إبراهيم درغوثي ـ وقائع من أوجاع امرئ القيس.. قصة

darghuthi.jpg

إلى زكريّا تامر ثانية
ترك امرؤ القيس( ) دروعه عند السّموأل( ) وذهب إلى اسطنبول. قال سأستجير بسلطان البَرَّيْن وخاقان( ) البحريْن، الـملك الذي أتته الخلافة منقادة إليه تجرْجر أذيالها. ولن يخذلني هذا الـملِك وستكون هديّتي له سخيّة، سأجعل من نصف مملكتي مَصيفًا له ولجواريه.
في الطّريق، تنكّر في لباس راعي غنم، وركب سيّارة أجرة حتّى لا تكتشفه عيون( ) الـملك الجديد الذين بثّهم في كلّ مفارق الطّريق. وحين أحسّ بالأخطار تحوم حول السّيّارة اكترى ناقة، ركبها وقطع بها الفَـيَـافِي والقفار إلى أن وصل عاصمة الخلافة العثمانيّة( ) فقصد نُزْلا فاخرا ترفرف أمام واجهته مئات الأعلام. في الباب، استقبلته ثلاث بنات: واحدة شقراء والثّانية سمراء والأخرى بين بين. رأى في وجه السّمراء حبيبته "عُنيزة". وقف مبهورا أمام زينتها فقالت له إنّها في الأصل نوميديّة ولكنّها تحبّ كثيرا العرب الذين يزورون أنْزال( ) تركيا. ولتعبّر له عن إعجابها بهم قرأت له نُتَفًـا من:
"قِفَا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللّوى بين الدّخول فحوْمل"( ). وسألته إن كان يقصد بالـمنزل نزل "الكونْتينُنْتالْ" أو نزل "الأنْترْناسيُونالْ" ؟ قال: "لا هذا ولا ذاك، وإنّما قصدي كان نزل الْـ"بَالم بيتشْ"، وطلب منها أن تعطي علَفا للنّاقة.
في الغد، ذهب امرؤ القيس لـمقابلة ملك القُسطنطينيّة. وجد أمام القصر طابورا( ) طويلا من الـمترقّبين. أراد أن يتخطّاهم فزجره حارس وطلب منه أن يقف مع الواقفين. قال إنّه أمير وإنّه لا يجوز له الوقوف مع الرّعاع. فقال الحارس: "سيّدي أنت في بلد ديمقراطيّ، لا فرق فيه بين عبد وأمير". فكّر امرؤ القيس في سيفه وفي تأديب هذا الرّجل، لكنّه أرجأ الأمر قائلا إنّه غريب وإنّ هذا الحارس سيندم حين يعرف من هو. ووقف مع الواقفين إلى أن انتصف النّهار، ولـم يصل دوره، فطلب منهم عون الأمن مغادرة الـمكان والعودة في يوم آخر.
رجع الشّاعر إلى النّزل وأعطى لصرّاف البنك خمس ليرات ذهبيّة فأبدلها بليرات تركيّة ودولارات أمريكيّة، وذهب إلى غرفته. استحمّ وطلب غداءه بواسطة الهاتف الرّاقد بجانب سريره. جاءته مضيّفة بالغداء إلى سريره وسألته إن كان يريد أشياء أخرى. سألها إن كانت تعرف قَيْنة ابن الرّومي( ) فقالت له إنّها أختها، وبدأت تغنّي، فأطربه صوتها حتّى إنّه طلب منها أن تغنّي له بعض الألحان التي وضعها الأخَوَان "رحباني" وغنّتها "فيروز"، وغنّت لفيروز فأجادت وأمتعته فطلب منها أن تعود بعد القيلولة. قالت: "حاضر أفندم" وخرجت.
ونام كما لم ينـم من قبـل !
وفي الغد، ذهب مبكّرا قبل أذان الفجر. ركب "تاكسي"، وقصد قصر الحكومة. وكالعادة كان الطّابور( ) طويلا. وقال إنّه أمير، وقال له الحارس: "هنـا في القسطنطينيّة لا فرق عندنا بين أمير وغفير( )". فوقف مع الواقفين. وأطردهم البوليس عند منتصف النّهار.
في اليوم الثّالث، لم ينم. سمع نشرة الأخبار الـمسائيّة. سمع الـمذيع يحكي عن عاصفة( ) وصحراء وفرسان تُحشد وصواريخ وقنابل نوويّة والأمم الـمتّحدة وقبائل مُضر وعدنان وقحطان( ). ولم يفهم شيئا، قال هذا أمر لا يعنيني، وذهب إلى القصر. وجد الطّابور كما في الأيّام الخالية فأعطى رشوة إلى الشّرطيّ الـمكلّف بالحراسة والنّظام فوعده خيرا. قال له: "عد في الغد على راحتك".
ذهب امرؤ القيس إلى النّزل، سهر في "الديسْكُوتاك"( ) وراقص القينة أخت صاحبة ابن الرّومي، وشرب "الويسكي" و"الرّيكار" إلى أن طلع النّهار.
حين وصل في الغد أمام قصر الحكومة استقبله الشّرطيّ هاشّا باشّا، وطلب من الحاجب أن يدخله على مولانا السّلطان. ومن باب إلى باب ومن حاجب إلى حاجب وصل امرؤ القيس إلى قاعة اجتماعات حكومة مولانا القيصر. وقف "بوستانيوس"( ) إجلالا للأمير العربيّ وسأله عن أبيه وعن أحوال مملكة "كِندة" فقال له: "أبي أعطاك عمرَه، وأحوالُ الـمملكة من سيّء إلى أسوإ". وحكى له كيف جاءه النّعي وهو في مجلس شراب فقال: "اليوم خمر وغدا أمر". وها هو الغد قد وصل، وها هو يعرض أمرَه.
قال: "سيّدي! إنّما جئتُ طامعا في معونة لأستعيد عرش أجدادي، ولك منّي حين أستردّه نصف منتوج الأرض من القمح والشّعير ونصف غلال الأشجار، التّفّاح والرّمّان والتّين والزّيتون والأناناس واللّيمون والـموز والخوخ والكُمثرى، وما حوَت الأرض في باطنها من الذّهب والحديد والرّصاص والبترول والغاز الطّبيعيّ، وألف أَمَة( )، وسأدفع أجور الجند بالدّولار الأمريكيّ".
لم يردّ قيصر اسطنبول في الحين، وإنما طلب مشورة مجلس الوزراء الذي سيُعقد بعد أسبوع، مباشرة بعد صلاة الجمعة. قال للأمير العربيّ: "هكذا هي الدّيموقراطيّة يا أخي، فأنا لا أستطيع الإفتاء في شيء قبل مشورة المجلس وإقرار النّوّاب لتلك الفتوى ثمّ صدورها في الرّائد الرّسميّ لدولتنا الـموقّرة". وسأله عن مقرّ إقامته فقال: "نزل "الـميريديان". هزّ الامبراطور رأسه هزّا خفيفا وقال لحاجبه: "اِعتنِ بالضّيف العربيّ! لعلّ اللّه يجعلها غمامة !"
حين خرج امرؤ القيس طلب السّلطان مَشُورة وزير الـميمنة الذي لا يبخل في العادة على مولاه بالنّصح فقال:
"سيّدي! كما تعرف، حالنا هذه الأيّام في سوء، ودولتُنا في حرب مع الفرس، وهجمات حزب العمّال الكردستانيّ تكاثرت، ولم يفلّ مع الثّوّار الحصار والتّجويع. أرى سيّدي أن تماطل هذا الأمير حتّى ترى فيه رأيك".
وطلب رأي وزير الـمَيْسَرة فدافع بقوّة على إعطاء الـمعونة للأمير حتّى يستردّ عرض أجداده وحتّى يكون عونا لـمولانا السّلطان في ذلك الجزء من الأرض، خاصّة بعد أن وقع اكتشاف البترول في صحرائه.
ودعا السّلطان مجلس النّـوّاب للتّصويت على اقتراح إرسال قوّة مع امرئ القيس، فتعادل الفريقان، ولم يَحسم السّلطان الأمر لأنّه ككلّ سلاطين الدّنيا ديموقراطيّ بطبعه. ووقع تأجيل البتّ في الـموضوع إلى جلسة قادمة. قال السّلطان: "... حتّى يختمر الـموضوع أكثر في أذهانكم".
ومرّت الأسابيع تَـتْرَى( )، ولم يحسم مجلس الوزراء أمره. كان فريق الصّقور وفريق الحمائم( ) يتعادلان في كلّ مرّة إلى أن ضجر السّلطان فطلب مشورة درويش باشا كاهن الامبراطوريّة، الذي طلب منه أسبوعا للتّفكير والبحث عن أَصْوب السبل حتّى يبرّ السّلطان بوعده للأمير العربيّ الذي قال له أوّل يوم التقاه: "لعلّ الله يجعلها غمامة !"
سأل درويش باشا أعوانه عن امرئ القيس فذهبوا يبحثون عنه. قالوا بما أنّه أمير فسيُسلّي نفسه بزيارة الـمتاحف وقاعات العروض الخاصّة باللّوحات الفنّيّة والـمسارح والـمواقع الأثريّة وقاعات السّينما.
بحثوا في تلك الأماكن فما وجدوا له أثرا.
قالوا ربّما ذهب في زيارة للمدن الدّاخليّة في الـمملكة. وترقّبوا عودته. ولم يَعُدْ. ذهبوا إلى كلّ مكان ظنّوا أنّه يخطر على بال الأمير، ولكن كان ظنّهم في كلّ مرّة يخيب.
وحين يئسوا من العثور عليه، قال لهم الـمفتّش الـمتربّص درويش أفندي: "عندي فكرة! لـماذا لا نزور "الكازينوهات" وبيوت اللّيل والحانات وقاعات الـرّقص ؟"
ردّوا بصوت واحد: "فكرة صائبة! كيف غابت عنّا كلّ هذه الـمدّة ؟".
وفي غمضة عين تدرّج درويش أفندي إلى رتبة باي ووقع تكليفه بالبحث عن الـملك الضّليل.
زار درويش باي تلك اللّيلة كلّ الأنزال الفاخرة. وجلس في قاعات الرّقص. بحث بعينيه التي لا تكلّ عن امرئ القيس فوجده يراقص القينة أخت صاحبة ابن الرّومي. كانا يرقصان على أنغام "الرّوك اند رول"( ). تريّث حتّى عاد الهدوء إلى الـمرقص. وذهب الشّاعر إلى طاولته الـمنصوبة في ركن قَصِيٍّ من القاعة فحيّاه قائلا:
"سيّدي الأمير ! أريدك في حاجة أكيدة، فأنا مبعوث مولانا السّلطان !"
قال امرؤ القيس: "السّلطان ! أيّ سلطان ؟"
قال درويش باي: "سلطان البرّيْن وخاقان البحريْن، مولانا الـمعظّم صاحب القسطنطينيّة".
قال امرؤ القيس: "وماذا يريد منّي ؟"
ردّ الدّرويش: "يريدك في أمر يخصّ مملكة كندة".
قال امرؤ القيس: "قل له لقد طويت صَفْحًا( ) عن ذلك الـموضوع". ثمّ تدارك وهو يضحك ويرفس الأرض برجليه:
ـ "قل للسّلطان أن ينصّبني ملكا على حانات اسطنبول".
وأصابت البهتة درويش باي.
وعادت الـموسيقى إلى العزف، فقام الأمير إلى الرّكح تتبعه القينة الرّاقصة.
ولم يقل وداعا لدرويش باي !
الهوامش:
الهامش الأوّل:
"... ولَمَّا تولّى عرش السّاسانيّين كسرى أنوشروان بن قُباذ سنة 531 م أرجع إلى اللّخميّين نفوذهم وأعاد الـمنذر إلى عرش الحيرة، ففرّ الحارث الكنديّ هاربا بذَوِيه فطارده الـمنذر حتّى قتله وجعل يدسّ الدّسائس لأولاده فقُتل سلمة وشُرحبيل، وتنكّر بنو أسد لحجر والد شاعرنا، وأمسكوا عن دفع الأتاوة( ) له فحاربهم وأعمل في رقابهم السّيف، وحبس أشرافهم حتّى شفع فيهم شاعرهم عبيد بن الأبرص فعفا عنهم، ولكنّهم عادوا إلى التَّـمـرّد حتّى قتلوه، فانقرضت بموته دوله نشطت إلى مناظرة الحيرة وإلى منازعتها البقاء. وهبّ امرؤ القيس بن حجر يحاول دعم ذلك العرش الـمنهار واسترجاع جانب من ميراثه الضّائع، فأخفقت مساعيه".
تاريخ الأدب العربيّ
حنّا الفاخوري
الهامش الثّاني:
مات امرؤ القيس بسكتة دماغيّة. وكان يعبّ من قارورة "ويسكي". حين أحسّ بصداع شديد، أمسك رأسه بيديه وجلس على الأرض. مات وهو يردّد: "ضيّعني أبي صغيرا وحمّلني دمه كبيرا". ثمّ أسلم الرّوح فدُفن في مقابر الغرباء خارج أسوار مدينة اسطنبول. وقبرُه معروف فيها يزوره السّيّاح العرب في هذه الأيّام.
ـ وماذا عن: "أجارتنا إنّ الـمزار قريب( )...؟
ـ تلك حكاية من وضع حمّاد الرّاوية، نسج الخيال الشّعبيّ حولها أساطير كانت تُروى للملوك والأمراء للعبرة.
وقد أنكرها النّقّاد.
الهامش الثّالث:
ذهب الرّجل الذي نصّب نفسه ملكا على كندة بعد مقتل حجر والد شاعرنا إلى السّموْأل، وطلب منه أن يردّ له الدّروع والسّيوف والخيول التي تركها عنده امرؤ القيس قبل ذهابه إلى القسطنطينيّة.
امتنع السّموْأل في حصنه ورفض ردّ الدّروع إلى الـملك الجديد. وصادف أن كان ولَدُه خارج الحصن فأسَره الجند، وهدّد الـملك بقتله إن لم يُعطَ الدّروع.
ولكنّ السّموْأل أصرّ على رأيه مضحّيًا بابنه.
قال له الـملك: إنّ امرئَ القيس مات في حانة ولن ينفعك في شيء، وهذا ولدك بين يديّ فماذا تراك صانعا بالدّروع بعد قتله ؟
قال السّموْأل إنّه عاهد الشّاعر وإنّه لن يخلف وعده وإنّ التّاريخ سيُخلّد ذكره وسيُضرب الـمثل بوفائه.
وهمّ الـملك بذبح الولد. ساعتها أطلّت امرأة من أعلى أبراج السّور قائلة إنّها زوجة السّموأل وطلبت مفاوضة ملك كندة.
ذهب كبير الـمفاوضين إلى داخل الحصن فأعطته الدّروع وطلبت منه أن يُطلق سراح الغلام على أن يُذبح في الغد تحت السّور عبدٌ ويَدَّعِي الـملك أنّه ذبح ابن السّموأل فيُخدعُ التّاريخُ ويحتفظ زوجُها بمروءته.
وقد انطلت الخديعة على الـتَّـاريخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى