الهكواتي سالم اللبان - المحفوظات

الـــــبُرْكـــَــانُ جَـبـَـــلٌ
فِي أَعْــــــلاهُ فُــــوهَـــــــةٌ
يَقْــــــــذِفُ حُـــــمَمًا
حُــــمَــــــــــــمًا
حُــــــمَــــــــــــــــــمًا

***

كنّا في ذلك العهد أطفالا. وكنّا نطلق على الشّعر اسم "محفوظات". هكذا، ربمّا لأنّ حفظ بقيّة الموادّ المدرسية عن ظهر قلـب كان مجرّد احترام منّا لاتّفاق ضمنيّ بيننا وبين المعلّم. ولأنّ الأبيات الشّـعريّة التي يُطلب إلينا حفظها كانت تمثّل استثناء. إذ كان المعـلّم يعتبر حفظها عن ظهر قلب وإلقاءها دون زيادة أو نقصان، حـقّا له علينا لا ينازعه فيه أحد.
حتّى أنّه كان يصرّ على أن نفردها بكـرّاس خاصّ ذي أوراق من ثلاثة أصناف مختلفة : أوراق عاديّـة مسطّرة بالأزرق والأحمـر وعليها نكتب أبيات الشّعر، وأخرى سميكة ناصعة البياض أُعـدّت لتصوير مشاهد تجسّم معاني القصيد، وثالثة رقيقة شفّافة تعطي القصيد والصّورة رونقا خاصّا ونوعا من القداسة يحبّب إلينا كرّاس المحفوظات، ويجعلنا نقضّي السّاعات الطّوال في تزويقه.
أعترف أنّني كنت في ذلك العهد تلميذا صـعب المراس. وأنّ كلّ الأدوات البيداغوجيّة التي ورثها المعلّم عن أجـداد أجداده زارعي أوّل شجرة زيتون في السّاحل التّونسي، ما كانت لتنفع معي .
كان المعلّم يقول لأبي : "ولدك ليس غبيّا ولا كسـولا ولكنّ رأسه أصلب من رأس حمار".
وكان أبي يجيبه ككلّ الآباء الآخرين : "الولد ولدك ربِّه على النّحو الذي يروق لك. ولا تنس أنّ عصا المؤدّب من الجنـّة. كسّرها على دماغه إن شئت وأنا معك. لا أريد منك إلاّ أن تحاسبني بما يتبـقّى من جلده في آخر السّنة".
وكنت أسمع حوارهما وأعرف تماما أنّ أحدا منهما لم يكن يمزح، فلقد خبرت هذه الأداة البيداغوجيّة وخبرتني. وذقت الأمرّين مـن مداعبتها أصابع يديّ ورجلـيّ. ومع ذلك كنت أجد الجـرأة دائما على طرح أسئلة يعتبرها معلّمي استفزازا لشخصه، ومشاكسة منّي له تـدلّ على قلّة تربيتي وسوء مآلي في الدّارين.

ولم يكن معلّمي مخطئا تماما. فقد كانت أسئلتي فعلا أكبر من حجمي. وإنّني لأتذكّر اليوم ذلك النّهار الممطر ذا البرد القارس، وتلك القاعة التي كان الرّيح يصفّر عبر شقوق نوافذها والـتي لم تكن لتعرف ما يشبه الدّفء لولا اجتماع ما يزيد عن الثّلاثين طـفلا فيها.
كان الجزء الأوّل من الحصّة يومئذ مخصّصا للتّـعرّف على جسم الإنسان ومختلف مكوِّناته من رأس وجذع وأطراف. وطبـعا لم أكن لأقنع بما كان مكتوبا على السّبّورة فرفعت إصبعي حتّى أذن لي معلّـمي في الكلام :
- سيّدي، وكيف يصنع الله الإنسان ؟
نظر المعلّم إليّ نظرة شرسة وأجاب : "قلت لكم إنّ الله إذا أراد شيئا فإنّما يقول له كن فيكون. لذلك فهو كلّما أراد خلق إنسان جديد يقول له كن إنسانا فيكون إنسانا. هل فهمتم ؟ " التفـتّ إلى أترابي فقرأت على وجوههم جميعا علامات الاقتناع .
لست أدري إن كان الله قد قال لماّ أراد خلقي : "كن عنيدا"، أو إن كنت مصرّا على نيل نصيبي من ثمار الجنّة قبل السّماح للمعلّم بمواصلة الدّرس. ولكنّ سؤالا جديدا قد سرى على لساني :
- و لكن سيّدي، هل أنا قادر اليوم على أن أصنع إنسانا إذا قلت "كن إنسانا" أم أنّه لابدّ عليّ أن أنتظر حتّى أصبح بالغا ؟
لم أكد أكمل سؤالي حتّى سرت في القسم موجة من الضّحك سرعان ما استحالت إلى هرج ومرج. وكان من طبيعة الأشياء أن أدفع مباشرة ثمن وقاحة سؤالي.
أتذكّر جيّدا كيف أنّني يومها رجوت المعلّم ثلاث مرّات أن ينتظر حتّى أنهي نقل درس الجغرافيا قبل مسح السّبّورة. ليس فقط لأنّ أصابعي لم تكن قادرة على مسك القلم والكتابة بسرعة، ولكن لأنّ الدّرس كان طويلا جدّا ومملاّ. فهو درس عن البركان.
قبل انتهاء حصّة ذلك اليوم، وما إن أنهينا نقل درس الجغرافيا حتّى قال المعلّم : "من لم يحفظ محفوظاته فليرفع إصبعه حالاّ. فلا أريد أن أعاقب أحدا. لذلك فأنا مستعدّ للصّفح عمّن أقرّ بكسله ووعد بالتّوبة عنه. أمّا من تظاهر بالحفظ وما هو بحافظ فسيكون حسابه عسيرا ".
كنت أحبّ المحفوظات محبّة خاصّة، وأصرف من الوقت في حفظها أضعاف ما أخصّصه لكلّ الموادّ الأخرى مجتمعة. حتّى أنّني كنت أتساءل دائما عمّا إذا لم يكن من الأحسن أن نتعلّم كلّ الموادّ في شكل محـفوظات وخاصّة مادّة الحساب.
خيّم الصّمت على القسم وطال ولم يرفع أحد إصبعه. وكنت واثقا من أنّ المعلّم لن يطلب منّي الخروج إلى السّبّورة في ذلك اليوم. لذلك بادرت برفع إصبعي. فسألني المعلّم مندهشا :
- أنت ؟ منذ متى أصبحت تتهاون بالمحفوظات أيضا ؟
- لا يا سيّدي. لم أتهاون بالمحفوظات. بل إنّني أحفظها عن ظهر قلب. ولكن عندي سؤال.
- أما يكفيك ما أصابك من جرّاء أسئلتك البليدة ؟
- أردت فقط أن أعرف من يصنع لنا المحفوظات وكيـف يصنعها.
وكم كانت دهشتي لمـّا ابتسم المعلّم عن أسنان صفراء وقال خلافا لما كان يتوقّعه كلّ التّلاميذ : "هذا سؤال ينمّ عن ذكاء. طيّب، سأحدّثكم عن المحفوظات ..."
لا أتذكّر بالضّبط كلّ ما قاله لنا المعلّم في ذلك اليوم. ولكنّني متأكّد من أنّه كان منشرحا إلى أقصى الحدود وهو يشرح لنا كيفيّة صنع المحفوظات. أمّا ما أعجبت به فعلا وفهمته جيّدا، فهو تلك الطّـريقة السّهلة التي كان أجدادنا الأوائل يصنعون بها محفوظاتهم. فقد كـشف لنا المعلّم عن سرّ رهيب. وهو أنّ أصل المحفوظات تقليد لوقع حوافر الخيل على الأرض هكذا : تَاكَادُفْ ... تَاكَادُفْ ... تَاكَادُفْ. نعم ليس أكثر من هذا.
بدا لي صنع المحفوظات لعبة سهلة في متـناولي. فأنا قادر على صنع محفوظات كاملة منذ الآن. ويكفيني لذلك أن أجمع كلاما يكون إيقاعه " تَاكَادُفْ " في أوّل السّطر و"تَاكَادُفْ" في آخره. وهكذا في كلّ سطر حتّى النّهاية.

عندما خرجت من القسم كان كلّ همّي أن أشرع حالاّ في البحث عن كلام يحاكي وقع حوافر الخيل وينسجم مع هذه "التَّاكَادُفِّ" السّحريّة. ولكن، أيّ كلام يمكن أن أقول ؟ ومن أين لي بكلام "تَاكَادُفِّيٍّ" كالذي أحفظه من كرّاس المحفوظات ؟
لمـّا وصلت إلى منزلنا، دخلت مباشرة إلى غرفتنا الوحيدة. وعلى غير عادتي، فتحت محفظتي. حتّى أنّ أمّي خشيت عـليّ من أن يكون قد أصابني مكروه. فجاءت تستفسرني عن السّبب الذي جعلني لا ألقي محفظتي كما اتّفق وأخرج إلى الحومة لألعب بالكرة مع أترابي.
لو كنت وصلت في حفظ القرآن إلى سورة المدثّر لأجبتها "دثّريني، دثّريني". ولكنّني أفحمتها بأبسط من ذلك إذ قلت لها :
- أمّاه، أرجوك اتركيني وشأني. إنّني أبحث عن "تَاكَادُفْ" وأخواتها.
- أيّة بليّة هذه - قالت - وأين أضعتها ؟ اسمعْني أنبّهْك مـن الآن. لا ترهق نفسك في اختلاق الأعذار فليس لي فـرنك واحد لأشريها لك. إن لم تجدها فاذهب إلى أحد رفاقك واستلفها. أو فابق بدونها حتّى تتعلّم مستقبلا كيف تحتفظ بأدواتك إلى آخر السّنة.
- و لكن لماذا تخاصمينني هكذا ؟ من قال لك إنّني سأطـلب منك مالا ؟
لم تفهم أمّي كيف أكون على تلك الحالة وأتصـرّف بذلك الشّكل دون أن يكون لي مطلب ماليّ أو سواه.
- اسمعي، هذا أمر لن تفهميه حتّى تذهـبي مع أبي إلى دروس محو الأمّية وتحفظي "قاسم يحرث" عن ظهر قلب.
نظرت إليّ أمّي نظرة تريد أن تقول كلاما كـثيرا، ولكنّها اكتفت بترديد دعائها المعتاد "ربّي ينجّح " وتوارت من أمامي إلى "المسقف"[1] حيث تطبخ العشاء.
أمّا أنا فقد مددت يدي إلى المحفظة وأخـرجت منها أوّل كرّاس صادفني.كان كرّاس الجغرافيا. فتحته على الصّفـحة الأخيرة، وبقيت أتأمّل العنوان : "البركان". لماذا لا يكون نفس هذا العنوان عنوانا لمحفوظات أصوغها بنفسي "تَاكَادُفًّا بتَاكَادُفٍّ "، ثمّ أستعرضـها أمام المعلّم في القسم عوضا عن درس الجغرافيا المملّ ذي الفقرات الطّويلة الثّلاث ؟
ماذا أفعل الآن ؟ عليّ أن أبحث هنا عن كلام يمـكن أن أصنع منه محفوظات. وإذا نجحت فإنّني سأضمن النّجاة نهائيّا من كلّ الأدوات البيداغوجيّة ذات الصّلة بالشّجرة المباركة الوارد ذكرها في القرآن الكريم. وإن صدقت فراستي، فإنّني سأصبح حتما التّلميذ المدلّل لدى معلّمي الذي لم أره فرح بسؤال قطّ قدر فرحته بسؤالي عن كيفيّة صنع المحفوظات.
لا أدري كم قضّيت من الوقت أتأمّل نفس الصّفحة من كرّاس الجغرافيا، وأحلم بالتّوصّل إلى صنع أوّل محفوظات في حياتي، لأحصـل على ثقة معلّمي وتقديره. ولكن، أقبل الليل، وجاء أبي من العمل، وحضر العشاء، وتعشّينا ولم أتوصّل إلى إيجاد كلمة "تَاكَادُفِّيَّةٍ" واحدة. وبدأ النّوم يغمض أجفاني دون أن أكفّ عن البحث. حتّى إذا أيقنت بأنّ النّوم غالبُني أخرجتها دعوة من أعماق أعماقي :
"ربّي قد لا أكون طفلا هادئا رصينا كما يريدني أبي والمعلّم أن أكون، ولكنّني لا أسبّ الدّين ولا أقول الكلام القبيح. لذلك أرجوك أن تنجّحني في صنع هذه المحفوظات، وأنا أعدك بأن أحاول الكفّ عن التّحرّك في القسم دون انقطاع، آمين يا ربّ العالمين". ثمّ لا أدري إن كنت قد وجدت الوقت لتلاوة فاتحة الكتاب كما علّمـني أبي، أم نمت قبل ذلك.
حتّى في اللّيل حلمت بأنّني أبحث عن تلك الكلـمات "التّاكَادُفِّيَّةِ"، وأجد منها الكثير. ولكنّ الغريب في الأمر أنّني قضّيت أسبوعا كاملا أتأمّل نفس الصّفحـة من كرّاس الجغرافيا ولا أعثر فيها على كلمة واحدة تصلح لأبدأ بها صنع محفوظـاتي.
والأغرب من ذلك أنّني، رغم طول تأمّلي تلك الصّفـحة بعينها، وعلى مدى الأسبوع بأكمله، لم أحفـظ من درس الجغرافيا كلمة واحدة. حتّى كانت عشيّة اليوم السّابق لموعد ذلك الدّرس...
تأمّلت الصّفحة بنظرة جديدة، فإذا فحواها على درجة من الطّول يستحيل عليّ معها أن أحفظه وأن أستعرضه في الغد .
باختصار، لم يعد لي من سبيل إلى النّجاة من عصا الجنّة إلاّ أن أصنع محفوظات أو أن أصاب بمرض يلزمني الفراش لأسبـوع كامل لا أعود بعده إلى المدرسة، إلاّ مصحوبا بأبي، اعترافا منه بأنّ مرضـي حقيقة لا لبس فيها.
الأسلم أن أصنع محفوظات. صحيح أنّ السّعي إلى صنعها أتعبني، ولكنّني لست عاجزا عن ذلك. فكلّ ما في الأمر أنّني لم أعـثر على الكلمة التي تستقيم "تَاكَادُفًّا" سويّة كما فسّرها المعلّم. وفجأة وجدت الحيلة. بل وجدت القاعدة :
كلّ الكلام "تَاكَادُفِّيُّ" الإيقاع بطبعه. والمهمّ أن نحسن قراءته. وهكذا أخذت أقرأ الدّرس بإلقاء موقّع، فأمطّط هذه الكلـمة وأقلّص تلك بما يمكّنني من صبّ الكلمات في ذلك الإيقاع الذي يصبح قالبا.
ثمّ توالت الأحداث المفرحة. ووجدت الكلمات الـمناسبة، فرصّفتها بما جعلها في نظري أجمل محفوظات في الكـون بأسره. وبدا لي أنّني استطعت، في نفس الوقت، حفظ درس الجغرافيا وتخليصه من ذلك الطّول المملّ والمعلومات المقرفة التي يعسر حفظها. وقد كنت بذلك فخورا.

لمـّا طلع الفجر، وجدتني أستيقظ قبل الدّيك، ولا أستطيع مسك أعصابي من شدّة الفرح. ولكم طال انتظاري ساعة الخروج إلى المدرسة، حتّى لكأنّ الشّمس تأخّرت عن موعـدها في ذلك اليوم. كنت أحاول تهوين الانتظار على نفسي، فأراجع تارة ما حفظت، وتارة أخرى أعيد نقل محفوظاتي على ورقة جديدة بخطّ أجمل. حتّى إذا أشرقت الشّمس، أخذت محفظتي وخرجت إلى المدرسة متسلّلا، خشية أن تتفطّن أمّي إلى أنّني لم أمدَّ يدي إلى صحفة البسيسة[2] التي أعدّتها لي فطور صباح.
كلّ شيء تأخّر عن موعده في ذلك اليوم. كلّ التّـلاميذ تأخّروا في المجيء إلى المدرسة. حارس المدرسة تأخّر بدوره في الوصول. ولمـّا حضر كلّ التّلاميذ ووصل حارس المدرسة، ها هو الجرس يتأخّر عن موعده. وكما لو أنّ كلّ ذلك لم يكف، ها أنّ كلّ المعلّمين يحضرون ويدخلون تلاميذهم إلى الأقسام، إلاّ معلّمنا فقد تأخّر حتّى كاد المدير يصـرفنا إلى منازلنا لولا أنّني رجوته أن ينتظر قليلا، إذ بدا لي أنّني رأيت المعلّم من خلال سياج المدرسة، قادما على درّاجته. وفعلا كنت على حقّ.
لمـّا دخلنا إلى القسم كنت على درجة من الإرهاق لا توصف، ومـع ذلك لم أجلس لمـّا طلب منّا المعلم الجلوس. بل بقيت واقفا أرفع إصبعي حتّى رآني المعلّم فسألني عمّا أريد.
- سيّدي - قلت - اليوم درس الجغرافيا.
- صحيح، ذكّرك الله في الشّهادتين، ولكن هل تريد أن تقول إنّك حفظت درسك هذه المرّة ؟ أخرج إلى السّبّورة وسنرى.
وخرجت إلى السّبّورة والقسم لا يكاد يسعني من الفرح. وقفت على المسطبة أنتظر الإذن للشّروع في استعراض الدّرس وكـلّي أمل في شدّ انتباه أقراني وإبهار معلّمي بما توصّلت إلى صنعه. وطال وقوفي حتّى لم تعد رجلاي قادرتين على حملي. أخذ المعلّم دفتر المناداة، وجعل ينادي التّلاميذ فردا فردا وكلّ واحد يجيبه "حاضر يا سيّدي". ما الذي جعله ينادي الجميع في هذا اليوم بالذّات، وقد تعوّد على اعتماد عمليّة حسابيّة بسيطة تنهي المسألة في بضع ثوان ؟
ولم تكفِ المناداة لإطالة انتظاري. فقد تخاصم تلميذان على أحد المقاعد، وغضب عليهما المعلّم فعاقبهما معا. ولم يلتفت إليّ إلاّ بعـد أن كاد الإرهاق يسقطني على المسطبة.
- وأنت، ما الذي تفعله هنا ؟
- سيّدي أنا ...
- آه صحيح ... هيّا هات الجغرافيا.
- سيّدي، أريد أوّلا أن...
- هل حفظت أم لم تحفظ ؟
- بل أريد أن...
- هات الجغرافيا يا ولد و لا تتعبني أكثر ممّا أتعبني رفيقاك.
أردت أن أشرح له ما فعلت، وأن أبيّن له ما دفعني إلى ذلك، ولكن لا بأس. سأفعل ذلك بعد استعراض محفوظاتي. لأنّه حتما سيشكرني كثيرا، ويطلب منّي أن أحكي لأصدقائي كيف توصّلت إلى صنعها.
تنحنحت حتّى أصفّي نبرات صوتي وشرعت في الإلقاء بغنائيّة رائعة :
البُرْكـــانُ جَبَـــلٌ
فِي أَعْــلاَهُ فـوهـَـةٌ
يَقــْـذِفُ حـُــمَمًا
حُـــمَمًا حــُـمَمًا
- ما هذا يا ولد ؟
- هذا درس الجغرافيا. وقد جعلت منه محفوظات كما ترى.
- ومن كلّفك بذلك يا ولد ؟
- من تلقاء نفسي يا سيّدي .
- هكذا إذًا، من تلقاء نفسك. اسمعني يا ولدي، ما سأفعله أنا، إذا تبيـّن لي أنّك لم تحفظ درس الجغرافيا، سوف لن يكون من تلقاء نفسي. فقد كلّفني به أبوك وألحّ عليّ فيه إلحاحا شديدا. هل تتذكّر أنّه طلب منّي أن أحاسبه بجلدك أم تريدني أن أذكّرك ؟
- سيّدي لقد ...
- ومن تظنّ نفسك حتّى تسمح لنفسك بما فعلت ؟
- ولكن يا سيّدي، ما المانع من أن أصنع محفوظات ؟ ألـست أنت من علّمنا في الأسبوع الماضي كيف يكون صنعها ؟ أم أنّ الّذين يصنعون المحفوظات ويكتبون أسماءهم في كتبنا أحسن منيّ ؟
- لا تعد إلى أسئلتك الوضيعة هذه يا ولد ؟ أنت مغرور ولن تكون عاقبتك حسنة أبدا. قل لي الآن، هل حفظت درس الجـغرافيا أم لا؟
أجبت في عناد وكبرياء "نعم". وأعدت عليه محفوظاتي من البداية وبإلقاء أجمل وصوت أوضح لا تفضح نبراته ما كنت أعاني من الإعياء.
- سأعطيك فرصة أخيرة يا ولد، هل حفظت درس الجـغرافيا كما كتب على السّبّورة ونقل على الكرّاس ؟
سكتّ برهة ثمّ رأيت أن لا فائدة من إطالة النّقاش. فاستسلمت إلى عصا الزّيتون ينفّذ بها معلّمي وصيّة أبي.

كان ذلك منذ سنوات لا أكاد أحصر لها عدّا، ومع ذلك ما زلت إلى اليوم لا أحفظ أيّ درس كما يكتب على السّبّورة وينقل على الكرّاس. قدري، ولا بدّ، أن لا أتّعظ أبدا.
رحم الله معلّمي . فقد كان على درجة عالية من قوّة الحدس إذ قال لي بالحرف الواحد : لن تكون عاقبتك حسنة أبدا يا ولد.



[1] المسقف ، بالدّارجة المحـلّيّة ، كوخ من طوب مسقّف بالحطب .
[2] البسيسة مسحوق القمح أو الشعير. لا يخلو منها بيت. هي للفقير وللمسافر زاد سهل الإعداد. يخلط بزيت الزيتون والسّكّر، وأحيانا بالماء فقط.


الهكواتي سالم اللبان


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نصّ سردي من إنشاء الهكواتي
من تجربة سنتي على جناح السّرد 2008/2009، نشر ضمن مجموع "عنقود حكايا" عن دار الجسر الصغير للنشر - تونس 2012

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى