محمد محمود غدية - صقيع وشتاءات

إنهمرت الدموع من عينيها، وهى تقلب فى صفحات كراس الحب الذي سجل فيه يومياته وأهداه إليها فى عيد ميلادها، ومعه وردة حمراء وساعة يد فاخرة قرأت :
أنت أجمل وردة فى بستان العشق، تسحرني رشاقة أناملك وصوتك وعبقك، رشحتها الجامعة فى بعثة علمية بالخارج، تركته للوحدة والصقيع، وشتاءات بلا نهاية، حبه لها بحجم الكون، دونها كل شيء باهت، تحيط به هالة من ضباب مصفر غير صاف، يتردد على كل الأماكن التى كانت تبارك حبهما، مقهى الفيشاوي حيث الشاي المنعنع وحكايات الأدباء، وكوبري قصر النيل، وحده القمر الذي أرسل ضياءه وبدد الظلمة، فأكسب ماء النهر لونا فضيا رائقا، عيناها كانتا تتحدثان وفمها مطبق، إذا نطقت إنسابت الموسيقات العذبة، طال إنتظاره وعمره يتساقط كأوراق خريف ذابل، رسائلها بنكهة الشوق لا تصل، فى رسالة مختصرة، إعتذرت أن شبكات التواصل إنقطعت لإندلاع الحرب فى البلدة التى تعيش فيها، وأن وجع الغياب خط سواد الكحل بعينيها،
رائحة ضفائرها موغلة بذاكرته، ينتحب فى صمت، إنتظارا لغائب لا يعود، هاتفته من بلدة مجاورة بعد سنوات خمس، أنها عائدة وعليه إنتظارها فى المطار،
فى المطار لم يذهب وحده، وإنما معه جيش إشتياقه كله وباقات ورد، لتلكمه مفاجأة مروعه، وهى تلقي بين أحضانه طفل فى عمر العامين قائلة : فادي إبني أسميته باإسمك، فى السيارة شعر باإختناق وهى تحدثه عن والد الطفل بروفسير جزائري، أستاذها والمشرف على رسالتها للدكتوراة، تزوجا بعد أن قدم لها فرصة العمر،
فى تعيينها أستاذة مساعدة بالجامعة، السيارة تضيق به، تضغط على أعصابه تكسره، الشمس تسحب أشعتها الأخيرة، تتكلم وتتكلم
لا يسمعها، وإنما يسمع دقات تصم أذنيه أشبه بالطبول الأفريقية، فشل فى مغالبة دمعة حبيسة سقطت ولسعته سخونتها، لم تلمح خاتم زواج فى إصبعه، رددت مع نفسها أنه مازال يحبها، يريد الهروب من هذا السرداب المظلم،
ضجيج الصمت يطحن عظامه، كانت له بمثابة الوطن الذي يسكنه ويرتاح إليه، يشرد ببصره وخواطره على إمتداد صفحة النيل، الأضواء المنعكسة عليه تشاركه رقصة الوجع، فى منزلها إكتشف أنها كانت على تواصل مع أسرتها طوال غيابها، ولم يكن هناك عائق فى تواصل الشبكات العنكبوتية كما أفهمته ولا حروب هناك، أجهزت على حلمه، ومزقت قلبه وحولته إلى مايشبه نشارة الخشب،
إختصر الزيارة والكلام وغادر،
مازال مأسورا بعينيها وهو يكتبها هنا فى حكاية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى