كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع مفتش التعليم الأولي قادماً من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواءٍ في إحدى قدميه؛ فلما بلغ حيث كنا جالسين، ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعداً على مقربة
ومضينا فيما كنا من الحديث. نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى وحادثة إلى حادثة. وقال واحد من السامرين: (رحم الله سيدنا. . . . . . . . .!) فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول:
(سيدنا؟. . . رحمه الله وغفر له!)
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطراً من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئاً ذا بال في كلمة (سيدنا) قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته؛ فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعاً. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقي الشيخ أو تعويذة من تعاويذه
وكان له (كتّاب) يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأى العين. وذات صباح صحبني والدي إلى مكتب الشيخ نعبد الدليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئاً في مدرسة أولية بالمدينة حيث كنت أقيم عند خالي.
ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه. . .
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سناً مما كنت أتصوره في خيالي؛ وأحسبه كان صغيراً حقاً؛ فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية، لم يكن قد جاوز الأربعين بعد. عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف. وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبداً إلى تحت؛ ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلاً عليه بالتحية، حتى مد له يمناه؛ فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها! حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يداً قط، حتى يدي أبيه وأمه!
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذاً من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل. على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع؛ فما هي إلا ساعة أو ساعات في مكتب سيدنا، حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه!
كان الشيخ جالساً في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلوٌ فيها جدائل من خوص أخضر؛ وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها؛ وأمامه صبيٌّ من صبيان المكتب متربع في مثل جلسة المعبود (بوذا) وهو يهتز بين يديه في حركة رتيبة؛ ويقرأ شيئاً من غيب صدره في نعمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكبٌّ على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى. وفي المكتب عشرات من مثل هذا الصبي، قد تربعوا أفراداً وأزواجاً على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعاً، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حيناً، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حيناً آخر؛ والشيخ يخيط أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ. . .
وكنت غارقاً في تأملاتي لا أكلم أحداً ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوي صوت سيدنا غاضباً يتوعد. . . ومال على فخذ الصبي أمامه يقرصه بغيظ والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته من خوف سيدنا! وكان هذا أول الشر؛ ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر؛ ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه. ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه، فندت من بين شفتيه صرخة ألم! حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه (العريف) يعاونه على تأديب الصبي؛ وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولاً على الأرض معلقاً من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوى على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى وبعض على شفتيه من ألم الضرب!
أحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقاً وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعاً منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتبابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور. ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين لدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرأها لترد عني الشر الذي أخاف!
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان المكتب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير؛ ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه. وأني لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعاً ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يتسمحون لواحد من بينهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن (عصا سيدنا من الجنة!)
منذ تلك اللحظة، تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شئ إلى، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. ومالي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسئ إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها، لا أدع قلماً منها له سن تصلح للكتابة؛ وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها تراباً وحصى، وتارات أخرى. . . وما كان سيدنا يعلم من يفعل ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان المكتب جميعاً غرماؤه. . .!
قضيت في مكتب الشيخ عبد الجليل شهراً وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم! كان عليَّ في ذلك اليوم أن أحفظ جزءاً من القرآن الكريم فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل؛ وحلّ ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفاً من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش؛ وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري، حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض ويهوى على رجلي بعصاه!
ومضت ساعة قبل أن يحلَّ ميعاد صبيٍ من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل لنصيد العصافير؛ فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد. . .
وجلس الفتى بين يدي سيدنا مضطرباً منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا؛ وطرق مسمعي قوله: (وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير. . .؟)
ونادى عريفه فأسرع بأداته إليه، وناداني. . . . . .
وقبل أن أرى صاحبي مجدولاً على الأرض، معلقاً من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة؛ فاستجمعت قوتي ووثبت!
لم أدر بعد ذلك شيئاً مما كان إلا وأنا راقد في فراشي، ورجلي مشدودة إلى خشب بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت!
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غالياً، فانكسرت رجلي؛ ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستنداً على عكاز!
وتأوه المفتش وهو يبعث في الأرض بعصاه؛ وغرق السامرون صمت؛ ثم عاد المفتش إلى حديثه:
لم يكن لي طبعاً أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان؛ فدخلت المدرسة الأولية في المدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه؛ ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤلمة مرة؛ ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني؟ وتأرث الحقد في قلبي يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر. . .!
وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي؛ وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية؛ فكان لابد لي أن ألقي سيدنا أو تلميذاً من تلاميذه عابراً في الطريق، فأطأطأ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوى بعصاي على رأسه فأحطمه!
ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم هو شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله؟. . . ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعاً. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه؛ وإن منهم لرجالاً في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء!
وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرساً في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، بضم شتيتاً من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفاً لعهدنا في مثل هذه السن. . .
وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم في اللعب؛ وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم؛ فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام!
وعلى قدر ما كان يسرني مرأى هؤلاء الأطفال، كان يتولاني شعور بالأسف على أني لست صبياً. . .!
وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل (فؤاد)، فإني لأعرفه ويعرفني، وبيتي وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معاً منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن!
وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة، ويود عني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب. وكثيراً ما كانت تحضرني إلى جانب صورته - صورة أبيه في صباه، جالساً على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية، ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات. . . . . .
واستمر المفتش في حديثه يقول:
هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة، إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي!
. . . وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشاً. . وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر - فإني كنت جدَّ مغتبط بما أُسند إليّ من عمل؛ لا زهواً بالمنصب، ولا رغبة في الجاه؛ ولكنها كانت أمنية قديمة في نفسي، ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتّاب سيد الشيخ عند الجليل. . .
أكان ذلك مني عن إخلاص وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا؛ فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام وهي تسمى ذلك إخلاصاً في العمل وحرصاً على مصلحة التعليم. . .؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقيناً لا شبهة فيه، هو أنني كنت فرحاً بذلك، طيب النفس به؛ فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي!
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية!
. . . ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعاداً لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولاً على أكتاف الناس غائباً عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا؛ ثم لم أمش بعدها إلا متوكئاً على عكاز! وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة؛ فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما غرمت عليه يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني!
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ! ودنا مني الصوت رويداً رويداً، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا. . . وما كان لي أن أفعل غير ذلك. . . وأعظم الناس هذه الوفاء، إذ حسبوني لم أقدم إلا لذلك، بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعدّ دون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر!
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكراً، فلم ألق أحداً من الزملاء أحدثه بحديثي؛ وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، لا، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها؛ ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء، وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي!. . . لقد كان قاسياً، جباراً، عنيفاً؛ ولكنه مع ذلك كان رجلاً للناس لا لنفسه؛ وما نالتْه في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد!
. . . فإني لغارق في خواطري وذكرياتي، إذ دخل إليّ صديق من أصدقائي ينقل إليّ النبأ الفاجع:
(فؤاد ابن صديقنا فلان. . . لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له النصح أن يكون رجلاً، ودعا حلاقاً فقص له شعره. . . وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه. . . هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد ليحمل تبعات الغد. . .!)
فؤاد! وا حزناه!
وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته، وعيناه إلى كل غادية ورائحة؛ لا يعنيه من أمر شيءٌ إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة؛ ثم صورة فؤاد الصريع مسجي في أكفانه، ومشيع جنازته أول من يلعنه!
وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي. . . . . .
ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه؛ فهتفت في تأثر:
(سيدنا. . .؟ رحمه الله وغفر له!)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 339
بتاريخ: 01 - 01 - 1940
ومضينا فيما كنا من الحديث. نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى وحادثة إلى حادثة. وقال واحد من السامرين: (رحم الله سيدنا. . . . . . . . .!) فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول:
(سيدنا؟. . . رحمه الله وغفر له!)
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطراً من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئاً ذا بال في كلمة (سيدنا) قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته؛ فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعاً. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقي الشيخ أو تعويذة من تعاويذه
وكان له (كتّاب) يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأى العين. وذات صباح صحبني والدي إلى مكتب الشيخ نعبد الدليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئاً في مدرسة أولية بالمدينة حيث كنت أقيم عند خالي.
ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه. . .
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سناً مما كنت أتصوره في خيالي؛ وأحسبه كان صغيراً حقاً؛ فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية، لم يكن قد جاوز الأربعين بعد. عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف. وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبداً إلى تحت؛ ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلاً عليه بالتحية، حتى مد له يمناه؛ فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها! حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يداً قط، حتى يدي أبيه وأمه!
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذاً من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل. على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع؛ فما هي إلا ساعة أو ساعات في مكتب سيدنا، حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه!
كان الشيخ جالساً في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلوٌ فيها جدائل من خوص أخضر؛ وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها؛ وأمامه صبيٌّ من صبيان المكتب متربع في مثل جلسة المعبود (بوذا) وهو يهتز بين يديه في حركة رتيبة؛ ويقرأ شيئاً من غيب صدره في نعمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكبٌّ على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى. وفي المكتب عشرات من مثل هذا الصبي، قد تربعوا أفراداً وأزواجاً على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعاً، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حيناً، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حيناً آخر؛ والشيخ يخيط أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ. . .
وكنت غارقاً في تأملاتي لا أكلم أحداً ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوي صوت سيدنا غاضباً يتوعد. . . ومال على فخذ الصبي أمامه يقرصه بغيظ والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته من خوف سيدنا! وكان هذا أول الشر؛ ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر؛ ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه. ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه، فندت من بين شفتيه صرخة ألم! حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه (العريف) يعاونه على تأديب الصبي؛ وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولاً على الأرض معلقاً من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوى على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى وبعض على شفتيه من ألم الضرب!
أحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقاً وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعاً منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتبابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور. ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين لدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرأها لترد عني الشر الذي أخاف!
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان المكتب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير؛ ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه. وأني لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعاً ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يتسمحون لواحد من بينهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن (عصا سيدنا من الجنة!)
منذ تلك اللحظة، تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شئ إلى، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. ومالي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسئ إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها، لا أدع قلماً منها له سن تصلح للكتابة؛ وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها تراباً وحصى، وتارات أخرى. . . وما كان سيدنا يعلم من يفعل ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان المكتب جميعاً غرماؤه. . .!
قضيت في مكتب الشيخ عبد الجليل شهراً وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم! كان عليَّ في ذلك اليوم أن أحفظ جزءاً من القرآن الكريم فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل؛ وحلّ ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفاً من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش؛ وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري، حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض ويهوى على رجلي بعصاه!
ومضت ساعة قبل أن يحلَّ ميعاد صبيٍ من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل لنصيد العصافير؛ فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد. . .
وجلس الفتى بين يدي سيدنا مضطرباً منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا؛ وطرق مسمعي قوله: (وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير. . .؟)
ونادى عريفه فأسرع بأداته إليه، وناداني. . . . . .
وقبل أن أرى صاحبي مجدولاً على الأرض، معلقاً من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة؛ فاستجمعت قوتي ووثبت!
لم أدر بعد ذلك شيئاً مما كان إلا وأنا راقد في فراشي، ورجلي مشدودة إلى خشب بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت!
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غالياً، فانكسرت رجلي؛ ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستنداً على عكاز!
وتأوه المفتش وهو يبعث في الأرض بعصاه؛ وغرق السامرون صمت؛ ثم عاد المفتش إلى حديثه:
لم يكن لي طبعاً أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان؛ فدخلت المدرسة الأولية في المدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه؛ ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤلمة مرة؛ ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني؟ وتأرث الحقد في قلبي يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر. . .!
وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي؛ وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية؛ فكان لابد لي أن ألقي سيدنا أو تلميذاً من تلاميذه عابراً في الطريق، فأطأطأ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوى بعصاي على رأسه فأحطمه!
ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم هو شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله؟. . . ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعاً. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه؛ وإن منهم لرجالاً في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء!
وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرساً في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، بضم شتيتاً من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفاً لعهدنا في مثل هذه السن. . .
وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم في اللعب؛ وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم؛ فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام!
وعلى قدر ما كان يسرني مرأى هؤلاء الأطفال، كان يتولاني شعور بالأسف على أني لست صبياً. . .!
وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل (فؤاد)، فإني لأعرفه ويعرفني، وبيتي وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معاً منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن!
وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة، ويود عني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب. وكثيراً ما كانت تحضرني إلى جانب صورته - صورة أبيه في صباه، جالساً على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية، ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات. . . . . .
واستمر المفتش في حديثه يقول:
هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة، إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي!
. . . وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشاً. . وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر - فإني كنت جدَّ مغتبط بما أُسند إليّ من عمل؛ لا زهواً بالمنصب، ولا رغبة في الجاه؛ ولكنها كانت أمنية قديمة في نفسي، ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتّاب سيد الشيخ عند الجليل. . .
أكان ذلك مني عن إخلاص وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا؛ فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام وهي تسمى ذلك إخلاصاً في العمل وحرصاً على مصلحة التعليم. . .؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقيناً لا شبهة فيه، هو أنني كنت فرحاً بذلك، طيب النفس به؛ فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي!
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية!
. . . ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعاداً لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولاً على أكتاف الناس غائباً عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا؛ ثم لم أمش بعدها إلا متوكئاً على عكاز! وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة؛ فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما غرمت عليه يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني!
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ! ودنا مني الصوت رويداً رويداً، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا. . . وما كان لي أن أفعل غير ذلك. . . وأعظم الناس هذه الوفاء، إذ حسبوني لم أقدم إلا لذلك، بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعدّ دون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر!
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكراً، فلم ألق أحداً من الزملاء أحدثه بحديثي؛ وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، لا، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها؛ ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء، وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي!. . . لقد كان قاسياً، جباراً، عنيفاً؛ ولكنه مع ذلك كان رجلاً للناس لا لنفسه؛ وما نالتْه في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد!
. . . فإني لغارق في خواطري وذكرياتي، إذ دخل إليّ صديق من أصدقائي ينقل إليّ النبأ الفاجع:
(فؤاد ابن صديقنا فلان. . . لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له النصح أن يكون رجلاً، ودعا حلاقاً فقص له شعره. . . وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه. . . هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد ليحمل تبعات الغد. . .!)
فؤاد! وا حزناه!
وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته، وعيناه إلى كل غادية ورائحة؛ لا يعنيه من أمر شيءٌ إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة؛ ثم صورة فؤاد الصريع مسجي في أكفانه، ومشيع جنازته أول من يلعنه!
وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي. . . . . .
ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه؛ فهتفت في تأثر:
(سيدنا. . .؟ رحمه الله وغفر له!)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 339
بتاريخ: 01 - 01 - 1940