إلهام بورابة - الظالـــــــــــــة

أكتب شعرا في الخفاء
عن حبيب أخضر،عوده ابتسامة ، جبينه السّماء.
أتسلّقه ورقة تفرك الحياة بذكرى . فهل للشعر مَثَـلٌ له أتأمّله؟

حين غادر جدّي الريف باكرا ، يلحق امرأة في ملاءتها ترتعش مدينة سوداء ، كان ثملا . لذلك ترك كلّ أرضه لأخيه بقمحها وفاكهتها ودوابها . لم يكن يعرف الدنيا غير في ملاءة مرتعشة. وكانت هي كبيرة خدم أسرة عريقة ، تخرج إلى السوق لابتضاع ما تشتهي النساء إدخاله على رجالهن خفية ، أو تقصد دارا بعد دار رفيقات لها تبادلهن أخبار لّالاّت الدّور وكان هو قد لحظها وقتها خارجة بعُـدّة زينة من بيت واحدة منهن حين أسهمت لحاظها لعينين بزرقة السّماء ولم يدر كيف بلغت لحاظها حشاه ، فتلوّى كأنّ نارا أسعرت جوفه . لم يكن رجعه الأصفر ما جعلها تهتم به ، لكنّه القصف الأوّل.

وهكذا نشأت أسرة جديدة في المدينة ، حتّى إذا انقشع ظلام الاستعمار استنار أبناؤها وحلّ جيل جديد حضري وكأنّ الريف لم يكن قط واديا يسابق الدم في عروقه. لكن وفاة أخ جدّي كان حدثا تجهّزت له جدّتي التي لم تعرفه من قبل ولم تعرف الريف ولا جذور الزوج الذي توفّى باكرا غداة الاستقلال ، تجهّزت لتعود تحصي إرثها . لكن بدل الإرث عادت بناس اشمأزّت أرواحنا عند حلولهم من هيئتهم ورائحتهم. وسنة بعد سنة ، تآلفنا ، وألفت أنا صبيّة في مثل سنّي تدعى شنّودة.

في زيارة لنا ، أحضرت شنّودة بلّليري ،و كان الفصل ربيعا ، لكنّه ذبل في يديها الصغيرتين قبل أن تلحق للبيت ، لذلك دعتني للعودة معها مادامت العطلة فهتف أخي فؤاد : أجل ، اذهبي . وأسرّ لي " تهنية من ريحة الدّواب" .

للوصول إلى " بيزّو " استقلنا القطار . ومن القرية إلى دوّار " سوني" شحذنا الأقدام . وكان الربيع طلقا فمضى بنا رشيقتين ، هي ابنته وأنا ضيفته فكانت حفاوته بي كأس نشاط وحبور . كنت أتخلّل الحقل الممتدّ حلما تحقّق ،دودةً أقلب عالي العشب وأُثير طينا من حذائي وأقطف زهرا وأتناول من حشيش كنت أراها تفعل ففعلت ، وأقلّب بصري في التلال الناهدة أمومة ترضع الكون المتمرّغ في حضنها ثمّ أحطّه على المكعبّات المبعثرة وهي تشير إلى مكعّب مازال بعيدا : تلك دارنا . وتسألني : هل تعبت؟ وأقول كذبا : لا .

ونسمع صوتا ينادي : شنّودة ، شنّودة . ودون أن تلتفت تقول : ذاك أخي ، يرعى بالخراف . البقرات في ناحية أخرى رفقة جدّتي. فألتفتّ لأرى القطيع قد اقترب فأقتربُ من خروف جميل فتقترب منى أمّه فأخاف ، أعود إلى وراء فأقع ، وتنهش الطّين فستاني الأبيض فأسبّ الخروف وأمّ الخروف فتضحك شنّودة وأخوها فأضحك ونتابع السّير وهاهو البيت يستقبلنا بكروم ورائحة الدّواب.

لا أنس ما حييت مائدة نصبت بلذيذ ما سخت به الأرض طازجا وما جادت به بقرة حلوب شهدا مصفّى ، ولستُ أنسى الرّاعي الوحيد الذي كان يتأبّط أيضا كتبا ويمضي إلى مدرسة بعيدة ، ولا ظالّة من ظلال الكروم فوق سقف البيت كنّا نصعد إليها أنا وشنّودة في القيلولة ، هي تحوك نسيجا من الصوف أو من الخيط الملوّن تعدّه لجهاز لم أكن أنا أفهم معناه ، كنت أرقد على بساط وأحلم بالبساط الذي كنت أجري به قبل أن نُحتجز بالظّالة . وكان هو هناك أيضا ، على الظّالة المتاخمة ، يقرأ كتبه ويرتاح من ملاحقة خرافه. خرافه أنا من كان يلاحقها ويعدّها في الحلم الذي فوق السّقف على الظّالة.

وكنت أعود إلى بيتنا حميراء تطلع على خدّيها شمس الدّوار باكرا ، فتفرح بالدّوار على وجهي جدّتي ، وكان دوّار الشّمس في يدي أعود به مع باقات البلليري وأزهار بريّة أجمعها من الوادي ويقترب منّي أخي فؤاد مشمئزّا : أخ....... ريحة الدواب فيك يا الدّواريّة. فأمتعض وأردّ عليه : كسول بليد. ووجد فيّ أبي عند عودتي من آخر زيارة بعد عديد الزيارات تفتّحا كالزهرات فنبّه أمّي : لا تدعيها تمضي مع شنّودة مرّة أخرى. الفتية في الدّوار تتّقد عواطفهم باكرا ولا تؤمن .لذلك في المرّة التي جاءت فيها شنّودة لتأخذني كنت قد لُقِّنت تبريرا لقطع صلتي بالدّوّار. وصرّح فؤاد : حبّذا لو تنقطع عنّا شنّودة أيضا . صرت لا أتحمّل رائحة الدّواب في "بلوزتها "، ولا الزيت يقطر من " فولارتها".

......

لا أنس ما حييت الظّالة ، ولاما فعله بي أبي. ذلك الفتى الذي تفتّحت غرائزه عليّ باكرا ، باع أرضه وهاجر إلى ألمانيا ، اليوم يعود بروفيسور في الفيزياء وله ابنة شاعرة . وأنا أراسلها شعرا أخفي فيه فتى وأدلّها على النّهر في قصائدها وأضللها عن الظّالة.

لماذا تخبرني شنّودة اليوم بضرورة مرافقتها إلى بيتهم القديم ، بيت جدّي أيضا ، المتاخم لبيت الراعي البروفسور،وهي تعلم بأني لا أحبّ رائحة الدّواب ولا نسوة الدّوّار ولا حتّى دروبا وعرة لم تهيّئها يد التمدّن الزاحف إليها عكس الهجرة الأولى؟

وي ! تعجّبت لمّا قلت لها بأني أكره الدّوّار. ومنذ متى صرتِ تكرهين الدّوّار؟ يومها كان لها شهر من الزواج وكانت تستعدّ لأوّل زيارة لها لبيت أهلها والعادة أن يرافق العروس في أوّل زيارة كلّ أهل الزوج. ولم أرافق الذّاهبين بها إلى بيت أهلها وترجّاني أخي فؤاد لكنّه لمّا رأى ثباتي على رأيي قال غاضبا : حقودة . ورددت : معميّ.

فمنذ متى صارت البلوزة برائحة الدّواب فستانا أبيض عابقا بالياسمين؟ و الحمار يتحوّل إلى سيّارة وتصير الفولارة التي ترشح زيتا شَعرا ناعما يأخذ بلبّ فؤاد ؟ أم أنّ فتيات الدّوّار تتأخّر بوائقهنّ إلى أن تمدّ المدينة ذراعها أشبارا تحت البلوزات بلا غلالة تحمي ثروات داخليّة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى