الصّابون الأخضر ... إنّه لا يملك فلسا واحدا ينفقه على نفسه و لا يملك فتات خبز يسدّ به رمقه ... جسمه قذر قد تلبّدت عليه الأوساخ حتّى استحالت قشورا سوداء يرتع عليها الذّباب ... لا أنيس يفرّج كربته و يكسر شوكة وحدته فحتّى القطّ ميمي ذو الفرو البنيّ الناعم غادر الدّار و غاب عن الأنظار بحثا عن صاحبته زبيدة الّتي كانت تجود عليه ببقايا الطعام و المـــــــــاء الزّلال و تدثّره في فراشها اللّيّن قرب ساقيها عند اشتداد العاصفة و هدير الإعصار.
خلال النّهار كان مهنّي بروّض حزنه الأليم بالتسكّع في رحاب القربة فقد قدّر الله عليه أن يطوف بقيّة حياته بين المنازل بحجّة التسوّل و التّشكّي من مظالم الحياة .لست أدري أأنّ كنية « أَشْكَوْ» أطلقت عليه من لدن أطفال القرية لأنّه يبالغ في شكواه و نحيبه أم لأنّ عقله جامد كالشّكوة الّتي هي عبارة عن وعاء من الجلد يستعمله البدو لتبريد الماء أو اللبن .
لاحظ رجال القرية و نساؤها شدّة فقره و سهومه و كآبته فجادوا عليه بالملابس القشيبــــــــــــــــة و الأطعمة الفاخرة و أكثروا من مزاحه و جذبه إلى أحاديثهم المسليّة .
و إذا سعت الشّمس إلى مغربها و أطبق الظّلام ناشرا جلبابه الأسود على الكون سعى مهنّي إلى بيته المتواضع الحقير مطرق الرّأس ، ثقيل الخطو قد امتلأت سلّته بالأطعمة و الملابـــــــس و لاح على وجهه الشّاحب ابتهاج كئيب يترجم شيئا من الرضا.
لو رفع مهنّي رأسه إلى السّماء لأبصر فيها نجوما متلألئة تشعّ في النفس غبطة عارمــــــــــــة و قبسا وهّاجا من الأمل يدفعه إلى كسر طوق العزلة و التّشمير على ساعد الكدّ و الجدّ إذ لا بدّ أن يصون نفسه من التّيه و الضّياع و يحفظ كرامته من الذّلّ و الإهانة .
و في شهر أوت قبل حلول شهر رمضان بيوم واحد ، هيّأ له جاره جمال ماء دافئا في طنجرة من نحاس و التمس منه أن يغتسل و قد افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة :
- « يا جاري العزيز عليك أن تستحمّ الآن حتّى يصبح جسمك نظيفا و طاهرا »
- « الماء يؤذيني إذا أرقته على جسدي فهو يتسبّب لي في رعشة عنيفة و زكام حادّ »
- « دعك من هذه الأوهام و اعلم أنّ النظافة من الإيمان و الوسخ من الشيطان . ألا تشمئــــزّ من هذه الأدران و هذه الرّوائح الكريهة ؟ »
- « لن أتقزّز منها أبدا فأنا مرتاح تمام الارتياح ».
- « راحة المجنون من عقله . هيا استعذ بالله من كلّ شيطان رجيم و عجّل بالاستحمام فأنا قد أحضرت لك أيّها الأبله ملابس فاخرة لم يلبسها حتّى الأمراء ».
- « أمري لله ما دمت مصرّا على ذلك ».
ها قد استعدّ مهنّي لشهر رمضان الفضيل أجمل استعداد : تطهّر و تعطّر و ارتدى ملابس جديـــــــدة و حلق شعره و لحيته و قلّم أظافره و أدّى صلواته لأوّل مرّة في حياته .
أثناء هذا الشّهر الأغرّ ، على الرّغم من إطعام الجيران له و عطفهم عليه تضاعف حزنـــــــــــــه و تعاظم اشتياقه لأمّه فاعترته اضطرابات نفسيّة حادّة تنذر بانهيار عصبيّ وشيـك . إنّ والدته كانت خير أنيس له تبذل ما في وسعها لإبهاجه و إسعاده و كانت أيضا حريصة على إعداد أصناف من الأطعمة اللّذيذة يقبل كلاهما على التهامها في نهم مثل العجّة بالمرقاز و الملوخيّة بلحم الجمل و الملثوث بالمنّاني و العصيدة بحساء اليازول .
في سكون اللّيل ، ها هو مهنّي جالس في غرفته الصامتة يستعرض رسوم الحياة فهو تارة يفكّر في السّنين الجميلة ، الضّائعة و طورا في أيّامــه البشعــــــــــــة الّتي كفّنتها الدّمـــــــوع و الأحزان .ها هو ينظر فيرى صورا تتعاقب على نفسه كغيوم الربيع و تتعانق حول قلبه كورود الجبال . هي أطياف جميلة كسيّد الفصول
و ملوّنة كقوس قزح ترقص حوله ثمّ تتوارى في لجج الظّلام . و على نقيض تلك الصّور الشّفافة ، الجميلة يبصر صورا ضبابيّة ، ذميمة ، متقلّبة كأمواج البحر الهادرة هي أسوء ما في ذاكرته الّتي عبثت بها صروف الزّمــــان
ها هو أبوه ينظر إليه بوجهه الضّحوك و من عينيه تفيض عواطف الأبوّة الرّاحمة الحنون، ثمّ يداعبـــــــــــه و يمازحه و يهدهده و يطبع على ثغره قبلة ساحرة .
ها هي الظّلمة ترتعش كأنّها ملاءة سوداء تهزّها يد خفيّة و إذا بأمّه تنسلخ عن الظّلمة طيفا نيّرا أبيـــــــــض و تقترب من سريره بخفّة و رشاقة و قد تلحّفت بكفن من القطن أبيض شفاف . بسطت نحوه ذراعيها الزّرقاوين من آثر اللّسع لتحتضنه و الحزن في عينيها ما يزال بليغا ، رهيبا قد مازجه عتاب شديد .
اضطرب مهنّي و لكن من غير أن ترتعد مفاصله و يعقل لسانه و تصطكّ أسنانه و يجمد الدّم في عروقه . كان قادرا على التّمعّن في ذلك الوجه العابس من غير أن يطأطئ رأسه أو ينحدر بصره إلى الأرض .يا الله ما أجمله وجه ! كأنّه صيغ من أنقى معادن الحبّ و الألم بل كأنّه الحبّ و الألم في تزاوج سماويّ . كم ودّ أن يجفّف دموعــــــــــه براحتيه و أن يرسم عليه قبلات في طعم خمر الجنّة !
( الإمضاء مهنّــــــــــــي)
أثناء السّمر في قاعة الجلوس ، ركّز جمال نظّارتيه على عينيـــــه الدّعجاوين و تناول دفترا باليا خطّ مهنّي على غلافه بأحرف كبيرة عبارة « ذكريات مذهلة » ثمّ اعتدل في جلسته على أريكة مريحة ، ليّنة لقراءة هذه الذّكريـــــــات و هو متشوّق للتطلّـــــع على خباياهــــــــــا و متحسّر على فراق صديقه مهنّي .
انغمس في قراءة متأنّية فهو لم يعر أيّ اهتمام للمسلسل الكوميديّ على شاشة التّلفزة و لم يترشّــف و لو رشفة واحدة من قهوته السّوداء المرشوشة بماء الزّهر و لم يبال بما يدور حوله مـــــن مزاح و ضحك . بعد قراءة هذه الحكاية المؤلمة الغريبة الأطوار عدّة مرّات لجأ إلى فراشه باكرا على غير عادته و هو في قمّة تأثّره يهذي كالأبله قد تردّد البكاء في صدره و جمدت الدّموع في عينيه الجاحظتين :« لا مصيبة أعظم من الجهل » .
« ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم »
«لكلّ داء دواء يستطبّ بــــــــه *** إلاّ الحماقة أعيت من يداويـــها»
ما هكذا تعامل الأمّ أيّها الغبيّ و ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان . هل نسيت قول الله تعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»؟
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: «أمّك»، قال: ثم من؟ قال: « أبوك»
على أيّة حال حتّى و إن تغيّرت نظرتي إليك يا مهنّي فأنا مقرّ العزم على التّسامح معك و نشر ذكرياتك المذهلة في أعرق الصّحف و المجلاّت العربيّة لعلّ بعض القرّاء يجدون فيها مثلما وجدتــــــه من المتعــــــة و التّسلية و الاتّعاظ ».