كاظم حسن سعيد - التوابيت...

1
كان يغلي السمك في بيت اقاربه واتاه الصوت من الهاتف ( اسرع فقد تتمكن من رؤية اخيك قبل وفاته او لا تتمكن , نحن في المشفى).
راى الطبيب يفحصه فادلى اليه بمعلومة طبية فرفع هذا اليه وجها محتقنا وقد توترت جبهته وقال ممتعضا (انت فقط هذا ما تعرفه).
كان بدشداشته الرمادية ممدودا يحتضر , متخلياعن كل اصراره عن مقاومة المسحقات ولن يستطيع ان يشهد خمس بنات وولدين يحلقون حوله ساعة يعود براتبه الزهيد ولكل مطالبه .
لم يستطيع ان يقول مازحا مرة اخرى ( المراة ان تنام معها ثلاثا ورابعة للاشتهاء ) , سيتوقف عن حديثه الذي لم ينقطع لسنين عن المدفع حين كان يؤدي الخدمة الاجبارية في الجبهة الايرانية او ربايا الشمال .. مرة قال مفجوعا وهو يحاول ان يكسر خشبة ( اين ذهب الحيل , حين كانت الخرسانة تهوي من قوة يدي).

كانت امه تنام على التراب لان ولدها في الجبهة على التراب .
وكانت نذرت عندما يساق للخدمة العسكرية ستهلهل وهوما حدث فحين مروا تتقدمهم جوقة اطلقت هلهولتين ثم بدأ العويل .
نشأ مريضا تمر به حالات صرع وقالت امه كان جميلا وبدينا وهو بعامه الاول وكنا نحممه في طست واتت امراة لم تصل على النبي فسحرته بعين حاسدة .
تجمدت ملايين الذكريات البارقة والمفجعة انه الان يكاد لا يسمع شهقاتهم على السرير .
اخيرا سيستريح.
بعد ساعة فارق الحياة وذهبوا لاحضار التابوت من الحسينية القريبة وصادف وجود فتيات جميلات ووسخات يتلفعن وظهر من لهجتهن انهن من عوائل انحدرت من الاهوار ورجونهم ان يصحبوهن لانهن ذاهبات للحسينية ايضا .
في الطريق عرفوا بانهن يقصدن منطقة بذات الاسم تبعد ثلاث كيلوات عن موقع التوابيت, وكن يتضاحكن لانهن يقصدن منزل مسن توفي ليلة الدخلة على عروسه .
2 كان الرجل البدين البسيط الكريم ميكانيكيا ماهرا.
في السبعينيات قصد الكويت والامارات وفتح محلين لتاهيل العجلات وتمكن من جمع ثروة .
وعندما سحق الحصار الناس وبدؤوا يتغذون على طحين شحيح ممزوج بالرمل او ياكلون الاعشاب في العراق لعشر سنوات كان يضع المال في اكياس كبيرة احدها وضعه امانة لدى احدى بناته .
كان حاتميا فقد منح قطع اراض ومبالغ بلا مقابل لاقربائه .
قال له الطبيب اخيرا لو حركت مفكا سيقضى عليك فقلبك لا يتحمل ابسط جهد .
طلقت ثلاثة من بناته كل واحدة عادت برضيع او صغار صاخبين ونفذت ثروته اثر دفع ديتين لقبيلتين تسبب بهما نجلاه .
قال لصاحبه ( كنت اسافر كثيرا لبلدان عربية وهناك اعمل لاطيل من سفري ولذتي وفي العمل يطلق عليّ الثعلب , اتدري مرة قصدت المغرب وقصدت نجارين واقنعتهم باني استطيع انجاز بعض الدواليب , لم تكن لي خبرة واضحة لكن الاصرار ساندني فعملت لديهم , بعدها وجدت عملا افضل فساله صاحبه فاجاب ( انه نجارة التوابيت, كان عملا مدرا وسهلا ).
يقبع الان وحيدا مع زوجة بدينة بعد رشاقة كئيبة وتزدحم فها الامراض المزمنة , وعندما يحتاج شراء رغيف من فرن يبعد نصف كيلوعنه , يسخر منه احفاده الصغار ( نحن لدينا دراسة ولا نستطيع).
لقد شهد ثمن طيبته وادرك لكن بعد فوات الامان فما الذي يجدي ان تكتشف فداحة الخسارة بعد فوات الامان.
3 انها خالته من ام اخرى رآها وهو مراهق وهي في الريعان ونسيها, عاد زوجها من الاسر بعد خمسة عشر عاما , زاخرا باقسى الامراض وجفاه الاهل والناس . ان تخوض وتنجو من محرقة الحرب وتعود كبعير معبد تسح كيس التبول المثبت في جسدك فتلك كارثة .
بعد اربعين عاما سكنت جوارهم انها الساعة مستقرة في التابوت .
علم وهو في الشارع بالخبر فقصد دارهم .
كان التابوت وسط الدار وجمهرة تتكاثر وهن جالسات يحتضننه مشعثات ومعولات يلطمن على العيون ويطرقن بالقبضات على التابوت واقترب بقاطه النيلي وعطره ورباطه الاحمر واستقر واقفا واجما امامه , فجاة رفعت راسها بنتها الصارخة وامسكته من الرباط وسحبته بعنف مع صرخات مدوية.
ظل لربع قرن يفكر بالحادث ولم يتمكن من تفسيرالحالة , لماذا سحبته من الرباط حتى كادت تخنقه , قال ربما هي شبيهة بهياج الثور من اللون الاحمر .
4 في المغيسل كانوا يسكبون الماء على رجل مسجى ويعاملون الجثة بالكافور فغادرهم ليتنفس خارج رائحة الموت في الجامع .
رأى اهراما من التوابيت السود الفارغة على ضفة نهر آسن تنبثق منه الروائح النتنة وتشيعه رائحة الموت.
كانت صورة تدعو للفزع , كانت التوابيت اعصارا غير مرئي للمنايا المتراكمة , تابوت يعلو تابوتا وتابوت ينحرف عن اخر مشكلات هندسة فوضوية , كتلة من الاجل الاسود , كتل ظلامية في ظهيرة ساطعة.
من هو صاحب الحظ السعيد الذي سيسكنها لثماني ساعات بعد ان يتوج بالرفع على الاكتاف في موكب يصدح ( لا اله الا الله ) , حيث يستقر في مصير يستحيل على أي احد ان يخمنه .
واذا حملت الى القبور جنازة فاعلن بانك بعدها محمول .
5 كانت ذات انفة نادرة تقطع كيلوات ولا تطلب طاسة ماء من احد في ظهيرة تموز الصاهرة ( سيمنون عليّ يوما ) , كانت تقول .
خمس من بناتها لا بد لهن من عفة وسد رمق ذلك كان الامتحان الذي عليه ان تجتازه وقد اكرهت زوجها ان يطلقها بعد ان اقترن باخرى .
انها الان تستقر مع علب بسيطة والوان من البهارات وعلك المر ومكانس من الخوص , تقبع امام محل صانعي التوابيت تحيط بها الفاقة ورائحة المنايا .
انهم يعملون باجتهاد في انتظار الموتى .
منذ الصغر فكر ان الانسان كما تسحق نملة فتموت سيموت , الفرق ان النملة لا احد ينوح عليها او ينصب لها سردقا او يقصدها معقّلون برايات واهازيج واسف كاذب , بلا مآتم تقام ولا احد يستمع للتلاوة , اونائحات .
لكن جمهرة بعد ان حمل فقيدهم من التابوت ليمكث في ظلامه وحفرته رآهم يتشاجرون مع الدفان , وكان شجارا طاحنا , وتدخل حكماء ومصلحون حتى انزل الميت في قبره .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى