مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - الحقيقة الكاملة (17 - الأخيرة)

(17 - الأخيرة)

اشتعلت سماء بغداد وأرضها، دك القصف العنيف والمركز العديد من المواقع القيادية والقصور الرئاسية وتجاوزها إلى الأحياء السكنية، بدأ الغزو البرى من الجنوب وتضاربت الأنباء عن مدى توغل المدرعات الأمريكية - البريطانية في مناطق أم القصر والفاو والناصرية والبصرة، يبدو أن مقاومة شرسة وغير متوقعة تعوق التقدم السريع للغزاة، في حين تبدو الجبهة الشمالية أقل عنفا نظرا لغياب الدور التركي الواضح عن دعم الحرب، ننتقل بصورة دائمة وسريعة داخل بغداد والمناطق المحيطة بها لنقل الأحداث المتلاحقة دقيقة بدقيقة، عشت ورشيد لثمان وأربعين ساعة متواصلة في حالة من الحركة الدؤوبة لم يغمض لنا فيها جفن ولم نتناول من الطعام والشراب إلا أقل القليل، وعندما أضنانا الإرهاق وغلبنا التعب لم يتح لأي منا النوم سوى ثلاث ساعات فقط، كنا نسمع خلالها دوي القصف والانفجارات العنيفة ونرى عشرات القتلى والجرحى من المدنيين الأبرياء، تتردد أنباء عن أن القوات الأمريكية تحاول اختراق الصحراء للوصول بأسرع ما يمكن إلى بغداد، وفى حين تبادل الجانبان الاتهامات بإساءة معاملة الأسرى، يبقى العدد الفعلي لمن أُسر وقُتل وجُرح من الجانبين مجهولا في ظل حرص كلاهما على ممارسة التضليل والتعتيم الجزئي أو الكلي على بعض وقائع الحرب.

******

نغوص بعمق داخل أتون القصف الذي لا يهدأ، يبدو الصحاف واثقا مما يقول لكن سير المعارك على الأرض لا يؤيد ذلك، الصواريخ الأمريكية تلتهم كل شيء، مبانً سكنية ... مدارس ... مستشفيات ... مساجد، لا أحد يمكنه النجاة من هذا القصف الأعمى، يتحدثون عن قنابل وصواريخ ذكية، قد تكون كذلك ... لكن الذين يرسلونها بالتأكيد هم الأغبياء، أو لعلهم يقصدون ذلك، أليست الصدمة والرعب هدفا من أهداف هذه الحملة؟ لم أعد أعرف هل أنا راض حقا عن التقارير الأخيرة التي أبعث بها أم لا؟ يقول رشيد أنها جيدة، أما بالنسبة لي فأرى أنها محبطة للغاية، تصور واقعا مريرا شاركنا جميعا فى صنعه بدرجة أو بأخرى، هم ونحن ... الغريب والقريب ... القاصي والداني ... المهتم وغير المهتم ... المدرك وغير المدرك، يحاول رشيد أن يخرجني من حالة الكآبة التي تسيطر علي ويردد دائما الآيات الكريمة "فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا" ثم يتبعها بقول الشاعر "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج"، أصبح وجود رشيد معي واتصالي المتقطع بندى هما مصدرا السلوى الوحيدة لي خلال هذه الأيام السوداء، يبدو أن القوات الأمريكية تقترب كثيرا من بغداد، تتزايد الأمور تعقيدا وتتزايد مشاهد القتل والدمار.

******

توجهنا إلى منطقة الأعظمية لمعاينة آثار إحدى موجات القصف المجنون للمدينة، كان حجم الدمار هائلا ... عشرات القتلى والجرحى، قمت ورشيد بإعداد تقرير حي عن الأحداث وبدأت في إرساله إلى القناة، استأذن رشيد لمحاولة الاتصال بأهله في باكستان، انهمكت في إرسال التقرير، انطلقت فجأة صفارات الإنذار، تلفت حولي، سيطر الذعر على المكان، تدافع الناس في غير انتظام، بحثت عن رشيد فلم أجده، سمعت أزيز الطائرات وبدأت القنابل والصواريخ تنهال على المنطقة، جريت بدون وعي في غير اتجاه، تتابعت الانفجارات واندلعت الحرائق، خيل إلي أننى سمعت رشيدا وهو يقول:

ـ اذهب بسرعة إلى المخبأ في الشارع المجاور.

وجدتني مدفوعا وسط الجموع إلى داخل المخبأ، عزف صراخ الأطفال وبكاء النساء وصوت القصف سيمفونية حزينة، أصابتني حالة من فقدان التركيز والذهول، استمر الأمر لفترة لم استطع تقديرها، توقفت فجأة أصوات الانفجارات وساد جو من الصمت الكئيب، بدأ البعض في الخروج من المخبأ، خرجت معهم، هزني ما رأيته بعنف، استعدت توازني، بدأت مع الناس في تفقد الأمور هنـا وهناك، بدأت سيارات الإسعاف في الوصول إلى المكان لنقل العشرات من الضحايا ... كان رشيد من بينهم.


******

أهرول هنا وهناك ... بين أعمدة الدخان ومظاهر الدمار الهائل، الحرائق تندلع في مختلف أنحاء بغداد، إنها ليست حربا ضد الإرهاب أو بحثا عن أسلحة الدمار الشامل، كما إنها ليست بالتأكيد حربا من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان، ليست أبدا حرب تحرير العراق وليست في مصلحة شعبه ولا أي شعب آخر، إنها ليست حتى في مصلحة الشعب الأمريكي، سيعرفون ذلك يوما ما، بل إن بعضهم يعرف ذلك بالفعل ... كاثي ورفاقها يعرفون، يا الله ... أزيز الطائرات يكاد يخرق أذناي، الصواريخ تتساقط من حولي، الناس البسطاء الذين يقال لهم: "جئنا هنا من أجلكم ... لتحريركـم من دكتاتورية صدام" يموتون ويشوهون في كل مكان أنتقل إليه، من المفترض أن أرسل تقريرا عما يحدث، هذا عملي ويجب علي القيام به، لكن هل حقا يمكنني ذلك؟ هل أصبحت مجرد جهاز لتسجيل الوقائع وإعادة بثها؟ آه ... كم أفتقدك يا رشيد ... كم أفتقدك كثيرا، أسير على غير هدى، إظلام دامس ثم إضـاءة مفاجئة نتيجة قصف صاروخي، لم أعد أرى شيئا، أم إنني لم أعد أريد أن أرى شيئا، لكنني أراه ... نعم أراه، أراه الآن بوضوح ... إنه أبي، يا الله ... ما الذي أتى به إلى هنا؟ لم أعد أفهم شيئا، ابتعد ... ابتعد يا أبي ... اركض ... اركض بعيدا عن هنا، ستقتل مع من يقتلون بلا ذنب سوى أنهم يعيشون في أوطانهم، هنا في بغداد ... في غزة أو قندهار ... في أي مكان يتمسك فيه الإنسان بوطنه، اهرب يا أبي ... اهرب سوف تموت، ولكن كيف يموت؟ إنه ميت بالفعل، ويرقد بسلام في مدينتنا الصغيرة، يا الله ... كن معي ... كن معي فأنا لم أعد أفهم شيئا، أين أنت يا أبي؟ أين ذهبت؟ قلت لنا مرة ونحن أطفال صغار:

ـ لا يوجد أحد يمتلك الحقيقة الكاملة.

نعم ... نعم هذا صحيح يا أبي... ليس في دنيانا، يا الله ... ألن تتوقف هذه الطائرات عن القصف أبدا؟ أسمعت يا سيد بوش ... إنك لا تمتلك الحقيقة الكاملة، كما إنك لا تقيم العدالة المطلقة ... هل تسمعني؟ أنا أصرخ بأعلى صوتي ... نعم أنا أخاطبك أنت، لماذا تدعي أنك لا تسمعني؟ إنك لا تقيم العدالة المطلقة، ولا تحاول الادعاء بأن هذا ما تسعى إليه، إنك لست إلها ... ولن تكون أبدا، آه ... ها قد عدت ثانية يا أبي، لا أعرف كيف اجتزت كل هذا الدمار والرعب والموت؟! كيف تقترب بكل هذه السهولة واليسر، لكن من هذه التي تقترب إلى جوارك؟ بوجهها الهادئ البسيط، وشعرها الأسود الفاحم، وعيناها الخضراوان الحنونتان، أهي ندى؟ ما أعذب ابتسامتها، لكن كيف جاءت معك يا أبي؟ لقد تركتها هناك فى دبي، يا الله ... هل أنا أهذي؟ إنهما يقتربان أكثر فأكثر، هما الآن يحيطان بي، يحتضناني، كم كنت أشتاق لحضنك الدافئ يا أبي، وأنت يا ندى ... هل حقا أنت هنا مع أبي؟ هل حقا تحتضناني معا؟ هل رأيت يا سيد بوش؟ إنهما هنا معي، وسيظلان معي إلى أن يشاء الله، لن تمنعهما طائراتك وصواريخك عن أن يحتضناني، لن تمنعني أن أعود إلى مدينتي الصغيرة وأُرقد أبي في سلام إلى جوار أبيه وجده، لن تمنعني أن أتزوج ندى وأنجب منها أطفالا، لن تمنع هؤلاء الذين يُقتلون من حولي عن العودة إلى الحياة، نعم ... نعم يا سيد بوش سيحيون مرة أخرى، سيحيون ويحاولون البحث عن الحقيقة وإقامة العدالة، قد لا يكونا الحقيقة الكاملة أو العدالة المطلقة، لكنهم سيحاولون ... لا محالة سيحاولون.




أيمن مصطفى الأسمر

دمياط - مصر

يناير 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى