مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (13)

(13)

اتصل فريد من واشنطن ليطلعني على ما أسماه "حمى ضرب العراق" التي تسود أجواء العاصمة الأمريكية، فمن خلال اتصالاته بأعضاء الإدارة والكونجرس، فضلا عن العديد من الجهات المتنوعة ... رسمية وغير رسميـة، يبدو واضحا أن هناك حالة من الهوس بضرورة توجيه ضربة عسكرية حاسمة لبغداد والإطاحة بصدام حسين، ورغم التخبط وعدم وضوح الرؤية في البحث عن مبررات لهذه الضربة، إضافة إلى الفشل في إقناع دول العالم بها، إلا أن تحليل فريد للموقف يخلص إلى أن الضربة قادمة لا ريب فيها، سواء كان هناك مبرراً معقولاً أو لا، سـواء قبل بها المجتمع الدولي أو لم يقبل، قال فريد بأسى شديد:

ـ لقد أقمت طويلا في الولايات المتحدة وعاصرت إدارات مختلفة، لكني لم أر أبدا مثل هذه المجموعة الخرقاء ... أحادية الرؤية ... ضيقة الأفق التي تسيطر على مقاليد الأمور هنا في واشنطن.

كنت من جانبي أواصل تغطية الصراع المرير داخل الأمم المتحدة، والتصاعد الواضح في الموقف الأمريكي بخصوص ضرب العراق، حتى كولين باول الذي ينظر إليه دائما على أنه أكثر الأصوات فى هذه الإدارة تعقلا، أصابته هو الآخر هذه الحمى وأخذ يردد نفس التصريحات الجوفاء التي اعتدنا سماعها من بوش وتشيني ورامسفيلد، في اتصالاتي الدائمة مع دبلوماسيين من مختلف دول العالم كان التشاؤم يسيطر على معظمهم قال لي أحدهم في جلسة خاصة بيني وبينه:

ـ أقصى ما نستطيعه هو تأخير أجل هذه الضربة إلى أبعد ما يمكننا، لكننا للأسف لن نستطيع منعها نهائيا.

سألته باستغراب:

ـ أليس هذا اعترافا بالعجز عن مواجهة الولايات المتحدة؟!

ـ للأسف هذا صحيح، نحن الآن في فترة من فترات التحول في تاريخ البشرية، هناك حالة من عدم التكافؤ في القوى أدت إلى ما نحن فيه الآن، لكن ما يعزيني أن هذا الوضع لن يستمر طويلا.

ـ إلى متى تظنه يستمر؟

ـ لا أعرف بالتحديد، لا أستطيع أن أعطيك توقيتا محددا، لكنني أستطيع أن أؤكد لك أن حرب العراق إذا بدأت ... ستساهم بصورة كبيرة في إحداث التحول الذي أتوقعه.

بعد أيام قليلة من هذا الحوار الشخصي صدر عن مجلس الأمن بالإجماع القرار رقم 1441، قبله العراق وأعلن موافقته على عودة فرق التفتيش والتعاون معهم بصورة كاملة، علق نفس الدبلوماسي عندما التقيته بعدها:

ـ إنها محاولة أخيرة لتهدئة الأوضاع ... أظنها لن تنجح.


******

اصطحبتني كاثي لزيارة موقع برجي مركز التجارة العالمي المنهارين، رغم مرور أكثر من عام كامل على ما حدث إلا أن آثاره الهائلة لا تزال واضحة للعيان، عندما طلبت من كاثي القيام بهذه الزيارة رفضت في اقتضاب، ثم عادت بعد عدة أيام لتسألني:

ـ هل لا زلت راغبا في زيارتهما؟

كنت قد نسيت الموضوع فأجبتها مندهشا:

ـ زيارة ماذا؟

ـ البرجان.

ـ أه ... نعم إذا كان ذلك لا يضايقك.

عبرت وجهها سحابة حزن سريعة ثم قالت:

ـ الأمر يثير شجوني قليلا، لكن يجب عليَّ أن أقوم أنا شخصيا بمثل هذه الزيارة.

قفز إلى ذهني خاطر مفاجئ فسألتها في تردد:

ـ هل ...؟

ـ نعم ... لقد فقدت هناك أعز أصدقائي، أحد رجال الإنقاذ الذين حاولوا إنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض لكنه هو نفسه سقط ضحية تحتها، كان بالنسبة لي أكثر من صديق، أنت تفهم بالطبع ما أقصده.

انتابني شعور بالأسف وتأنيب الضمير، حاولت الاعتذار قائلا:

ـ عفوا ... سامحيني على إيقاظ أحزانك.

قالت ونبرات صوتها تحمل قدرا كبيرا من الصدق:

ـ لا تؤنب نفسك، يجب في الواقع أن أقوم بهذه الزيارة، يجب أن أغلق هذا الموضوع إلى الأبد، لن يفيدني الهروب منه.

كنا واقفان في صمت نتأمل الأنقاض وجهود إزالتها، رغم هدوئها الظاهر إلا أنها لم تستطع أن تخفى الأحزان التي تجتاحها، وأخيرا بعد صمت وتأمل لبضع دقائق فرت دمعة هادئة من عين كاثي، دمعة وحيدة ... لكنها دافئة ومحملة بكثير من الشجن، مددت كف يدي في حركة تلقائية كي أمسح الدمعة عن وجنتها، كانت وجنتها شديدة السخونة، امتلأت عيناها بالدموع وسالت كلها دفعة واحدة، ظلت تبكي وتنتحب لدقيقة أو اثنتين، أحطت كتفيها بذراعي واستدرت بها في رفق مبتعدان عن المكان، سرنا ببطء حتى ابتعدنا عنه تماما، جلسنا، كانت قد استعادت تماسكها فقالت:

ـ أرجو أن تعذرني، لم أبك عليه في حينها، لم أتمكن من ذلك، كنت في حاجة إلى هذه الزيارة كي أستطيع أن أبكي عليه.

لم أتمكن من الرد عليها، تابعت قائلة:

ـ أنا بالفعل أحسن حالا الآن، هكذا أستطيع أن أنهى الأمر، أرجو ألا أكون قد ضايقتك.

ـ بالتأكيد لا، لكنني تأثرت كثيرا لأحزانك.

سادت فترة من الصمت ثم قالت فجأة:

ـ إن كان حقا أسامة بن لادن هو الذي فعلها فنحن الذين صنعناه.

لم أعلق على ما تقول وفضلت الصمت احتراما لمشاعرها لكنها واصلت:

ـ رغم أن مسئوليته لم ترق بعد إلى مستوى اليقين، لكن حتى لو تأكد أنه وراء ما حدث فلن أكرهه بقدر كرهي لمن صنعوه.

صمتت لثوان ثم تابعت:

ـ للأسف إنهم موجودون بيننا الآن ويستمتعون بتضليل الناس وارتكاب الأخطاء باسمهم.

قلت لها أخيرا:

ـ ليس باسم كل الناس هنا يا كاثي، فأنت وأمثالك تحاولون قدر استطاعتكم منعهم من ذلك.


هزت رأسها ثم قالت:

ـ هذا صحيح، لكننا لن نستطيع للأسف أن نمنعهم عن شن الحرب القادمة، بكل أسف لن نستطيع ذلك.

ـ إنكم تحاولون يا كاثي، تحاولون قدر استطاعتكم، سيذكر لكم التاريخ ذلك يوما ما.

أشرق وجهها بابتسامة رائعة ثم قالت:

ـ أرجو ذلك ... أرجوه حقا.


******

سلم العراق تقريره المنتظر عن أسلحة الدمار الشامل، وعلى الفور بدأت الولايات المتحدة تتبعها بريطانيا حملة تشكيك واسعة النطاق في مصداقيته رغم عدم انتهاء الفحص الكامل لمحتوياته، على الجانب الآخر ازداد الموقف الفرنسي - الألماني - الروسي - الصيني تشجعا بما أعلنته بغداد عن تدميرها لما كانت تمتلكه من تلك الأسلحة، ورغم هذا الإعلان من جهة، واستمرار عمليات التفتيش المكثف من جهة أخرى، إلا أن شبح الحرب لا يزال يخيم بصورة واضحة على الأجواء في الأمم المتحدة ... بل على العالم بأسره، بلغ العناد الأمريكي - البريطاني مبلغا لا مثيل له، أخبرتني ندى خلال أحد اتصالاتي بها أن منطقة الخليج تشهد حشودا أمريكية وبريطانية متزايدة، وأكد لي حسن ذلك في اتصال آخر، أما كاثي فكثفت من أنشطتها هي والعديد من رفاقها المعارضين لشن الحرب، ورغم ما تقوم به من مجهود كبير لإدارة المكتب أثناء فترة تواجدي شبه الدائم بمقر الأمم المتحدة، إلا أنها تستغل ما تبقى من اليوم للتخطيط هي ورفاقها للعديد من مظاهر الاحتجاج المختلفة، قمت في أحد المرات بحضور أحد اجتماعاتهم ونقلت أرائهم ضمن سلسلة من الرسائل عن موقف الرأي العام الأمريكي تجاه الحرب المنتظرة، بات من الواضح أنه رغم الرفض الدولي والمعارضة الداخلية إلا أن الحرب تقترب أكثر فأكثر، تسربت من خلال بعض وسائل الإعلام المختلفة توقيتات محتملة لموعد بدء الحرب، وجهت سؤالا مباشرا لدبلوماسي أمريكي من كبار معاوني كولين باول:

ـ يتردد أنكم ستشنون الحرب حتى لو ثبت بالفعل أنه لا يوجد أسلحة دمار شامل بالعراق، ما تعليقك على ذلك؟

ابتسم في هدوء ثم قال:

ـ نحن لم نقل ذلك ... بل لقد قال السيد باول أن الحرب ليست حتمية، وإذا أثبت العراق فعلا أنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه لا يتلاعب في تقاريره ولا يقوم بخداع المفتشين فمن الممكن تجنب الحرب.

ـ وهل توافقون على استمرار عمليات التفتيش حتى يتم التأكد من عدم وجود الأسلحة؟

ـ لن نقبل بالتفتيش إلى ما لا نهاية، هذا ما يريده صـدام للإفلات بجرائمه، يجب تحديد موعد قريب لانتهاء عمليات التفتيش وإلا فإن العراق سيتحمل عواقب التسويف.

علقت كاثي فيما بعد على ما قاله:

ـ إنهم لا يجدون شيئا يقولونه، لقد اتخذوا القرار وانتهى الأمر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى