شهادات خاصة نقوس المهدي - السي محمد داني... أقوى من الفقد...

"يحيا الكاتب و يموت أو يمارس البقاء على توقيعه، ما يأتي بعد ذلك لا يعنيه، الخلود يعود دائما إلى الأموات"
عبدالكبير الخطيبي


1757946050641.png



بعض الصداقات تمر كطيف عابر، تنمحي تباعا، فتسقط في بئر التجاهل وربما النسيان، بينما الطيبون، الصادقون، الرائعون، الأوفياء، الأمناء على تبر المودات لا يبرحون الذاكرة، يشيخون فيها، ويصرون على الخلود، مهما امعنا في الزمن، ومهما طرا عليها من صدأ أو تلف، يصنعون عالما من الألفة والوداد، ينثرون الذر الثمين، يشيعون البهاء في أفياء حياتنا، اولئك الذين لم يعيشوا لأنفسهم، ينقشون أسماءهم في الوجدان، ويمعنون في الحضور، حتى في رحيلهم يبقى الاثر مخلفا غصات في القلوب وفراغا في الأفئدة، برغم مقولة الشاعر ناظم حكمت بأن (الموتى لا يشغلون أكثر من سنة، ناس القرن العشرين). وبرغم ما تعكسه المقولة من معان عن واقع الحال، الا إن السي محمد داني له في القلوب منازل، فالمحبة والصداقة الحقة منبعها الكبد وليس القلب. كما يعتقد البعض، وهو الأديب، الامين، الصدوق المخلص في الصداقات، الثابت على العهد، وهو العفوي التلقائي البسيط في الحياة، الصادق في المعاملات، اللطيف في السلوكات..
هكذا عهدنا السي محمد داني منذ تعرفت عليه في شق العشرية الأولى الثاني من القرن الحالي، منذ أن جمعنا منتدى مطر (بيت المبدع العربي)، ولاحقا بمنصة أنطولوجيا السرد العربي. إنسان كبير القلب، حاز كل صفات المحبة والمعزة، راسخ قي المعرفة، عابر للأجناس الأدبية، لم تغرهِ الشهرة، ولم بلهث وراء مجد، ناذرا حياته للبحث عن الحقيقة، جذوةٌ من ذكاء، وظرف، وتواضع حد الحياء، لطف وكرم، وكياسة وأدب في الحديث الخافت حد الهمس، مقتصد في الكلام حد الزهد، خلال وشمائل وأخلاق ومعاملات لا يمكن إلا أن تفرض عليك احترام الرجل، وتانس إليه بكامل الثقة.
استطاع السي محمد داني بثقافته الموسوعية العصية عن التجنيس، طرق كافة الالوان الأدبية من السرد القصصي والروائي، الى الشعر، والزجل، وأدب الطفل، وأدب السيرة، وأدب المناجم، والترسل، والترجمة، والديداكتيك، والنقد الأدبي، وتمكن من الغوص بمهارة في شتى ابداعات الأدباء من مختلف الحساسيات، مراكما إرثا أدبيا هائلا، يناهز الستين مؤلفا من مختلف الألوان التعبيرية. موثرا الإقامة في الظل، من دون صخب، ومن دون ان يظفر بأي اعتراف أو تكريم.. غير مبال بهذا النكران المبين.
هذا الريبرتوار الإبداعي العريض وهذا الجهد الأحفوري الوفير في شتى جماليات السرد، وأعمق التجارب الابداعية يشهد على أهمية الرجل، وأمانته في البحث، وجدية مقاصده حنى وهو يقاسي من وطأة المرض، ومن شدة تبرمه من الواقع المزري الذي آل إليه التعليم ببلادنا، والذي لا يخلو من ثغرات بنيوية، ولا يبشر بخير، معتكفا على مشاطرة المتأدبين همومهم الابداعية، مباغثا إياهم بما أنجزت يداه، مخلصا لأمانة رسالة الأدب، مزاوجا بين نضاله في الكتابة والبحث والتنقيب، ومشاركته الفعلية في الندوات وتنقله برغم المرض والسنين.حتى حدود أيامه الأخيرة.
السي محمد داني القريب كما يعني اسمه، عاش مكتنزا بمحبة الناس، ومن يعرفه لا شك سيلاحظ ارتباطه بشقيقه المحامي السي عبدالله وكيف كان يمثل له أكثر من شقيق، وأكبر من رمز، ونموذجا في الإخاء، وما خلف رحيله في أعماقه من حرقة وآلام، لم يستطع إخفاءها، يليه فقدان والدته الحنون التي كان مرتبطا بها إلى أي مدى، زد على ذلك الجرح الغائر الذي خلفه رحيل زوجته، والذي زاد الطين بلة، خبطات عاطفية فارفة كان لها الوقع البليغ في حياته. وساهمت في إضعاف قلبه المرهف بداية بتاريخ 11/01/2021 حين فاجأته نوبة قلبية حادة، خضع على إثرها لعملية جراجية دقيقة، سارعنا وقتئذ لمواساته، والدعاء له بالشفاء، ليخذله النبض كرة ثانية بتاريخ 06-09 - 2025، لكن هازم اللذات ومفرق الجماعات كان أسرع، ليختار من بين الناس اخيرهم، ويتقبله في الصالحين.

السي محمد "محال واش ينساك البال"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى