أسماء محمد مصطفى - اللامرئي

أتسمر عند شباك غرفتي المخصصة للنحت، أراقب المارة أمام الشقة التي أسكنها، خيفة وحذراً وفضولاً في التقصي، وإن كان محدوداً وبالنظرات فقط. غدت تلك عادة يومية لي منذ سنوات، بعد أن باغتني خيال شخص أو شيء مجهول من ورائي في قاعة عرض فنية، ومن ثم عاد قبل شهور، ليعضني في أصابع يديّ، ويضربها بإزميل تحت جنح الظلام في أحد الشوارع، وأبقاني عاجزاً عن النحت حتى وقت قريب. لم أكن الوحيد الخائف، بل عمت البلد كله موجة ذعر، بعد أن أخذت حوادث العض والضرب العنيف تزداد في البلد.

لفّ الحوادث غموضٌ غير معهود، فلم يُعرف من هو الفاعل. كان سيناريو الهجوم واحداً مع كل ضحية، سواء أكانت امرأة أم رجلاً، عضات وضربات موجعة من مجهول على رأس الضحية أو اليدين أو القدمين أو أي مكان من جسدها، ولكن من غير أن يقتلها، مع تكرار الهجوم على الضحية نفسها بين حين وآخر، حتى تغدو كدمية تصرخ رعباً، وهو يحركها بالخيوط!

أسمع صراخ الدمية في أعماقي، وهي تُجَر بخيوط خوفي، وأنا أرتجف، أمام المنحوتة التي أصنعها بصعوبة جراء وجع الأصابع، لكنّ شعوري هو شعور كل شخص يعيش في هذا البلد المرعب، حتى أنني لم أعد أخرج من البيت إلاّ لضرورة قصوى، وفي بعض المرات يخيّل لي أنّ المهاجم المجهول يلاحقني! فأعود أدراجي سريعاً.

الغريب إنّ أياً من الضحايا لم يرَ المتهجم عليه، لذا كانت الشرطة تجد الأمر غريباً حين تردها شكاوى من غير أن تعرف الضحية وصفا للجاني؟ فلم تكن الضحية تذكر من الحادث سوى العض والضرب من خفي ما، يملك قوة جبارة تتسبب بكسور أو جروح في مكان ما من جسد الضحية، مثلما حدث لي!

أنظر إلى أصابع يدي، ما زالت أجزاء من الأظافر مزرقة، وأنا أحاول رفع كوب الشاي إلى فمي، لكن رأسي يضج بصوت الشظايا الزجاجية، وهي تتناثر على الأرض وتبللها، كما يضج بهواجس الرعب التي تحولني إلى كوب مملوء بها، يكسره الوحش بأنيابه، ويرميه قرب شظايا كوب الشاي!

مع ازدياد الحوادث تناثرت على الشوارع والبيوت والمؤسسات وسائر الأمكنة شظايا الإشاعات والتخيلات والتحليلات غير المنطقية، أكثر بكثير من تناثر أكواب الشاي التي تفلت من أصابعنا الزرق، أو أكواب الهواجس المتشظية قربها.

ـ رأيت سعلوة!! قالت عجوز.

ـ وهو يبدأ بضربي استطعت الالتفات إليه، فقط، رأيت عينين حمراوين تبرقان.. هذا يعني أنه جني.. قال رجل من الضحايا.

أتمنى، في هذه اللحظة المشوشة التي تعبث بدقة المنحوتة التي أعمل عليها، لو كنتُ عرّافاً، حتى أتمكن من معرفة هذا الوحش المجهول الغامض، فأساعد السلطات الأمنية في القبض عليه قبل أن يرتكب المزيد من الجرائم..

في البدء، لجأت النساء إلى العرافين. قالوا إن جنياً نشط في البلد، وإن الجن يكثر في الأماكن التي تحصل فيها الحروب، ومنها بلدنا الذي اعتاد الإتشاح بالسواد، وعملوا لهن حروزاً، ليحملنها ويحملها أزواجهن وأولادهن وبناتهن.

راج عمل العرافين والعرافات، حيث توافد الناس المضروبون عليهم، على أمل أن تؤمن جلسات إخراج الجن من أجسادهم الخلاص النهائي من أوجاعهم والضربات المتكررة منه.

أنظر، بابتسامة ساخرة، إلى الحرز الذي جلبته لي أمي من عراف، وإلى السماء خاشعاً، متضرعاً للخالق أن ينجينا من هذا البلاء، بينما أسمع تكبيرة قادمة من الجامع القريب، وأنا أئنّ من وجع أصابعي.

خلال المحنة، كان أئمة الجوامع يخطبون في المصلين قائلين، أنّ ما يحصل هو غضب من الله على البشر، بعد أن كثر الفساد بينهم، وضعف الخوف منه تعالى.

وفسّر البعض منهم تلك الحوادث على إنها من علامات الساعة داعين الناس إلى التوبة، وترك مغريات الدنيا.

وضع بعض المؤمنين من عامة الناس في أذهانهم أنّ المهاجم الخفي قد يكون من العلامات المُهيئة للريح الباردة التي تأخذ أرواح الصالحين، ليظل في الأرض الكفرة فقط حتى تقوم عليهم القيامة، بينما قال آخرون، بفكاهة سوداء، إنه الدجال الخفي، وليس الأعور.

وصفه بعضهم في شبكات التواصل الاجتماعي بأنه جندي من جنود الله، يعمل على تنفيذ القصاص بالخطاة، وإعادتهم إلى طريق الإيمان.

أسماه بعض الناس أو وصفوه، باللا مرئي، وصار هذا الاسم أو الوصف (ترنداً)، وتداولته الفضائيات، حتى ثبت في أذهان الجميع.

أواصل النظر إلى السماء، ويتراءى لي هذا اللا مرئي يقود مركبة فضائية تتوجه نحوي، ليقضم أصابعي، فأجلس على الأرض في محاولة لإخفاء نفسي عنه، أشعر بأنني واحد من أولئك الأطفال أصحاب المخيلات الأنقى والأكثر براءة، فقد تداولوا بينهم أن مخلوقات فضائية هبطت على بلدهم، وهي التي تتسبب بتلك الحوادث. أنا أعمل الآن على منحوتة تشبه مخلوقاً فضائياً!

أشعر بقشعريرة، متخيلاً إياه يخترق الشباك بمركبته، فتصطدم بي، وتهشمني، لأغدو كوب شاي مكسور.. أنا الآن طفل يغطي رأسه في أثناء النوم بالغطاء حتى لا يراه اللا مرئي، هذا المخلوق غير البشري الذي يمكنه، ربما، اختراق الجدران، بل أخجل أن أقول لأمي دعيني أنام في حضنك، لأنني خائف، عندئذ قد تقول لي أن أحمل الحرز معي، كي أطمئن.

أستمر، بصعوبة، في نحت التمثال الذي يخيفني، أشعر به يخزرني بعينيه الواسعتين المدورتين الفارغتين من الرموش والمحاطتين بالجفون المجعدة على مداريهما، كإنه سيقدم على فعل شيء مخيف بأصابعي مرة أخرى، حين يتناهى إلى سمعي أصوات من التلفاز لمواطنين يسكنون خارج البلد، يفسرون ما يحصل بأنه إشاعات تقف وراءها السلطة، بقصد إشغال الناس عن مفاسدها، وأيضاً، تقصيرها عن توفير الخدمات لمواطنيها، ويقول آخرون ممن يسكنون البلد إن سياسياً يقف وراء تلك الحوادث بقصد إشاعة البلبلة وفرض السيطرة، كما إنّ جهات خارجية وقوى كبرى خططت لذلك، لتدمر بلدهم.

لكن الازدياد المضطرد في الحوادث يبعد عن الذهن أنها إشاعات، لاسيما إن القنوات الفضائية سلطت أضواءها عليها وعلى الضحايا، وقد وجدت فيها مادة دسمة للإثارة، وأثارت إحداها نقطة مهمة في بعض تقاريرها.. إن اللا مرئي كان يستهدف مكاناً في جسد الضحية وفقاً لاختصاصها المهني، كضرب العلماء وأساتذة الجامعات على رؤوسهم، ولاعبي كرة القدم والعدائيين على أقدامهم.. وهذا فسر لي لماذا استهدف يديّ اللتين أحدق فيهما الآن وهما ترتعشان، وكذلك، جعلني أتساءل.. من الذي يقف وراء اللا مرئي؟ بينما أسمع مقدم نشرة إخبارية يذيع إعلان الحكومة حظر تجوال جديد، وتحشيدها قواتها الأمنية، لتتخذ دورها في الرصد والحماية.

ـ حظر أو بلا حظر. أنا كالتمثال في كلا الحالينَ، محبوس بين جدران قاعة العرض الحياتية هذه.. أتمتم ساخراً، وأنا أمسك إزميلي بصعوبة بالغة، وسط يومي هذا الذي يشبه كل الأيام الماضية المتسمرة هي الأخرى، مثلنا في لحظات الهلع، فقد توقف الزمن بفعل الحظر والرعب. أصبحت الحكومة تفرض حظراً تلو آخر كلما ازدادت وتيرة سخط الناس بسبب زخم الحوادث. خرجوا في تظاهرات متفرقة طالبوا فيها بإيجاد حل لمعاناتهم المزمنة، وقد تعبوا مما أصابهم من ويلات الخوف عبر عقود، حتى ازدحمت المستشفيات بالراقدين منهم على أسرتها، وشحت الأدوية ومستلزمات العلاج.

استمرت الحال على هذا المنوال، حتى أصبح البلد عبارة عن أفراد ملفوفة رؤوسهم أو أيديهم أو أقدامهم بالضمادات، وحلَّ الخراب الاقتصادي وبلغ العطل التنموي أقصاه.

لم يملك الناس، بعد أن عجزوا عن معرفة هوية المتهجم عليهم، ويئسوا من مطالبتهم للسلطة بحلول، وتعايشوا مع اعتداءات اللا مرئي، سوى أن يولوا أمرهم إلى الله تعالى، عسى أن يستجيب لأدعيتهم بأن يخلصهم من هذا الوحش الذي وجد فيه منتجو الأفلام العالمية قصصاً سينمائية مربحة، فأمسى بفضلهم بطل أفلامهم، سواء أتشابهت قصصها حوله أم اختلفت، وسواء أ أظهرته على أنه رجل بشري أم مخلوق أثيري، وصوّرته مخيّلة كتاب السيناريوهات السينمائية بمختلف الوجوه والأشكال، وبما يتناغم مع غاياتهم الفنية أو التجارية من الكتابة عنه.

كتب الشعراء والقصاصون والروائيون عنه نصوصاً كثيرة، وبعد حين من الوقت بدت النتاجات المتكاثرة عن الثيمة نفسها أشبه بموضة، بدأت شعلتها بالانطفاء تحت ريح التكرار.

تخيل الرسامون والنحاتون، أمثالي، ملامحه أيضاً في لوحاتهم ومنحوتاتهم.. كان غولاً أو دخاناً أو مطراً أسودَ يقتل الزرع، أو مخلوقاً فضائياً كما أفعل الآن. لم يحضر معارضهم سوى قلة كانت من نظرائهم أو عائلاتهم، بسبب الخوف الذي يمنع الناس من التجوال.

لا أذكر بالضبط تاريخ آخر معرض أقمته. لم يحضره سوى واحد، همس من ورائي أنه سيتركني اليوم، ولن يؤذيني، تعبيراً عن امتنانه للطريقة المرعبة التي أظهرته بها عبر منحوتات المعرض، ما دغدغ غروره. ثم اختفى صوته، تاركاً إياي متسمراً كالتمثال الذي أعمل عليه الآن، أو كتماثيل معرضي ذاك!

لم يتمكن أحد من الحضور سواه، بسبب حظر أقيم فجأة، كنت أثناء ذلك الوقت موجوداً في قاعة المعرض، وحبسني الحظر أياماً عدّة بين التماثيل هناك، قضيتها أحدق في وجوهها الشاحبة، أحاورها صمتاً، ولم أجد فرقاً بيني وبينها. كنتُ أباهم، لكنني تعلمتُ منهم التعايش مع الخوف والصمت والعزلة، أو محاولة ذلك. عبر كل السنوات التي تعايش فيها أهل البلد مع لا مرئيهم، وهم مرضى خوفهم، وبعد يئسهم من أن يسمعوا يوماً نبأ موته، أصبحوا يرونه القوة المطلقة في الأرض التي لا خلاص منها سوى بمعجزة إلهية، بل إن البعض أخذ يعبده، ويطلب منه الغفران!

أعود لأنظر إلى أصابعي المزرقة، وأحدق في تمثالي طويلاً، بينما فمه يكشر عن أنياب طويلة تمتد بتقوس خارج الفم، وتنتهي بكرات مسننة هي الأخرى. وهي أنياب تليق بمخلوق فضائي، كما تخيلته وخوفي معاً، بعد أن صادفته، أو قصدني مرتين.

مساءً، قبل سنوات، وأنا في طريق العودة إلى البيت، بعد أن اشتريت معدات جديدة للنحت، شعرتُ باللا مرئي يلاحقني، حتى كوَّن سحابة دخانية حولي، وسلبني إزميلاً، وأحسستُ بالعض والضرب الدقيق على الأصابع والأظافر، ولم أشعر بنفسي إلاّ وأنا في المستشفى، أصرخ بلقبه أو صفته.

أواصل تسمري، كإنني تمثالي، أمام الشباك، تضج أعماقي بأنين أصابعي وصراخي الذي يتداخل مع أصوات أناس يتراكضون مفزوعين في الشارع.

ذلك الصراخ المتكرر من الناس عبر سنوات الفزع التي لم يروا فيها كيف كان يختلي الواحد منهم بنفسه، ويضرب جسده بقسوة متناهية من رأسه إلى أخمص قدميه، حتى يفقد وعيه، وما أن يستفيق من غيبوبته على سرير في مستشفى، حتى يصرخ موجوعاً مفزوعاً: الوحش اللا مرئي .. اللا مرئي.. اللا مرئي.. كما فعلتُ أنا بنفسي، في تلك الليلة الغريبة، بعد إقامة المعرض بسنوات، حين عضضتُ أصابعي وضربتها بالإزميل الجديد، ومضيتُ أصرخ باسم اللا مرئي، يرافقني فزعي وأخيلة تماثيلي تحت جنح الظلام الغامض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى