أنس الرشيد - مشاهد على سور القرية

1- ابتداءً لابدَّ من إيضاح أنَّ هذا المكتوب تحقيقٌ لمخطوطةٍ كُتبت عام 1970م، لأحدِ أفرادِ القرية التي أنتمي إليها، وهو حين غادر وعيُه إلى حيث لا أدري، تركَ أشياءَه في صندوقٍ بُني قديم. لم أجد من هذه المشاهد إلا ما هو مُدوّن هنا، ومازلتُ أبحث عن أوراقٍ تُكملها أو تُضيف عليها.
وقد أنشر لاحقًا مخطوطات أخرى له.
2- ثم أريد أنَّ أوضح أنَّ العنوانَ لم يكن موجودًا في أعلى الصفحات، بل وجدتُه بخطِ كاتبها في آخر ورقات المشهد الخامس:
بهذا اللفظ: "هذه مشاهد على سور قريتي". فابتكرت لها عنوانا من وحي قولِه.
3- طلبتُ من ورثتِه المباشرين أوراقَه الإبداعيّة، فأعطوني إياها مشكورين، مع تنازلٍ عن حقوق النشر لي.


.
الورقة الأولى:

المشهد الأول:
زُقَاق ضَيّقِ، وجدرانٌ مهترئة...؛
يُسلَّط بصيصُ نورٍ على رجلٍ عجوز يسير بعكّازتِه بِبطءٍ وبجواره صندوقٌ رماديٌّ كبير، كُتِبَ عليه: (مَنْحَلة)


(يفتح الرجل العجوز الصندوقَ ويُدخِل يده، فيعلو طنين نحل)
- العجوز (يلعق أصبعه): طعم لذيذ! لا شيء جديد!
(يَلوي عنُقه من أثرِ قرصة):
- العجوز: إنه مُؤلِم، لا شيءَ جديد!
(يضرب كفّيه ببعضهما علامة على قتل نحلة ويرفع صوته عاليًا):
- "الكلُّ يَعرف الكلّ. أين المفر؟"

يُردد الجملةَ مراتٍ عديدة، حتّى يَخفت الضوءُ شَيئًا فشيئًا، إلى أن يَحلّ الظلامُ الدامس...،
ثُمَّ يُسلَّط الضَوءُ على الزقاقِ وقد صار فارغًا...،
وفي الخَلفيةِ صَوتُ امرأةٍ تتحدَّث:
- "في هذا الزقاق تَنتهي الآمال، لا جديد."

.
المشهد الثاني:
لم أجد لهذا المشهد ورقة، فهو مفقود كله؛ لكن لا يَأسَ، فربما سيظهر يومًا ما. وما زلتُ أُنَبِشُ في أوراقِ هذا الرجل، وفيها من المتعة ما يجعل القارئ يُكمل نقصها من قريحته المتواطئة مع الصراع. وربما أُخضِع ُ أوراقَه لتحليلٍ دقيقٍ يُساعِد على إكمالِ الناقص.
.
الورقة الثانية
المشهد الثالث:
وجدتُ ورقةً كُتِبَ عليها المشهدُ الثالث، إلا أنَّ جزءًا من النص مفقودٌ...! ولم أجد منه إلا التالي:
(صوتُ جلبةٍ تعلو، ثم تَخرج رعدة في الساحة وتنظر إلى هند وسعاد والرجل العجوز):

  • رعدة: لقد رأيتكما منذ البداية، وعرفتُ أنكما تُخطِّطَان مع العجوزِ لأمرٍ ما. هذه الرسالة جلبتم لكم الأرق. اسمعوا مِنّي: عليكم إحراق الرسالة، فإن كانَ لها معنى فسيظهَر منعكسًا على صفحة النار، وإن لم يكن لها معنى، فسينتهي كل شيء. النار بيدها الحل!
(التفتتَا هند وسعاد إلى الرجلِ العجوز وعلى وجهيهِما تَعجّبٌ واندِهاش):
  • سعاد: هل يُمكِن أن يَنجَح هذا الحلّ أيُّها العجوز...؟
  • الرجل العجوز: الكُلّ يَعرِف الكُل. فالذي يُحرقها سيُذبَح. إذا أردتّم هذا الحل، فلابدَّ من اتفاقِ القريةِ كلّها على الإحراق.
(صَوتُ نباحِ كَلب، يَخفِت شيئًا فشيئًا، ثم يأتي صوتُ العمدةِ غاضبًا):
  • مؤكدٌ أنَّ هذا النُبَاح على أمرٍ ليسَ مباح! سأذهبُ لأنظر مَا الأمر قَبلَ أن يَحلّ الصَباح.
الورقة الثالثة:
المشهد الرابع
بداية هذا المشهد توضح أنَّ نهاية المشهد الثالث مفقودة.
(فِي مَجلسِ العمدة؛ كرسِيٌّ كبير في رأسِ المَجلِس، يَجلِس عليه العمدةُ. وعلى يمينه كرسيان صغيران يَجلس عليهما الرجلُ العجوز والمرأةُ الهزليّة رعدة، وكرسيان صَغيران على يَساره تجلس عليهما هند وسعاد. وبينهم طاولة. وعلى جدارِ المجلسِ عُلِقَت لوحة كبيرةٌ رسِمَ فيها شَجرة القرية)

  • العمدة (غاضبًا): لم أجد الرسالة في خزينتي!، من المؤكد أنَّ اجتماعكم حول مجلسي في الليل، كان بغرض السرقة!! فمن سَرقها منكم يا أولاد القرية؟
  • سعاد (باضطراب): والله لم نفعل شيئًا.
  • رعدة: ربما ليس هناك رسالة أصلًا، وأنتَ تخترع حكايةَ السرقة لتُسوِغ كذبك.
  • الرجل العجوز: الكل يَعرف الكل، لا جديد.
  • هند: أنا سرقتها.
  • سعاد (تنظر لهند باستنكارٍ واندهاش): لستِ أنتِ، لم تُفارقيني أبدًا.
  • العمدة (يبتسم بخبث): لَم تُفَارقكِ...!، لماذا إذن لا تكونِين شريكتَها في السرقة!؟
  • سعاد: شريكة مَن، نحن كُنَّا نريد أن نقتحم...! (تقطع هند كلامَ سعاد):
  • لم نكن شيئا، أنا قلتُ لك أنا من سرق الرسالة...!
  • العمدة: إذن أعيديها وإلا أقمنا محكمتك.
  • هند: ألم تكن أنت تريد معرفة معنى الرسالة، وكنت تبحث عن الرجل العجوز، ها هو الرجل أمامك...، اسأله عن مضمونها...؟
  • الرجل العجوز: أنا لا أعرف شيئا عن الرسالة، فلماذا افترضتم أنني أعرفها.؟
  • العمدة: أليست كلمتك المحببة "الكل يعرف الكل، لا شيء جديد"؟
  • الرجل العجوز: بلى.
  • العمدة: طالما أن كُلّ أفراد القرية متفقون أنّ لك يدًا في دخولها، إذن أنت تعرف مضمونها.
  • هند: ما عدا أنا.
  • الرجل العجوز: طالما أنَّ هناك واحدًا لم يتفق، فتطبيقك للمقولة ناقص.
  • العمدة (غاضبًا): هند!! يا صاحبةَ الرذيلة، تتعمّدين إفسادَ خُطَطِي لفكِّ ضفائر الجديلة!
  • رعدة (مستهترة وبحركةِ رعب): سجعك المتعفّن سينقل ضفائرَ جديلةِ هند إلى شَعرك يا عمدة!! وستكون الرسالةُ لعنةً عليك!
  • هند: أنا سأريحك يا عمدة، وقَد سَرقت الرسالةَ لأخبركم بمعناها غدًا صباحًا.
  • سعاد: واللهِ لم نَسرق شيئًا!!
  • العمدة: ولماذا غدًا صباحًا؟ أخبرينا الآن.
  • هند: لما سرقتُ الرسالةَ، جاءني رجلٌ في البيت واغتصبَها مني وغاب لا أدري أين. والسبب كما فهمته، لأنّنا لم نعرف مضمونها..، ثم أخبرني بمعناها، وأوصاني أن أخبركم به مع شروقِ الشمس وأمام أهلِ القرية كلهم.
  • العمدة: حسنًا، سنجمع الكلَّ غدًا مع الشروقِ في ساحةِ القرية.
  • الرجل العجوز (ينظر لهند ويَضرب كفًا بكف): لا شيءَ جديد، الكُلُّ يَعرف الكل.
الورقات: الرابعة والخامسة والسادسة:
المشهد الخامس
ورقات هذا المشهد ممزقة في أطرافها، ولم أستطع أن أجد منها كلاما مفهوما إلا التالي:
الورقة الرابعة:
(صوت جلبة، والكُلُّ يتحدث):
  • كيف هذا؟ كيف يكون خطابٌ لكلِ واحد منا، في رسالة صغيرة!
  • الرجل العجوز (صائحًا بأعلى صوته): الكل يعرف الكل، لا جديد.
(التفت الناسُ على سعاد، فلم يجدوها، وصرخَ العمدة):
  • أين اختفت المجنونة، أتظنُّ أنَّ الناس لها ممنونة!؟
  • رعدة (قفزت إلى وسطِ المتجمهرين): أيُّها الناس، لقد اضطُرّت سُعاد إلى مغادرة المكان، لكنها أخبرتني بمضمونِ الرسالة. فلا تقلقوا.
ثم وجدتُ في الورقة الخامسة كلاما، ربما يُكمِل المشهدَ الخامس، ويمكن أن يكون مستقلا، لكني أرجح أن يكون تابعا للخامس؛ مضمونه:
  • لقد سألت هندُ الرجلَ: كيف تحمل الرسالةُ -وهي صغيرة- خطابًا لكلِ واحد في القرية؟! (يقطع الرجل العجوز كلامها):
  • وكيف عرفتم أنَّها صغيرة؟
(يلتفت الجميع إلى العمدة):
  • لقد رآها العمدة...!
  • الرجل العجوز: لا يكفي رأي العمدة...!
ثم في الورقة السادسة أرجح أنها إكمال للمشهد الخامس:
  • الرجل العجوز: أيها الناس، قال الرجل الغريب: "اعملوا: السوق للنهار، وللحقل الليل". ألم أقل لكم: لا شيء جديد، الكل يعرف الكل.
  • العمدة (غاضبًا وصارخا بأعلى صوته ويمسك بتلابيب الرجل العجوز): أيُها الكاذب، أقسم لأقتلنّك...! (يلتفت على الحاضرين): ماذا تنتظرون!! ابحثوا عن هند...!!
...

هنا تنتهي الأوراقُ، وكما هو واضح ثمة نَقصٌ أكله الزمنُ، لكن فيما وجدتُه معانٍ يمكن إكمالها من القريحة...؛ وكلي أمل أن أقع بين أوراقه الكثيرة على ما يكملها. بالإضافة إلى أني أخذت وعدًا من ورثتَه بإعطائي أيَّ شيء -قد يجدونه في مكان آخر- له علاقة بالكتابة؛ فما زال الأمل معقودا، وخصوصا أنَّ منزله القديم لم يُبع بعد.
.
.
أنس الرشيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى