كان هذا هو اليوم الوحيد الذي جلسْت فيه خارج مكتبي، فقد كان العمال يقومون ببعض الإصلاحات في أثاثه، وقفَت أمامي بهامتها المديدة، سألَت زميلة تجلس بجانبي عن إجراءات تسوية للمعاش المبكر.
فقد فتحت الحكومة الباب لمن يريد الخروج قبل سن التقاعد، نظرْت إليها بعمق، هذه الملامح ليست غريبة عني! حينما أجابتها زميلتي قائلة: لكن المعاش سيكون أقل كثيرا من راتبك يا نادية !
- هي نادية إذن ! زميلة مقاعد الدراسة لثلاث سنوات متوالية حينما كنا في المرحلة الثانوية . شكرتُ ذاكرتي أنها لم تخنِّي، فلم تتلعثم أبدا في معرفتها. وفيةٌ أنت يا ذاكرتي، رغم ما أبدلته السنون من ملامحَ وما أضافته من تجاعيد في الوجه والبدن .
- ظلت الملامح الأصلية خلف هذه الضجة من الكرمشات واختباء الشعر تحت الحجاب ، والسمنة التي أفسدت الجسد الجميل.
- ما زال في ذاكرتي نادية ممشوقة القوام بشعرها الأسود ووجهها المستطيل اللامع وعينيها السوداوين وأنفها المستقيم . ما زلت أذكر مريلتها الكحلي القصيرة التي بالكاد تغطي الركبة . كانت مرسومة على جسدها الجميل، كأنها نجمة من نجمات سينما الخمسينيات.
إلى الآن صورتها في ألبومي، ، كنا لا نفترق عن بعضنا إلا قليلا. بانتهاء المرحلة الثانوية ولكونها تتبع مركزا آخر غير مركزنا ضعفت الصلة بيننا رويدا رويدا حتى تلاشت فلم أعد أدري ما حدث لها. تراها ستعرفني؟ فلأنتظر لعلها تلتفت إليّ، ها قد نظرتْ لي , لكن نظرتَها خلت من أية دهشة فلا يبدو عليها أنها عرفتني، أأخبرها أنني ابتسام؟
لا..لا.. سأتركها لتعرفني. ظلت تستقصي أخبار التسوية ومن آن لآخر تعيرني نظرة محايدة حتى انتهت من حوارها ومضت.
طالعتها وهي تبتعد, ثقيلة وخطواتها أثقل, تميل يمنة ويسرة مع كل خطوة، لم أشأ أن أخبر زميلتي عن معرفتي بها.
لم يمر سوى يومين وجاءت إلى مكتبنا لتخليص بعض الأوراق، ابتسمت لها وأجلستها بجانبي، راجعت أوراقها، بها الكثير من الأخطاء والنقص، قلت لها: عليك أن تعودي لتستكملي بياناتك، رجتني قائلة: لأجل خاطري يا ابنتي لا تعيديني بها ثانية؛ أنا امرأة كبيرة في السن لا أقوى على الذهاب والعودة مرة أخرى.
ـ ابنتي ! أنا ابنتك؟! ألهذه الدرجة لا يبدو علىَّ أثر السن؟ .. أنا زميلتك التي طالما ضحكنا وتسابقنا معا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي خاطبتني فيها بابنتي، بل ظلت تكررها ما يقرب من عشر مرات وتزيد عليها : أنت جميلة جدا يا ابنتي ربنا يحفظ عليكِ شبابك وجمالكِ، وهنا استحال عليَّ أن أخبرها أني أنا ابتسام زميلتها.
خشيت ... نعم خشيت ..... الفارق كان هائلا جدا. لو قلت أنها زميلة الدراسة لشهقت زميلات المكتب حسدا وغيرة .
كانت تلبس العباءة السوداء وغطاء الرأس الأسود ضاقت العينان الواسعتان وتكدرت البشرة الصافية وتلفت الرموش الطويلة وانكمش الخدان .
كانت يدي بجانب يدها غضة بيضاء، أنا لا أتهاون أبدا في أناقتي. يومها كنت أرتدي الجاكت التركواز ذا الكم القصير وأكملته بالمعصم الدانتيل الأبيض وتألقت أسورتي اللؤلؤية مع خاتمي ذي الفصوص الكريستال, فبدت يدي كأنها لعروس بالغة الحسن. كيف بعد كل هذه المناداة بابنتي أن أخبرها أني رفيقة عمرها؟!
أكملت لها البيانات، سهلت مهمتها ، أوصيت بها زميلاتي فلا يضعن العراقيل – كعادتهن – أمامها.
شكرتني وزادت في مدحي وإطرائي .
فقالت: أحببتك منذ أن رأيتك أيتها الشابة الجميلة. تستحقين الخير كله, ثم دعت لي ربي يسعدك ويرضيك يا ابنتي كما أسعدتِنني .
وداد معروف / مصر
فقد فتحت الحكومة الباب لمن يريد الخروج قبل سن التقاعد، نظرْت إليها بعمق، هذه الملامح ليست غريبة عني! حينما أجابتها زميلتي قائلة: لكن المعاش سيكون أقل كثيرا من راتبك يا نادية !
- هي نادية إذن ! زميلة مقاعد الدراسة لثلاث سنوات متوالية حينما كنا في المرحلة الثانوية . شكرتُ ذاكرتي أنها لم تخنِّي، فلم تتلعثم أبدا في معرفتها. وفيةٌ أنت يا ذاكرتي، رغم ما أبدلته السنون من ملامحَ وما أضافته من تجاعيد في الوجه والبدن .
- ظلت الملامح الأصلية خلف هذه الضجة من الكرمشات واختباء الشعر تحت الحجاب ، والسمنة التي أفسدت الجسد الجميل.
- ما زال في ذاكرتي نادية ممشوقة القوام بشعرها الأسود ووجهها المستطيل اللامع وعينيها السوداوين وأنفها المستقيم . ما زلت أذكر مريلتها الكحلي القصيرة التي بالكاد تغطي الركبة . كانت مرسومة على جسدها الجميل، كأنها نجمة من نجمات سينما الخمسينيات.
إلى الآن صورتها في ألبومي، ، كنا لا نفترق عن بعضنا إلا قليلا. بانتهاء المرحلة الثانوية ولكونها تتبع مركزا آخر غير مركزنا ضعفت الصلة بيننا رويدا رويدا حتى تلاشت فلم أعد أدري ما حدث لها. تراها ستعرفني؟ فلأنتظر لعلها تلتفت إليّ، ها قد نظرتْ لي , لكن نظرتَها خلت من أية دهشة فلا يبدو عليها أنها عرفتني، أأخبرها أنني ابتسام؟
لا..لا.. سأتركها لتعرفني. ظلت تستقصي أخبار التسوية ومن آن لآخر تعيرني نظرة محايدة حتى انتهت من حوارها ومضت.
طالعتها وهي تبتعد, ثقيلة وخطواتها أثقل, تميل يمنة ويسرة مع كل خطوة، لم أشأ أن أخبر زميلتي عن معرفتي بها.
لم يمر سوى يومين وجاءت إلى مكتبنا لتخليص بعض الأوراق، ابتسمت لها وأجلستها بجانبي، راجعت أوراقها، بها الكثير من الأخطاء والنقص، قلت لها: عليك أن تعودي لتستكملي بياناتك، رجتني قائلة: لأجل خاطري يا ابنتي لا تعيديني بها ثانية؛ أنا امرأة كبيرة في السن لا أقوى على الذهاب والعودة مرة أخرى.
ـ ابنتي ! أنا ابنتك؟! ألهذه الدرجة لا يبدو علىَّ أثر السن؟ .. أنا زميلتك التي طالما ضحكنا وتسابقنا معا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي خاطبتني فيها بابنتي، بل ظلت تكررها ما يقرب من عشر مرات وتزيد عليها : أنت جميلة جدا يا ابنتي ربنا يحفظ عليكِ شبابك وجمالكِ، وهنا استحال عليَّ أن أخبرها أني أنا ابتسام زميلتها.
خشيت ... نعم خشيت ..... الفارق كان هائلا جدا. لو قلت أنها زميلة الدراسة لشهقت زميلات المكتب حسدا وغيرة .
كانت تلبس العباءة السوداء وغطاء الرأس الأسود ضاقت العينان الواسعتان وتكدرت البشرة الصافية وتلفت الرموش الطويلة وانكمش الخدان .
كانت يدي بجانب يدها غضة بيضاء، أنا لا أتهاون أبدا في أناقتي. يومها كنت أرتدي الجاكت التركواز ذا الكم القصير وأكملته بالمعصم الدانتيل الأبيض وتألقت أسورتي اللؤلؤية مع خاتمي ذي الفصوص الكريستال, فبدت يدي كأنها لعروس بالغة الحسن. كيف بعد كل هذه المناداة بابنتي أن أخبرها أني رفيقة عمرها؟!
أكملت لها البيانات، سهلت مهمتها ، أوصيت بها زميلاتي فلا يضعن العراقيل – كعادتهن – أمامها.
شكرتني وزادت في مدحي وإطرائي .
فقالت: أحببتك منذ أن رأيتك أيتها الشابة الجميلة. تستحقين الخير كله, ثم دعت لي ربي يسعدك ويرضيك يا ابنتي كما أسعدتِنني .
وداد معروف / مصر